حينما يصبح الإعلام مهنة خطيرة فعليك أن توقن أن الخطر جاثم علي صدر كل مواطن, وعندما تراهن بكل قوة علي تكميم الأفواه فأنت تجرب لعبة ثبت فشلها. تعلمنا أن الإعلام صوت المواطن وعينه علي الحكومة وليس العكس..مهمة الإعلام أن يقدم لمتابعيه أكبر قدر ممكن من الدقة وليس الأمور التي يرغب المسئولون في توصيلها إليهم.. مهمته أن يعرض الرأي الآخر بعد أن باتت الروايات متناقضة لدرجة لا تصدق بدءا من أعداد الشهداء حتي وجود أخبار عن لقاءات تمت من عدمه. دور الإعلام وتأثيره علي الرأي العام يدركه الجميع, بداية من رئيس أكبر دولة في العالم نهاية بزعماء العصابات. وحين ينفرد طرف, ولو كان المسئول, بتوجيهه أو تلوينه يبدأ الشطط والخلل والمتضرر الأول في هذه الحالة هو المواطن. وحتي نكون موضوعيين يجب أن نقر بأن الإعلام الحر ساهم في تنوير الناس فساندوا ثورة1952, وصنعوا ثورة يناير بعد ظهور إعلاميين في منابر حكومية ومستقلة غامروا ودفعوا الثمن, ورفعوا لواء التنوير من أجل التغيير, وأشاروا لمواطن الزلل والكذب والتزوير والاستبداد فتحول المعارضون في الشوارع لملايين بعد أن بدأوا بنحو50 ناشطا فقط. لهذا كله ساءتني متابعة الحملة الشرسة علي' الإعلام الفاسد' وتهديد الإعلاميين بالقتل وترويع أسرهم, فهذا التوجه الممنهج وتلك القوائم المهددة بالتصفية تتعامل مع بيئة رفعت السلاح حتي التسعينيات, ومصر حاليا بها كميات مخيفة من قطع السلاح المسروق والمهرب.. والمؤسف بأن أي نظرة متمحصة تجد أن هذا الإرهاب يستهدف( كل) الإعلاميين المستقلين أو المخالفين في الرأي. وهذا تعميم خطير فالمنصف يدرك بسهولة أن داخل محطات وصحف خاصة مقدمي برامج وكتابا من التيار المناصر للحكومة وللرئيس, في حين أن العكس غير صحيح, كما أن لمقدمي البرامج والكتاب توجهات متباينة في كثير من الأمور تصل لحد رفع الدعاوي القضائية ضد بعضهم البعض, فكيف يتم المساواة بين متقاضين في المحاكم؟( هذا إذا سمح للعدالة في الفترة القادمة بأن تؤدي دورها دون تشوية أو إرهاب) والملاحظ أن من يقودون حملة التشويه والتضييق والإرهاب هم ضيوف شبه ثابتين علي' الإعلام الفاسد', في حين أن قنواتهم وصحفهم هي التي لا تعرض الرأي الآخر البتة. إن الدعوة لإسكات كل من يقدم الرأي والرأي الآخر لينفرد تيار بعينه بتدفق المعلومات أمر مخيف, وسيجعلنا جميعا ننظر للأمور بعين واحدة.. والمثير للسخرية أن المطالبين بهذا لم يغضبهم قنوات الرقص الشرقي, ولم يحاولوا التصدي لها أو التحذير منها أو حتي البحث عن وسيلة قانونية لوقف بثها. والخطير أيضا أن هذه الدعوة يتواكب معها حملة خشنة وشرسة وضارية علي الإعلام الحكومي. فالكثيرون يحرضون وزير الإعلام علنا علي تضييق أكبر, لنجد ماسبيرو ينحاز من حيث الضيوف والمحتوي والتقارير الميدانية المسجلة, بل والمداخلات الهاتفية, وأصبح المحظور أكبر بكثير من المسموح, بعد ثورة وضعت' الحرية' في قلب شعاراتها- بين العيش والعدالة الاجتماعية. وهو ما يتم بأموال دافعي الضرائب, وأقل ضرر سيحدث عن مثل هذه السياسات هو انصراف المشاهدين والقراء عن الإعلام الحكومي.. فإذا أخطأ الإعلام الخاص وانصرف الناس عنه فهذا شأنه وقد نال جزاءه, أما الإعلام الحكومي فيجب أن يتبني المواقف الرسمية فقط أو يلون الأخبار. والسؤال هنا, كيف كنا سنتصدي للإعلان الدستوري قبل الأخير الذي شكرنا قيادي إخواني علي ضغطنا من أجل الغائه؟ وكيف كنا سنتصدي لأسعار السلع الخمسين التي تمت زيادتها لو كان الإعلام ملونا للدفاع عن الحكومة والرئيس ويتنبي مواقفهما؟ وكيف يتبني الإعلام الحكومي مواقف أحادية الجانب بينما الرئيس نفسه يتراجع عن قراراته؟ صديقي الطيب المحترم الواقف في مظاهرة محرضة علي التضييق علي الإعلام اعمل العقل فحالة الاحتقان الحالية والتوتر وصلت لحد غير مسبوق فهناك: أئمة يكفرون مصلين, ومصلون يهتفون ضد أئمة, وجيران باتت علاقاتهم متوترة بجيرانهم بسبب مواقف سياسية, وفي أحسن الأحوال يتجنبون تبادل التحية حتي لا تفسد العلاقة, رغم أن الجميع يمر علي نفس المطبات في الشوارع, ويهددهم نفس البلطجية وباعة المخدرات, ويحتل أرصفة شوارعهم نفس الباعة الجائلين, ومن منهم كان يعاني من شظف العيش وضيق الحال ظل كما هو وانضم إليه كثيرون. حان الوقت لكي نتفق علي أن( رغم انطباعاتك أو ما صدره لك إعلام غير محايد لا يقبل ولا يعرض سوي وجهة نظر واحدة) ملايين المعارضين ليسوا' فلولا' أو' كفرة', ونتفق علي أن التضييق علي إعلام حر يعرض وجهتي النظر, اختطاف للثورة, وتقسيم للوطن, واساءة للإسلام. مشاكل ومعاناة المواطن المصري متراكمة كالتلال والإعلام المستقل الحر رقيب شعبي وضمانة للجميع ومن واجبه أن يعرض المشاكل ويطرحها للنقاش كما يعرض حلولا ومقترحات قبل أن يؤدي الاحتقان لانفجار خارج السيطرة. المشكلة الحقيقية تكمن في أن البعض يصر علي الإساءة لمصطلحات بريئة وهو يهاجم الإعلام الحر فيطالب البعض الإعلاميين بالحياد وهو أمر بدهي عند نقل الأخبار وعرض الرأي الآخر بموضوعية ومهنية, لكن لا يمكن أن يكون محايدا بمعني أن يتجاهل الكوارث ويدير ظهره للمسئولين الحقيقيين فهذه خسة وليست حيادية, ولا يمكن أن يحجب رأيه حينما يكون الوطن في مفترق طرق. دعونا نتفق أنه لا حجر علي رأي وحرية التعبير مكفولة, ومن يظن أن هناك تجاوزا محددا عليه أن يتقدم للقضاء بمظنته ليفصل فيها, ناهيك عن أن القاعدة الذهبية في الإعلام الحر هي أن العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة. كلية الآداب جامعة الاسكندرية المزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور