حسن طلب : كنت أود أن أتحدث اليوم عن هيئة ثقافية كبري تحولت إلي( عزبة)! فراح ناظرها وقد بدا ضئيلا فوق كرسيه الكبير; يوزع المغانم علي الحاشية, فيقطع هذا ميراث يحيي حقي, وذاك يقطعه ميراث عز الدين إسماعيل! وكان آخر المغانم: السفر إلي تونس, ثم إلي الشارقة; ولأن الأمر هنا يتعلق بسمعة مصر الثقافية; فالأمر بين يدي وزير الثقافة الأستاذ الدكتور محمد صابر عرب, الذي عرفناه بجديته ونزاهته; وثقتنا في أنه لن يقبل السكوت عن هذا العبث لن تكون في غير محلها; لا سيما أن الأمر تجاوز سمعة مصر الثقافية, إلي سمعتها الأخلاقية, حسب ما سمعت من بعض أصدقائي من أدباء الإمارات, من تفاصيل كفيلة بأن تجعل كل مثقف مصري يشعر بالخزي والعار. فلنترك لوزير الثقافة الفرصة لكي يطهر وزارته بنفسه, فهو لا تنقصه الشجاعة ولا يعوزه بعد النظر. ولننصرف إلي شأن آخر من أوصاب حياتنا الثقافية; وهو ما دأب عليه المتطرفون بين الجماعات الإسلامية علي اختلافها, من تهديدات متكررة بتحطيم التماثيل والصروح المصرية القديمة, وآخرها التهديد بتحطيم أبي الهول والأهرامات. ولعل أبلغ رد علي هؤلاء الجهلة, هو أن نعود إلي ماضينا القريب الذي حسم فيه الإمام محمد عبده الخلاف الديني حول قضية الصور والتماثيل; فكان مما كتبه في أثناء زيارته لمتاحف صقلية وأوربا صيف1902 ليصف فيه حرص الأوروبيين تراثهم الفني: ... لهؤلاء القوم حرص غريب علي حفظ الصور المرسومة علي الورق والنسيج, ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبري, ما لا يوجد عند الأمم الصغري كالصقليين مثلا, يحققون تاريخ رسمها, واليد التي ترسمها, ولهم تنافس في اقتناء ذلك غريب; حتي إن القطعة الوحدة من رسم رفائيل مثلا, ربما تساوي مائتين من الآلاف في بعض المتاحف! وكذلك الحال في التماثيل. وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلي قيمة, وكان القوم عليه أشد حرصا. هل تدري لماذا؟ إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه في دواوينه, والمبالغة في تحريره, خصوصا شعر الجاهلية, وما عني الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه; أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم علي هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل, فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يري ولا يسمع, والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يري. ويستمر الإمام محمد عبده في معالجة هذه القضية من منظور جمالي, يدرك طبيعة العلاقة المتبادلة بين الفنون; علي نحو ما يدركها علماء الجمال المعاصرون في الغرب, فيقول: إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة, ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة, ما تستحق به أن تسمي( ديوان الهيئات والأحوال البشرية), يصورون الإنسان والحيوان في حال الفرح والرضي, والطمأنينة والتسليم. وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة, لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض... أما إذا نظرت إلي الرسم, وهو ذلك الشعر الساكت, فإنك تجد الحقيقة بارزة لك, تتمتع بها نفسك, كما يتلذذ بالنظر فيها حسك, فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة, وشكر لصاحب الصنعة علي الإبداع فيها. ويستطيع القارئ هنا أن يقف علي عمق النظرة العقلانية, ورحابة الرؤية المتحضرة, في الموقف من قضية الصور والتماثيل; فالإمام محمد عبده; لا يقصر دور الفن في الحياة الإنسانية علي وظيفته التوثيقية, باعتباره حافظا للعلم البشري وديوانا للهيئات والأحوال البشرية فحسب; فهذا كله لا يمثل- علي أهميته- إلا الجانب النفعي المباشر, ولذا نجد الإمام حريصا علي تأكيد الجانب الأهم في دور الفنون; وهو ما يتمثل عنده في الوظيفة الجمالية, التي تستمتع بها النفوس وتتلذذ الحواس. فإذا ما جئنا إلي حكم الإسلام في هذه القضية, أدركنا أولا فطنة الإمام وهو يؤخر الحديث حول الحكم الديني علي الفن, إلي ما بعد الفراغ من الحديث عن قيمته الجمالية; وأحسسنا ثانيا بالبون الشاسع, الذي يفصل ما بين فتاوي الماضي القريب المثقفة, المنتصرة للحياة, أو التي تنتصر للدين بأن تنتصر للحياة; وبين فتاوي هذه الأيام المعادية للفن والحياة جميعا! وربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام, وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية, إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر, في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية؟ هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: أن الراسم قد رسم, والفائدة محققة لا نزاع فيها, ومعني العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان; فإما أن تفهم الحكم بنفسك بعد ظهور الواقعة; وإما أن ترفع سؤالا إلي المفتي وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث:( إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون) أو ما في معناه مما ورد في الصحيح, فالذي يغلب علي ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية... ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصور علي كل حال مظنة العبادة, فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضا مظنة الكذب, فهل يجب ربطه؟ مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب. لقد أوردنا هذا النص علي طوله, لكي نضع بين يدي القارئ صورة ناصعة لما أصاب حياتنا الفكرية والدينية من جمود وتصلب, فأصبحنا وقد نسينا أو تناسينا ما أشاعه فينا الإمام محمد عبده وأعلام النهضة من بعده, من تفتح, واستنارة, واحترام للعقل, وإيمان بروح الإبداع وضرورة التحضر.