تناولنا في المقال السابق جوانب من أدوات تحسين الإدارة الاقتصادية في مصر. وفي هذا المقال نتطرق إلي جوانب أخري لمزيد من توضيح الصورة علي الرغم من خيبة الامل التي نشعر بها كمصريين نتيجة فقدان مصر الجزء الاعظم من احتياطياتها من النقد الاجنبي بعد استنزاف جزء كبير منه في الدفاع عن قضية معروف أنها قضية خاسرة وهي قضية سعر صرف الجنيه المصري, وهو أمر يسأل فيه وعنه من يدير تلك الاحتياطيات, إلا ان واجبنا الوطني أن نتدارس كيف يمكن أن تخرج مصر من الاثر الركودي لقرار تخفيض قيمة الجنيه المصري والاثر المالي الأسوأ لتخفيض سعر صرف الجنيه المصري بفعل البنك المركزي المصري بأقل خسائر ممكنة. بعد أن دافعنا عن الاستقرار المفتعل لقيمة الجنيه المصري طيلة عامين من عمر مصر لآخر دولار في خزائننا تقريبا, وبعد أن أصبح التخفيض واقعا لا يمكن الهروب منه, لا يمكن أن نقف لنبكي علي اللبن المسكوب, ولكن علينا أن نحاول أن نتدارك بعض الآثار الجانبية لتخفيض قيمة الجنيه المصري بفعل الآلية العبقرية التي استحدثت لإدارة سوق الصرف الاجنبي. ولا يخفي علي أحد أن الاعلان عن تلك الآلية كان في رأيي غريبا للدرجة التي لم يراع فيها خصوصية هذه السوق وحساسيتها, وذلك بالافصاح مقدما عن حجم وقيمة التدخل وتوقيته للمتعاملين في السوق وغيرهم, وهو أمر لم نسمع عنه في سلوكيات البنوك المركزية من قبل. المهم أن القرار قد اصبح واقعا, وكما أشفق علي جنيهنا العزيز مما اعتراه من قلة قيمة, أشفق علي من يقوم بادارة مالية الدولة بعد قرار تخفيض سعر صرف الجنيه المصري, فمسكين من يتصدي لإدارة مالية الدولة, وحزين من يحمي خزينة الدولة لما سوف يواجهه من مشكلات. ولنتناول الآثار المتوقعة من جراء تخفيض القيمة الخارجية للجنيه لعلنا نجد فيها بعض العلاج. فخفض قيمة الجنيه سيزيد من معدلات ارتفاع الاسعار المحلية سواء بالأثر المباشر بالنسبة للسلع المستوردة أو بأثر المحاكاة للسلع المحلية بسبب ارتفاع سعر الدولار, ومن ثم ستزيد قيمة وتكلفة كل المشاريع العامة المدرج لها اعتمادات في الموازنة العامة للدولة. وخفض سعر صرف الجنيه المصري سيزيد من عبء الدعم السلعي علي الخزانة العامة للدولة المترتب علي استيراد القمح والسكر والارز والزيت وباقي السلع التموينية, وهو ما سيترتب عليه مزيد من مخصصات الدعم إذا ما رغبت الدولة في الاستمرار في فرض مظلة حمايتها الوقائية علي ابنائها من الفقراء وأصحاب الدخل المحدود من المصريين. وخفض سعر صرف الجنيه المصري سيترتب عليه حتما أن أعباء خدمة الدين الخارجي علي الموازنة العامة للدولة سوف تزداد عند سداد فوائد وأقساط تلك الديون للخارج. وسيؤدي خفض سعر صرف الجنيه المصري الي زيادة أعباء البعثات الخارجية المصرية واعباء استيراد الاسلحة والذخائر لأجهزة الامن الداخلي ولجيشنا الباسل, وكلها تنعكس سلبا في شكل زيادة الانفاق العام. وكما ترون فإن العينة سالفة الذكر معناها زيادة أعباء الموازنة العامة للدولة في وقت نبحث فيه بصعوبة عن أي موارد غير تضخمية الأثر( انظر مقالنا السابق), فما الذي يمكن للإدارة الاقتصادية الحالية عمله للتخفيف من العبء المالي المتوقع من جراء تخفيض سعر الصرف؟ الثوابت التي تواجه الإدارة الاقتصادية الحالية تتمثل في أنه يجب ألا نصل الي حافة الهاوية, ولابد من الابتعاد عنها قدر المستطاع. فلا إنفاق عام لا يكون من ورائه عائد مباشر او غير مباشر علي المواطن, فلابد ان يكون هناك مردود لكل جنيه ينفق, فلا إنفاق عام لتمويل الترفيات والرفاهيات, ولا تبذير في اي إنفاق. من هذا المنطلق أعرض للأفكار الآتية التي قد تكون نواة لبرنامج إصلاح مالي تتبناه الادارة الاقتصادية: 1-لابد ولا مناص من معالجة جذرية لمنظومة الدعم السلعي والسعري لضمان وصول الدعم للمستحق فعلا له, سواء كان هذا الدعم للغذاء او للكساء او للوقود او للصحة او للتعليم او لغير ذلك, وليكن هناك تدرج معلن لإلغاء أنواع محددة من الدعم السلعي والخدمات المجانية خلال5 سنوات مثلا تعلن في برنامج وطني هدفه ايصال الدعم لمستحقيه. وأن يعلن صراحة وضمن البرنامج الاقتصادي أن اعتبارات العدالة تستدعي عدم التعيين الجديد بالحكومة, ولا تستحدث اي زيادات في الاجور الحكومية لمدة محددة معلنة للجميع سلفا. 2- لا بد من إعادة تقدير احتياجات كل قطاع في الدولة من أبواب الموازنة العامة للدولة, ليس بناء علي ما سبق انفاقه وتقدير معدل زيادة سنوي عليه, ولكن بتقدير المبالغ التي تحتاجها الجهة طالبة التمويل بناء علي تقديرات واقعية ومن جهات محايدة واولويات محددة لصياغة ميزانية الدولة. وإن كان ولا بد من التقشف وضبط الانفاق العام, لماذا لا تلجأ الحكومة اليه ومن هذا المنطلق الي ايقاف العمل بالميزانية الحالية واعداد ميزانية جديدة مؤقتة للضرورات فقط. 3- تزايد عبء المستلزمات السلعية والخدمية مستقبلا بسبب ارتفاع الاسعار لابد وان يستتبعه ترشيد لأعباء تلك المستلزمات من مصروفات مياه وكهرباء وغاز ومواد واوراق وصحف وغيرها من المصروفات اليومية في المصالح الحكومية والمؤسسات العامة والهيئات الخدمية. ومن هنا يمكن ان يكون التقشف فعالا ويعطي انطباعا للجماهير بأن الادارة الاقتصادية ذات توجهات رصينة وذات مغزي. 4- ارتفاع عبء خدمة الدين العام المحلي لا بد وأن يستتبعه توجه عام يتم بمقتضاه العمل علي خفض اسعار الفائدة علي اقتراض الحكومة سواء من السوق او من البنوك المصرية, ومثل هذا التوجه لا بد ان يتم من خلال الاتفاق بين الحكومة والبنك المركزي المصري ليتولي مجلس إدارة الاخير خفض الحدين الادني والاقصي للكوريدور حيث أن استهداف التضخم ليس ذا اولوية في حالات الركود والرغبة في حفز التنمية في البلاد. وما ستوفره وزارة المالية من جراء خفض اسعار الفائدة علي أذون وسندات الخزانة العامة لا بد وان يوجه لتمويل المشاريع الإنمائية في البنية التحتية التي علي الدولة ان تقوم بعملية استكمالها او البدء في الجديد منها بشرط أن تؤتي تلك المشاريع أكلها في وقت قريب. ولا يمكن أن نتخيل أو أن يتخيل أحد أن ما سبق هو علاج كامل متكامل لأثر خفض سعر صرف الجنيه المصري علي الموازنة العامة للدولة, فمن الطبيعي ان يكون لقرار التخفيض آثار طويلة الأمد ومتعدية, لكن لا بد أن نحاول الابتعاد عن الهاوية.. قدر المستطاع.