«التقشف» أو «الترشيد» الكلمة لا تهم كثيرا بل الأهم للمواطن المصرى هو إلى أى مدى ستدرك حكومة د. الجنزورى النجاح المأمول فى سياستها الرامية إلى توفير 20 مليار جنيه لتوظيفها فى تمويل النفقات التى طرأت للاستجابة لمطالب الشارع فى أعقاب ثورة 25 يناير، وبالتالى «فرملة» عجز الموازنة عند مستوى 134 مليار جنيه الموجودة فى الموازنة عند البدء فى تطبيقها بداية العام المالى 2011 / 2012.. فهل حقا تصدق الرؤية وتنجح الحكومة فى «فرملة» زيادة عجز الموازنة بإعلانها حالة التقشف؟ ولماذا يتخوف خبراء الاقتصاد من هذه المساعى الحكومية؟ وماذا عن الإجراءات الفعلية التى اتخذتها الحكومة للترشيد بما لا يخل بوعودها الخاصة بعدم المساس بمحدودى الدخل؟بدوره أصدر ممتاز السعيد وزير المالية القواعد والتعليمات التنفيذية للمرسوم بقانون بتعديل قانون ربط الموازنة العامة للدولة الذى يستهدف ترشيد الإنفاق العام فى موازنة السنة المالية 2011/2012، لافتا إلى أن القواعد التنفيذية والتى تضمنها المنشور رقم 1 لسنة 2012، والذى أرسل لكل الوزارات ووحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة الخدمية تضمنت إعادة توزيع اعتمادات المكافآت للعاملين بالجهاز الإدارى للدولة فى ضوء ما قرره المرسوم من تخفيض تلك المكافات بنسبة 10%. وقال السعيد إن هذه القواعد تنص على ألا يمس هذا التخفيض المتطلبات الأساسية للعاملين بالجهاز الإدارى للدولة، فضلا عن قصر صرف المكافآت المعتمدة بالخطة الاستثمارية ببند أبحاث ودراسات ونفقات إيرادية على العاملين الموسميين المتعاقد معهم مع عدم الصرف من هذه المخصصات للعاملين الدائمين المنتدبين، وذلك حتى لا تصبح تلك المخصصات بابا خلفيا لإثابة الدائمين بنسب تخالف القانون. وأضاف أنه بالنسبة لإعادة توزيع اعتمادات الباب الثانى بالموازنة والخاص بشراء السلع والخدمات، تم تخفيض الإنفاق فى هذا الباب بنسبة 3%، على أن تتم مراعاة الاحتياجات الضرورية واللازمة لتشغيل الوحدات الإدارية، فضلا على منح الجهات الإدارية الحق فى انتقاء البنود وأنواع السلع والخدمات، التى يشملها الخفض بحيث يمكنها تخفيض الإنفاق من بعض الأنواع بأكثر من 3%، ولبعض الأنواع الأخرى بأقل من هذه النسبة بشرط الالتزام فى الإجمالى بنسبة ال 3%. وبالنسبة للأبواب الثالث والرابع والخامس والخاصة بالفوائد والدعم والمنح والمزايا الاجتماعية والمصروفات الأخرى، أكد وزير المالية أن قطاعى الموازنة العامة والتمويل بالوزارة تقوما باتخاذ إجراءات الترشيد الخاصة بها مع عدم المساس بأية متطلبات لمحدودى الدخل، مشيرا إلى أن القواعد أكدت أيضا على ضرورة الالتزام بالقوانين واللوائح عند صرف أى اعتمادات مدرجة باستخدامات الموازنة العامة وعدم تجاوز الصرف عن تلك الاعتمادات أو الارتباط بأية مصروفات لا يقابلها اعتماد مخصص. وشدد على عدم إصدار أى قرارات من شأنها ترتيب أعباء مالية على الخزانة العامة قبل الرجوع أولا لوزارة المالية لتدبير المخصصات المالية اللازمة، وذلك تطبيقا لأحكام المادة 27 من قانون الموازنة العامة، موضحا أنه طالب كافة الجهات العامة بضرورة إعادة ترتيب أولويات الإنفاق فى الوقت الراهن فى ضوء دقة موقف الاحتياطيات العامة اللازمة لمواجهة عجز الموازنة. الصناديق الخاصة « كافة الجهات التى لديها تلك الحسابات والصناديق الخاصة» أصبحت مطالبة وفقا لهذه القواعد والتعليمات بإخطار وزارة المالية بحجم ما يمكنها تحويله إلى الخزانة العامة من أرصدة من حساباتها بالبنك المركزى طبقا لرصيد تلك الحسابات فى 30 نوفمبر الماضى، على أن يعد ذلك قرضا حسنا من تلك الجهات يرد بدون فوائد بعد 3 سنوات وفترة سماح عامين. وقال ممتاز السعيد إنه نظرا لتأثر الأداء الاقتصادى لمصر بالوقفات والمظاهرات الفئوية فانه طالب الجهات العامة بحث العاملين بها على استمرار العمل دون توقف وسلوك الطرق الشرعية فى طرح مطالبهم، ومراعاة الاستجابة للمشروع من مطالبهم فى ضوء ما يتوافر أو يتولد من موارد مالية حقيقية لتلك الجهات العامة ودون ترتيب أى أعباء على الخزانة العامة قد تثقل من كاهلها فى الفترة الحالية، وأنه طالب الهيئات الاقتصادية بالالتزام بتوريد فوائضها المالية وحصة الدولة فى أرباحها الى الخزانة العامة فى المواعيد المحددة لذلك، بجانب سداد جميع المتأخرات المستحقة عليها قبل نهاية العام المالى الحالى. سد عجز الموازنة ومن جانبه، أكد خالد نوفل رئيس هيئة الخدمات الحكومية أنه فى سبيل السعى الحكومة لترشيد الإنفاق تقوم الهيئة الآن بأعمال حصر العقارات الإدارية المملوكة للدولة وغير المستغلة للتصرف فيها أو إعادة استغلاله فى نشاط آخر أو تأجيرها للحصول على موارد لسد العجز فى موازنة الجهة الإدارية صاحبة العقار بدلا من إضافة عبء تمويلها على موازنة الدولة. وأشار إلى أنه فى هذا الإطار تم التنبيه على كافة الوزراء والمحافظين بضرورة الإسراع فى اتخاذ الإجراءات اللازمة للاقتصاد فى مأموريات السفر للخارج وتقليل عدد المرافقين فضلا عن ترشيد مكاتب التمثيل فى الخارج، موضحا أن التعليمات تحظر على أجهزة الدولة شراء كافة المركبات، إلا فى الحالات الملحة التى تلتزم فيها هذه الجهات بأن يتم ذلك عن طريق الاستبدال وليس الزيادة. ولفت نوفل إلى أنه فى سبيل تنفيذ خطة للتقشف الحكومى تم حظر شراء أجهزة مكتبية أو أثاث إلا فى حدود ما هو مدرج فى الموازنة، ومنع استخدام السيارات الملاكى والسيارات ذات الكابينة الواحدة كخطوط لنقل العاملين، وقصر طلب ترخيص السيارات الحكومية بلوحات «ملاكى» على حالات بعينها، وحظر التقدم بطلبات لإقامة مبان إدارية جديدة داخل المدن. مسألة مهمة «الترشيد فى الإنفاق العام» فى رأى د. عبدالله شحاتة أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة أمر ينطوى على مخاطر جمة لوجود علاقة بين حجم الإنفاق العام ومعدلات النمو الاقتصادية، فضلا عن أن الأدبيات الاقتصادية تتفق على ألا يقل