ظهرت الدولة القومية بالتعريف الغربي في القرن الخامس عشر للعمل علي الإثراء الثقافي والمادي للناس( أي للصالح العام) مقابل نظام الاستغلال الإمبراطوري القديم دون الالتزام بالتنمية. ومع تشابك الأنشطة البشرية, أصبحت السياسة والاقتصاد للدول تتأثر بالعوامل والمؤثرات القادمة من خارج حدودها. ولهذا تبدو العولمة وكأنها تضعف من قوة وهيمنة الدول القومية التقليدية وقد تقضي عليها تماما, لأن الكثير من العوامل تبدو خارج سيطرتها. فالعولمة الاقتصادية أدت إلي مزيد من التكامل الاقتصادي وزيادة سرعة تدفق السلع ورأس المال والعمالة عبر الحدود. والعولمة السياسية أخذت من أدوار الدول القومية, وعززت السلطة فوق القومية للمنظمات العالمية( الأممالمتحدة ومنظمة التجارة وغيرهما). فالعولمة لم تفكك الدولة القومية, ولكنها لم تتركها علي حالها,وقدتنبأ بزوالها إيمانويل كانت عام1795 في مقالة السلام الدائم وكارل ماركس في تآكل الدولة وكذا برتراند راسل في القرن الماضي.فالدولة القومية ليست حالة أبدية, فقد عاش العالم دونها قبل ثلاثة قرون, ويمكن أن يعيش دونها مرة أخري. ومن يقول إن العولمة تؤدي لإضعاف سيادة الدول القومية وتفككها,يستشهد بمايحدث من دمج لها في نظام عالمي يظهر مدي جبروت القوي التي تقوم بهذه العملية. وأهم تحديات السيادة تأتي من تطور الاقتصاد العالمي والهيئات والمؤسسات عابرة القوميات كالبنك الدولي وصندوق النقد والأممالمتحدة وماتصدره من نظم واجبة التطبيق!وتأتي من الشركات متعددة الجنسيات وعابرة القوميات والأسواق المالية العالمية التي لاتعنيها السلامة الاقتصادية للدول في سعيها لتحقيق الأرباح,وتتخذ قراراتها بغض النظر عن مصالح الدول المضيفة لها. كما أن نمو شبكات الاتصالات, وتزايد المؤتمرات والمنتديات واللقاءات الدولية, أظهرت روابط إنسانية جديدة عابرة للحدود والقوميات, كالمنظمات غير الحكومية, وأدت إلي إمكانية ظهورثقافة عالمية مشتركة. وآخرون يقولون إن الاقتصاد العالمي ليس جديدا علي الإنسانية, والتاريخ الإنساني عملية مستمرة من العولمة. بل إن معظم الشركات الكبري مبنية بشكل قومي, ولايمكنها العمل علي نطاق متعدد القوميات إلا علي أساس قوة أصلها القومي. والاستثمار والتجارة وحركة الأموال يتركز بين الدول الكبري, وهي التي تتحكم في المؤسسات والأسواق المالية والاقتصاد العالمي,وإن الاقتصاد العالمي هو اقتصاد غربي تم نشره عالميا, والدول القومية أدوات أساسية فيه. وتتوزع مهام إدارته بين المستوي المحلي والمستوي الدولي, ولايمكن إدارته إلا بتعاون كل الدول القومية.ومعظم الشركات عابرة القومية لديها ثقافة قومية تعطيها مزايا حقيقية. والأسواق والشركات عابرة القومية ومتعددة الجنسية والمنظمات الدولية لايمكن أن توجد وتستمر دون موافقة وحماية الدول القوية. ورغم أن الشركات والبنوك الكبري تعمل علي تهميش دور الدول القومية, لأنها قد تعوق أنشطتها, لكنها تحتاج إلي حمايتها. والهيئات والقوانين الدولية ظهرت لأن الدول القوية اتفقت علي إنشائها وإعطائها الشرعية ودعم سلطتها بالقوة إذا لزم الأمر. فالدول القومية لاتزال هي دعائم المجتمع الدولي. بل إن الدول القوية لاتلتزم أحيانا بقرارات تلك الهيئات ولايستطيع أحد إجبارها علي الالتزام, وهي تلتزم بالعولمة حسب مصالحها الخاصة. وكان التحكم في النقود والائتمان والسياسة المالية أحد أهم أسس سيادة الدول القومية. وقد واجهت الدول القومية تزايد سلطة البنوك التجارية التي كانت تصدر العملة النقدية حتي أواخر القرن التاسع عشر,بتكوين البنوك المركزية للتحكم فيها. إلا أنه تم الالتفاف حول هذا, ووضعت الدول القومية تباعاتحت معيار الذهب الذي فرض حدودا صارمة علي سياساتها المالية والنقدية. ثم تبعه اتفاق بريتون وودز,الذي انتهي بإلغاء غطاء الدولار الذهبي عام.1971 وتم تعويم كل العملات,فظهرت المضاربات النقدية وتذبذبت قيم العملات بشدة,وظهرت كمية ضخمة من النقود الافتراضيةvirtualmoney تديرها الدول القويةوليست موجودة إلا في أسواق المال, ولاعلاقة لها بالتعريفات التقليدية للنقود, ولاترتبط بأية وظيفة أو استثمار ثابت ولاتمول أي شيء. ولكن قوتها شيء حقيقي ومعدل تدفقها هائل, وحجم التعامل فيها في أي وقت أكثر من عشرة أضعاف إجمالي الناتج العالمي السنوي. وهي لاتتبع أي منطق اقتصادي, ويصيبها الهلع وتتحرك بهيستيريا بسبب أي أحداث أو شائعات.والمضاربون يمكنهم تعمد نقل مبالغ ضخمة من دولة لأخري لحظيابمجرد الضغط علي أزرار الحاسب, وآثار هذه الحركة السريعة لتلك المبالغ الهائلة علي سيادة الدول المستهدفة أصبحت مدمرة. كما أن زيادة حجم البنوك يفقد الدول القومية سيطرتها علي عملتها. وتستهدف الدول الغربية إنشاء اتحاد للبنوك المركزية وإعطاءه السلطة النقدية العالمية, مع الحفاظ علي سلطة نقدية ومالية قومية شكلية, وسلبها الكثير من صلاحياتها فعليا. وهو مايتم فعلا بإشراف البنك الدولي, الذي يصدر تباعا قواعد( آخرها بازل3) لتلتزم بها كل البنوك المركزية.كما تم فرض القيود المالية والنقدية علي الدول الضعيفةدون إبطاء, كتحديد عجز الموازنة والمحتوي النقدي لوضع قيود علي الائتمان والتنمية, بحجةالإصلاح النقدي, ويتم التلويح بالعقوبات المالية وبخفض التقييم الائتماني كما حدث مع مصر أخيرا,إذا هي تكاسلت عن الاستسلام لتوجيهات فرض السيطرة( كقبول شروط قرض الصندوق بفرض الضرائب ورفع الأسعار). وشركات التقييم الائتماني من أدوات فرض السيطرة المالية والنقدية. وعلي كل حال, فرغم أن القرارات الاقتصادية العالمية يتم اتخاذها عن طريق الاقتصاد العالمي وليس عن طريق الدول القومية, خصوصا الضعيفة,لكن أدوات تحقيق الاستقلال النقدي والتنمية الاقتصادية متعددة ومتوافرة. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم