أود في البداية أن أوضح أن صاحب مصطلح تصفير الأزمات هو وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو الذي تولي منصب مستشار رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان وأبدع مؤلفه الشهير الذي يحمل عنوان العمق الاستراتيجي. ويرتكز علي فكرة أن تركيا كدولة إقليمية ترتبط بالعالم العربي والشرق الأوسط كما ترتبط بأوروبا ووسط آسيا لا يمكن أن تعيش دون تأثير وتأثر بجوارها الإقليمي المتسع, وأنها مدعوة إلي بداية جديدة في علاقاتها مع هذا الجوار الإقليمي انطلاقا من سياسة صفر أزمات أو تصفير الأزمات أي إقامة علاقات تتخلص من كل تراث أزماتها مع هذا الجوار وطرح سياسة تعاون وشراكة استراتيجية مكثفة معه. هذه السياسة نجحت أحيانا وتعثرت في أحيان أخري لأسباب بعضها يتعلق بتركيا نفسها ومشروعها الإقليمي وبعضها يتعلق بدول الجوار الإقليمي لتركيا وتباين المصالح والمشروعات, والآن أتصور أن أحمد داود أوغلو يجري مراجعة مكثفة لهذه السياسة علي ضوء تعثر علاقات بلاده مع حلفاء سابقين: إسرائيل وإيران وسوريا وربما العراق أيضا. تذكرت هذا كله وأنا أتابع خطاب الرئيس محمد مرسي يوم السبت الماضي ودعوته القوي السياسية المعارضة للانخراط في الحوار الوطني الذي يشرف عليه, بما يعنيه ذلك من قفز علي كل الأخطاء والتجاوزات التي حدثت طيلة الأشهر الستة الماضية دون مراجعة ودون استخلاص للدروس وما أدت إليه هذه الأخطاء والتجاوزات من أزمات. دعوة الرئيس هذه أقرب إلي أن تكون دعوة ل تصفير الأزمات, وهذه دعوة تبدو صعبة التحقيق في ظل تباعد الرؤي والمواقف بين الرئيس والقوي السياسية المعارضة في العديد من القضايا وبالذات القضايا الثلاث التالية: الثقة التي يعطيها الرئيس للدستور واعتبار يوم إقراره يوما تاريخيا مشهودا وتأكيده أن الاستفتاء جري في شفافية كاملة وتحت إشراف قضائي كامل ومراقبة الإعلام ومنظمات المجتمع المدني( خطاب26 ديسمبر2012), في حين أن المعارضة تعتقد غير ذلك وتري أن هذا الدستور وضع عن طريق جمعية تأسيسية غير متوازنة وأن التصويت علي مواد هذا الدستور داخل الجمعية جرت فبركته, كما أن الاستفتاء تعرض لتجاوزات هائلة جري القفز عليها, لكن الأهم أن التصويت في الاستفتاء لم يعكس شرعية حقيقية للدستور. فالذين شاركوا في الاستفتاء بلغ عددهم17 مليونا و58 ألفا و317 ناخبا بنسبة32.9% من إجمالي القوة الانتخابية التي تبلغ وفق تقديرات اللجنة العليا للانتخابات51 مليونا و919 ألفا و67 ناخبا. ولم يوافق علي مسودة الدستور غير10 ملايين و693 ألفا و911 ناخبا, وكان المفترض أن يعتبر الدستور موافقا عليه من الشعب إذا حصل علي نصف القوة الانتخابية+1 أي علي حوالي26 مليون صوت وهذا لم يحدث. والمادة60 من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ30 مارس2012 الذي أجريت الانتخابات وفقا له تنص علي طريقة احتساب نتيجة الاستفتاء علي الدستور وهي يعرض المشروع خلال خمسة عشر يوما من إعداده علي الشعب لاستفتائه في شأنه ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه, والمقصود بالشعب هنا وفقا لفهم معظم أساتذة القانون العام والقانون الدستوري- هو هيئة الناخبين والبالغ عددهم نحو52 مليونا, وموافقة هيئة الناخبين تكون بمعيار الأغلبية المطلقة أي ما يجاوز نصف العدد المذكور, أي ضرورة أن يكون مجموع الأصوات التي تقول نعم للدستور مساوية لأكثر من50% من عدد الأصوات الكلية لهيئة الناخبين( أي26 مليونا) وليس من عدد الأصوات الصحيحة التي شاركت في الاستفتاء حسب قرار اللجنة العليا للانتخابات. إن دعوة الرئيس كل الأحزاب والقوي السياسية مجددا إلي الحوار الوطني الذي يرعاه بنفسه جاءت غير مقترنة بمشروع سياسي للحوار ودون قضايا محددة تتعلق بالموقف من الدستور والموقف من إدارة الدولة كما أنها جاءت متزامنة مع الطلب الذي تقدم به النائب العام الجديد من وزير العدل بانتداب قاض للتحقيق في بلاغات تتهم عددا من رموز المعارضة والقضاء وهم الدكتور محمد البرادعي والأساتذة حمدين صباحي وعمرو موسي والفريق ضاحي خلفان قائد شرطة دبي والمستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة والمرشح الرئاسي السابق الفريق أحمد شفيق والمستشارة تهاني الجبالي بتهمة التآمر للانقلاب بالقوة علي الشرعية التي أرسي قواعدها الشعب المصري, وقيامهم بالتغرير بالبسطاء من الشعب للانقلاب علي الرئيس وهو ما يمثل جريمة خيانة عظمي, يحدث هذا في الوقت الذي يتجه فيه حزب الحرية والعدالة لتشكيل تحالف سياسي انتخابي يضم معظم فصائل تيار الإسلام السياسي ومن بينهم من يتلقي رسائل توجيه وإرشاد من أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة, وقريب فكريا من شقيق محمد الظواهري الموصوف بأنه زعيم السلفية الجهادية الذي أعلن رفضه للدستور الجديد باعتباره لا يطبق أحكام الإسلام الصحيح, ويجعل السيادة لغير الله, كما أنه يعتبر أن الديمقراطية أو سيادة الشعب شرك بالله وتأليه للشعب, ويري أن نظام الحكم الشرعي لا يسمح بتداول السلطة ولا بإظهار شعائر أهل الذمة ولا بالمساواة بين المسلمين وغيرهم ولا بين الرجل والمرأة, وهو أيضا من دعا في بيان حمل عنوان الأضواء الجلية لما في دستور الحكومة المصرية من أخطاء شرعية. هذا البيان تضمن دعوة لإجراء استفتاء شعبي بحرية علي نطاق المحافظات حول تطبيق الشريعة أو الدستور أي للاختيار بين الشريعة والدستور. الصورة علي هذا النحو تبدو شديدة التعقيد والبداية الحقيقية للإصلاح بل وللإنقاذ وتحقيق الاستقرار والرخاء الذي سيطالب به من قالوا نعم للدستور قبل من قالوا لا لن تكون عبر سياسة تصفير الأزمات ولكن عبر سياسة إدراك الأزمات واستخلاص دروسها وامتلاك العزيمة الصادقة للتأسيس لبداية جديدة عبر طرح الرئيس لمشروع سياسي للحوار الوطني يتضمن بالأساس أجندة للعمل تتضمن التعامل مع الدستور الجديد كدستور مؤقت وتعد لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور آخر يليق بمصر وثورتها, وتشكيل حكومة وحدة وطنية بكفاءات مهنية عالية تكون مسئولة عن إجراء انتخابات مجلس النواب المقبل. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس