عندما شرع في زيارة العاصمة الروسية موسكو الصيف الماضي, حفلت وسائل الإعلام بتحليلات شتي أبدت بعضها. قدرا من المخاوف والشكوك في جدوي الجلوس حول طاولة المباحثات بقصر الكرملين العتيد, يعزوهم في ذلك فجوة الرؤي بين البلدين تجاه جملة من القضايا المعقدة. الدور الجيوسياسي الذي تلعبه وريثة الإمبراطورية العثمانية, عضو الناتو وصمام أمنه أبان الحرب الباردة, مرورا بمنظومة الدرع الصاروخية, التي دشنت علي الأراضي التركية في مالاطيا جنوب الأناضول, واختيار تلك المدينة له دلالته, ليس فقط لقربها من إيران, ولكن باعتبارها مدخل للقوقاز الواسع والذي يعتبره ورثة الاتحاد السوفيتي فنائهم الخلفي, وانتهاء بالأزمة السورية الطاحنة, وانحياز الروس المطلق لنظام بشار الأسد. في المقابل كان التفاؤل سمة نقاشات وكتابات أخري, وجدت اسبابا مغايرة, في مقدمتها المصالح التجارية الحيوية, والتي تستوجب من الساسة الأتراك, مزيدا من السياسات التي تهدف إلي إزالة التناقضات في العلاقات حتي وأن كان جزء منها متجذر في التاريخ والجغرافيا, ودون أن يكون في الأمر أدني مصادفة, شدد سفير الاتحاد الروسي في أنقرة علي نفس المطلب, داعيا لحتمية تجاوز الخلافات دعما لرفاه الشعبين. والأخير لم يكن غائبا عنه التعاون العسكري وما سوف يدره من دخل للخزانة الروسية كشراء أنظمة دفاعية جوية قدرت قيمتها بأكثر من4 مليار دولار. أذن هناك واقع ملموس يزخر بالمكاسب الاقتصادية والتي يمكن أن تتعاظم أكثر فأكثر, طالما كانت هناك إرادة سياسية من الطرف الآخر وكيف لا يكون هذا الطرف غير راغب فهو يأتي في صدارة الدول المصدرة لتركيا محققا لميزانه التجاري23 مليار دولار مع نهاية2011, وبلغت صادراته ما يزيد علي10 مليارات دولار في الخمسة أشهر الاولي من العام الحالي. ويعتبر السوق الروسية من أهم الأسواق للصادرات التركية والتي وصلت العام الماضي الي ستة مليارات من الدولارات. وفي نفس الوقت الذي كان كل ما أتفق عليه خلال تلك الزيارة الناجحة, يسير في خطي التطبيق والتنفيذ كان غضب الدب الروسي نحو الصديق التركي يتصاعد وقد بلغ أشده, متجسدا في رفضه لإجبار طائرة سورية قادمة من موسكو في طريقها إلي دمشق وعلي متنها35 مواطنا روسيا, وخضوعها للتفتيش, وعلي أثر ذلك تم تأجيل زيارة فلاديمير بوتين والتي كان مفترض لها أكتوبر, وكان يعتقد أن الأخير لن تطأ قدمه مطاري اتاتورك باسطنبول أو إسيبنوا بأنقرة, خاصة مع تصريحات سيريجي لافروف المناوئة لنشر بطاريات باتريوت علي الحدود مع سوريا بحجة أنها ستزيد من التدهور في مجمل الشام. لكن بوتين جاء ومعه عشرات من رجال الأعمال, وخلال الساعات الست التي أمضاها في ضولما باهتشة علي البوسفور الساحر, وقعت جملة من الاتفاقيات توجت بتلك الخاصة بتنفيذ أول مفاعل نووي للإغراض السلمية بمرسين وبخبرات روسية بطبيعة الحال وباستثمارات تفوق20 مليار دولار, وثمن اردوغان وضيفه الكبير, التطورات المتنامية بين بلديهما مؤكدين مواصلة الجهد إلي أن يصل التبادل التجاري إلي100 مليار دولار خلال السنوات الثماني المقبلة. وهكذا عاد الزعيمان إلي تجنب الخوض في خلافاتهما خصوصا تلك الدائرة حول سوريا, وأن كان تغير ما بدا يلوح في الأفق, حينما أشار بوتين إلي تلقيه أفكارا جديدة في هذا الشأن من رئيس الحكومة التركية, متعهدا بدراستها المثير في الأمر أن المراقب يمكنه أن يجد تعاطفا هنا وهناك للموقف الروسي, أو علي الأقل تفهمه, وقلقه من مرحلة ما بعد انتهاء الأسد, واحتمال سيطرة المتشددين وإقامة نظام إسلامي بدمشق وهو أمر قد يشجع الشيشانيين علي الانفصال وما يترتب من مخاطر علي الأمن القومي الروسي..