الإنفاق عن 30% من حجم الطلب الكلى، مؤكدا أن الأثر الناتج عن تخفيض الإنفاق يختلف وفقا للبند الذى شهد التراجع، فالأثر الناتج عن التغير فى دعم الصادرات يختلف فى تأثيره على التغير فى حجم التحويلات الأخرى لقطاع التعليم أو الصحة أو الناتج عن التغير فى دعم منتجات الطاقة. وأضاف أن حجم الإنفاق العام لابد أن يتحدد من خلال عوامل طبيعية كزيادة السكان وزيادة مستويات الدخول، إلا أنه للعوامل السياسية وطبيعة الفئة الحاكمة تأثير لا يمكن تجاهله عند مناقشة محددات حجم الإنفاق العام، مؤكدا أن هذا الإنفاق يتأثر فى حجمه بنوعية صاحب القرار والانتخابات العامة فى النظم الديمقراطية، وكذلك الضغوط التى يمارسها أصحاب المصالح، وأن حجم وهيكل الإنفاق العام لا يعبر عن الأولويات بقدر ما يعبر عن الاحتياجات القائمة. وأوضح د. شحاتة أن الإنفاق الحكومى يمثل الدعامة الأساسية لدفع النمو فى حالة التعرض للأزمات المالية، لذلك لجأت البلدان إلى استخدام العديد من الحزم التحفيزية لحفز النمو الاقتصادى للخروج من مأزق الأزمات المالية التى يتعرض لها الاقتصاد العالمى مؤخرا، فضلا عن أن الإنفاق العام يلعب دوراً ملموسا فى تحقيق الأهداف المتعلقة بالنمو مع محاولة توزيع مكاسب هذا النمو على طبقات المجتمع المختلفة، وذلك لتحقيق الارتفاع فى مستويات المعيشة والرفاهة للمجتمع بجميع فئاته. وأكد أن الخبرة الدولية تذهب إلى أنه على الرغم من أولوية مبدأ توازن الموازنة إلا أنه فى أحيان كثيرة تكون الأولوية لحفز الاقتصاد لتجاوز مرحلة التباطؤ أو الركود، وهو ما يتطلب زيادة الإنفاق فى مجالات بعينها، شريطة أن يقوم على حفز الأنشطة الاقتصادية الداعمة للنمو، ومراعاة البعد الاجتماعى وعدالة التوزيع، وذلك بالإنفاق فى مجالات الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى بما يكفل إتاحتها للمجتمع بجميع طبقاته لافتا إلى أن هيكل الإنفاق العام لا يعبر عن الأولويات بقدر ما يعبر عن الاحتياجات القائمة. أمر ممكن فيما أكد د. محمود عبد الحى مستشار معهد التخطيط القومى الأسبق أن تنفيذ خطة لترشيد النفقات وزيادة الإيرادات أمر من الممكن إدراكه لكن ذلك يستوجب الجدية من الحكومة، لأن فرص الترشيد والتوفير موجودة ومتعددة، تحديدا فيما يخص مواد التشغيل مثل استخدام الورق والأظرف والأدوات الكتابية بشكل عام، موضحا أن توفير جزء كبير من النفقات المخصصة لأدوات النظافة والصيانة والكهرباء والمياه أمر وارد، لإهمال ثقافة الصيانة. وأشار إلى أن الترشيد فى تلك البنود لن يوفر كل مبلغ عجز الموازنة، لكنه سيؤكد أن أموال الموازنة غير مهدرة، وأن «التقشف» فى الإنفاق الحكومى لابد أن يرتبط بخطة جادة لزيادة الإيرادات دون التأثير على أصحاب الدخول المنخفضة، مؤكدا أن ذلك قد يتحقق من خلال زيادة بسيطة لرسوم بعض الخدمات، كزيادة مصروفات المدارس 20 جنيها فى العام، وزيادة رسوم رخص السيارات 15%. وطالب د. عبدالحى بضرورة السعى الحكومى الجاد لمراجعة هيكل الواردات وذلك لوضع خطة لإحلال المنتج الوطنى محل المستورد لتحفيز الإنتاج وتوفير النقد الأجنبى، فإنه من الضرورى فى ظل هذه الظروف الحد من واردات السلع غير الضرورية لتوفير النقد الأجنبى لقطاعات الاستيراد، التى لا يمكن تخفيضها مثل السلع الغذائية الأساسية، لما يمكن أن يترتب على ذلك من وقف لتآكل الاحتياطى النقدى الأجنبى وزيادة معدلات التشغيل. خطة تحفيز وقالت د. منال متولى مدير مركز الدراسات الاقتصادية بجامعة القاهرة إن إدارة الأزمة الاقتصادية الحالية تستوجب من الحكومة أن تضع خطة محددة الملامح تستهدف دفع عجلة الاقتصاد للاستجابة للمطالب الثورة شريطة ألا يترتب على ذلك المزيد من عجز الموازنة وزيادة الدين، وهذا بدوره ينطوى على معضلة حقيقية، لأن دفع عجلة النمو تحتاج إلى زيادة فى الإنفاق الذى يعنى بدوره فى ظل محدودية الموارد زيادة فى عجز الموازنة وبالتالى زيادة الدين. وأضافت أن مواجهة هذه المعضلة يمكن حلها بأمر بسيط يقوم على الاستغلال الأمثل لمقدرات الاقتصاد المصرى، وهذا يعنى بدوره تحسين مناخ الاستثمار بما يسمح بزيادة الاستثمار الأجنبى فى مصر وهذا أمر يسير للغاية لأن الاقتصاد المصرى يتميز بميزات تنافسية تؤهله لكى يكون أكثر أسواق المنطقة جذبا للمستثمرين الأجانب شريطة عودة الأمن والاستقرار، فضلا عن ضرورة زيادة الاهتمام بمشروعات البنية الأساسية التى تحفز الاستثمار بشكل عام. وأكدت د. متولى أن الاقتراض أمر ليس شر فى المطلق لكن هو ضرورة فى بعض الحالات كالحالة التى تعيشها مصر الآن، لذلك لابد من البحث عن أنسب الصيغ للاقتراض، بمعنى أن يتم التباحث للوصول إلى أكثر الصيغ ملائمة للاقتصاد المصرى حاليا بما يترتب عليه دفع عجلة النمو بأقل تكلفة ممكنة، لافتة إلى أن صندوق النقد الدولى هو أكثر المؤسسات المالية قدرة على معاونة الاقتصاد الآن للخروج من كبوته الآنية، لذلك لابد من السعى للاستفادة من خدماته. تدابير مماثلة أما د. مختار الشريف الخبير الاقتصادى فقال إن إجراءات التقشف التى تعكف الحكومة حاليا على تنفيذها، والتى أصدر المجلس العسكرى بموجبها مرسوم بقانون بتعديل قانون ربط الموازنة العامة للدولة بترشيد الإنفاق العام فى موازنة السنة المالية 2011/2012، ثم قرار وزير المالية الخاص بالقواعد والتعليمات التنفيذية ما هى إلا تحصيل حاصل حتى لا تلام هذه الحكومة على التقصير أو إهمال هذا الإجراء. وأكد د. الشريف أن المواطن المصرى سبق حكومة د. الجنزورى بالفعل فى تنفيذ إجراءات تقشفية نتيجة زيادة الأسعار وارتفاع نسبة التضخم، وبالتالى انخفاض القوة الشرائية مما يساهم بدوره فى تعطيل حركة الإنتاج، لافتا إلى أن ميزانية الدولة يتم تقسيمها على ثلاثة قطاعات بنسبة الثلث لكل منها وهى الأجور وخدمة الدين العام، بالإضافة إلى الدعم، وبالتالى لابد أن يشمل التقشف ثلاثتها لتحقيق نتائج حقيقية وملموسة دون المساس بمصلحة المواطن بشكل كبير.