أسارع إلي التأكيد بأن الموقف في مصر بالغ الحرج من زوايا, متعددة يراها القاصي والداني وأن عامل الوقت أشد حرجا. كما أفهم مدي حساسية الرئيس اتجاه اصدقائه ولكنني أذكره بالحديث الشريف أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. لذلك فإن نصرة الظالم في الحديث هي مناصحته في عصرنا أو الأخذ علي يديه في عصر النبوة. وعندما يكون الوطن في خطر فإن المناصحة تصبح واجبا. فقد فهمت أن الرئيس يدرك أنه علي حق وأنه يقصد الخير وأنه يريد أن يصلح السفينة ويجهزها ويبعد عنها المتربصين بها في عرين القضاء حتي تصبح قادرة علي تنفيذ البرنامج الانتخابي بكفاءه بعد تنظيف شرايين مصر من الفساد والترهل. لا شك أن الرئيس يدرك أيضا الحالة التي تلم بمصر وهو يدرك أكثر من غيره بحكم أنه نزل إلي قمرة القيادة واطلع علي احوالها ولابد أنه يعرف أيضا أن هناك في المجتمع المصري كل شيء: الانتهازيون والخونة واتباع الأمريكان والصهاينة الذين ربوهم في عقود طويلة ولم يترك ولاؤهم لهم شيئا من الولاء لمصرهم, كما أن في مصر شرفاء مثلما أن في مصر عقلاء, وسوقة وحرافيش وتركة ثقيلة في تركيب مصر وفي علاقاتها الخارجية وفي هذه النقطة أظن أن الدكتور مرسي قد فوجئ بأنه لحسن نيته وسلامة طويته يدعو إلي الخير ولكن جزءا كبيرا من قومه لا يفهمون كما أن هذه الدعوة جاءت بلغة تدعو إلي القلق وارتبطت بحملة طاغية ضد الاخوان المسلمين لدرجة أن الجهاز الإعلامي لهؤلاء قسم مصر إلي إخوان وشعب وكأن الإخوان هبطوا علي مصر كما يهبط الجراد علي المروج الخضراء. عند هذه النقطة أذكر بهذا الاختلاف الجذري بين منهج الأنبياء والرسل وبين منهج الساسة ورجال الدولة. وحتي الأنبياء والرسل الذين اختارهم الله سبحانه وتعالي وكلفهم بمهمة الدعوة إلي دينه في أقوام يعبدون آلهة أخري فإنه كلفهم أيضا بأن يدعو إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل لمن يعرف الحق ويكابر فيه. أما الساسة فهم الذين يضعون أعينهم علي نبض المجتمع ويبتدعون بالانجاز تارة وبالكذب تارة أخري والتجمل تارة ثالثة وعيونهم لا تفارق آنات الناس وخلجات قلوبهم وهذا فن يصل الحاكم إليه بأدوات وقدرات. ولنا في رؤساء مصر الثلاثة نماذج ساطعة وكلهم استبعد الشعب تماما من حسبانه ولكنهم تغنوا بالشعب في خطبه لدرجة أن كلمة الشعب هي الأكثر ترددا في حديثهم بصرف النظر عن اخلاصهم أو مكرهم. خلاصة القول إن مصر بعد مبارك يختلط فيها المطالب الشعبية المشروعة وأشواق الناس إلي الحرية والخبز والكرامة ولكن العلاقة بين الحاكم والشعب تقف دونها أربعة تحديات, التحدي الأول, هو صروح نظام مبارك والمستفيدون من عصره ومن فساده في كل مكان في مصر خاصة في القضاء وجهاز الدولة والاقتصاد والإعلام والمجتمع. التحدي الثاني, الذي لا شك أن الرئيس يدركه جيدا هو مرارة الواقع, وأن تغيره إلي وضع نموذجي يتطلب النجاح اولا في حشد الناس إلي مشروع يطغي علي أولويات الجميع. وأما التحدي الثالث, فهو حجم الجهل والأمية والفقر وهي بيئة صالحة مع الإعلام الفاسد لمن يريد أن يثير الفتنة, فضلا عن تربص قوي إقليمية ودولية كثيرة لا تريد الخير لهذا الوطن ولها أعوانها الذين ربتهم عبر عقود طويلة. وأما التحدي الرابع, فهو مرتبط بظهور التيار الإسلامي وما ترتب عليه من آثار ومضاعفات في الداخل والخارج جعلت كل أداء غير مسئول في السياسة والدين محمولا علي الرئيس ونظامه فأصبح الرئيس يئن تحت وطأة القيود العديدة والضغوط المتعددة وهذا أدعي إلي أن يلتزم الحذر وأن يعد للخطو مكانه. نعلم جيدا أن هذا الصخب الكبير لا علاقة له بالإعلان الدستوري ونعلم أن مشروع الدستور الجديد لا غبار عليه ولكننا نعلم أيضا أن هذه مناسبات تستغل لتجييش الشارع وتبشيع الصورة ونشر الفتنة بما يؤدي إلي أضرار فادحة يقابل ذلك ما قد يعلمه الرئيس يقينا من مؤامرات في ثنايا هذا المشهد ولكن الظرف وأدوات السلطة لا تناسب المحاسبة والإعلان. ولا أريد أن أسرف في بيان ما يجب أن يتبع من جانب الرئيس ولكني أري الصورة وهي تحمل ضررا كبيرا للرئيس والمشروع الحضاري الإسلامي والإخوان المسلمين والتيار الإسلامي بأكمله لأنها قسمت التيار الوطني فأصبح الذين مع الإعلان تنقصهم الوطنية ومنافقين ولا يقولون الحق ويغمضون أعينهم علي باطل لأن الاعلان لا يقرأ بالنوايا الطيبة كما أن ارتفاع الصخب أضاع الحق فيه فلم يعد يسمعه العقلاء خاصة أن الانجازات المباشرة للمواطن العادي كان يمكن أن تكون رصيدا حتي للاخطاء والذين يعارضون الإعلان تستغل معارضتهم وقودا في هذه الفتنة التي يحترق بها الوطن بأكمله. والوطن يئن آنينا جديدا والثورة تنقسم وصوت الباطل وجد ذريعة ذهبية جمعت جميع الشوارد السياسية في مصر. ولذلك يتطلع الجميع ليس إلي سياسات الحشد والحشد المضاد ولا إلي الركون إلي حسن الطوية وسلامة القصد وهنا يكون دور الحصافة السياسية التي غابت عن توقيت الإعلان وصياغته وما لم تستجمع الحصافة السياسية لمواجهة هذا الموقف اليوم قبل الغد فلا أظن أن سفينة الوطن سوف تبحر في أمان. تلك هي مصر تؤخذ كلها أو تترك كلها بما لها وما عليها. إن أخطر تداعيات هذه الأزمة هو أن يصبح الرئيس مرسي في حضن التيار الإسلامي وحده ويفقد عرشه الأوسع في كل ربوع الوطن, رئيسا لكل المصريين لأن الأزمات عادة تتحكم في تشكيل الولاءات وعندما ينعدم الولاء الأكبر للوطن تتصاغر الولاءات وتتفتت وهو أخطر ما يصيب الوطن بعد هذا الخطر عليه طوال حكم الرئيس مبارك. المزيد من مقالات عبدالله الاشعل