كيف وقعت الصحف المصرية في فخ خلط الرأي بالخبر؟ لنأخذ نموذجا صارخا! إنه قرار الرئيس محمد مرسي يوم الخميس 11 أكتوبر 2012 بتعيين النائب العام عبدالمجيد محمود سفيرا لمصر في الفاتيكان. ثم استجابته في يوم السبت لرغبة مجلس القضاء الأعلي ببقائه في منصبه.. لقد احتلت تلك الاستجابة مانشيتات الصحف المصرية الصادرة يوم الأحد 14 أكتوبر 2012، فماذا جاء فيها؟ وكيف أقحمت الرأي على الخبر، بشكل فج؟ اعتبرت بعض الصحف الأمر بمثابة معركة، فيها منتصر ومهزوم، ورابح وخاسر، وبدا تعاطفها مع النائب العام واضحا، وطغى ذلك على تغطيتها للموضوع، ولجأت معظمها إلى إضفاء الرأي على مانشيت كل منها، إلا ما رحم الله، كما لم تلتزم بتوصيف الخبر، كما هو دون تلوين . فقد استخدمت خمس صحف تعبير "الرئيس تراجع"، وهي صحف: الأهرام، والمصري اليوم، واليوم السابع، والصباح.. فهل هذه مصادفة؟ كما استخدمت ثلاث صحف تعبير "المعركة" في توصيف ما حدث. وهللت صحف أخرى للانتصار، كالوطن، والجمهورية. وبُني الموضوع كله في الصحف على تصريحات صادر عن أطراف الموضوع: نائب الرئيس في مؤتمر صحفي، والمتحدث باسم رئاسة الجمهورية، علاوة على تصريحات صادرة عن النائب العام، وأخرى صادرة من جانب مناصريه المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة، ، وسامح عاشور نقيب المحامين. أما مقدمات مانشيتات تلك الصحف فقد عمرت بكلمات استخدمت فيها كلمات من عينة: معركة... انتصار.. تراجع.. هزيمة. والآن: كيف جاءت التغطة الصحفية؟ تراجع في الأهرام جاء المانشيت كالتالي: السطر الأول :"الرئيس يتراجع..والنائب العام مستمر"، وجاء السطر الثاني عكس الأول إذ قال :"اجتماع لمرسي وعبدالمجيد يحسم الموقف استجابة لالتماس مجلس القضاء الأعلى". وذهبت "بوابة الأهرام" إلى أبعد من هذا، فقالت في عناوينها :"بقاء النائب العام في منصبه انتصار للقضاء على الرئاسة..وتراجع ثان لمرسي أمام السلطة القضائية".. أليس هذا رأيا؟ تفسيرية "المصري اليوم" على المنوال نفسه جاء مانشيت المصري اليوم :"مرسي يتراجع والنائب العام يكسب ".. عنوان رأي بالتأكيد. وجاءت المقدمة، رأيا في رأي"، وأشبه ما تكون بمذكرة تفسيرية لرأي المحرر، أكثر منها تقديما للحقيقة، كأن ما جري معركة بين مصر وعدو خارجي، وليس -في أسوأ الأحوال- خلاف سياسي. قالت المقدمة :"أسفرت المعركة الثانية بين رئاسة الجمهورية والسلطة القضائية، ممثلة فى النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، التى نشبت خلال الأيام الثلاثة الماضية، عن هزيمة جديدة للمؤسسة الحاكمة أمام القضاء، تجسدت فى استمرار النائب العام فى منصبه". وزادت الصحيفة في التهويل بسطة فقالت :"كانت الرئاسة قد تجرعت الهزيمة الأولى حينما تراجعت من قبل أمام القضاء فى أزمة إعادة مجلس الشعب المنحل بقرار من المحكمة الدستورية العليا للعمل". اليوم السابع والصباح في جريدة "اليوم السابع" الصادرة في اليوم نفسه لم يختلف المانشيت كثيرا ، عما جاء في الأهرام والمصري اليوم، إذا جاء كما يلي :"الرئاسة تتراجع والنائب العام باق في منصبه".. وسطر ثان شبيه بالسطر الثاني في الأهرام.. لكن المقدمة هنا تنص على التراجع، إذ قالت :"تراجعت مؤسسة الرئاسة عن قرار إقصاء المستشار عبدالمجيد محمود من منصب النائب العام استجابة إلى غضبة القضاة الذين رفضوا تدخل السلطة التنفيذية في شئون السلطة القضائية" .. قمة التلوين، والاستخفاف. كما لم يختلف مانشيت صحيفة "الصباح" كثيرا عن المانشيتات السابقة، فقال :"الرئيس يتراجع والنائب العام يعود إلى منصبه".. وفي الداخل حيث الإشارة للموضوع.. لا أثر للتراجع.. بل تقارير وتحليلات متفرقة! خسارة.. وفرحة "الرئاسة تخسر معركة النائب العام".. هكذا جاء مانشيت صحيفة "الشروق"، جاذبا للنظر.. خلط بالغ للرأي بالخبر.. والغريب أنه لم تكن هناك في المقدمة والمتن والموضوع برمته ما يشير إلى هذه الخسارة، وحقيقتها، ومن الذي خسر فعلا، وبأي مقياس، وبأي مفهوم للخسارة؟ وقريب من مانشيت الشروق، جاء مانشيت صحيفة "التحرير"، مقترفا الإثم نفسه، ألا وهو خلط الرأي بالخبر، إذ قال :"القضاء ينتصر على الرئاسة في معركة النائب العام". وهللت صحف للانتصار (الذي حققه النائب العام بزعمها)، إذ صدر مانشيت صحيفة "الوطن" كالتالي :"القضاة: الله أكبر.. انتصرنا"، وهو عنوان سليم مهنيا، إلا أن المقدمة جاءت عامرة بالرأي على حساب الخبر. ما سبق ذكره غيض من فيض، مما يجري يوميا على صفحات الصحف المصرية، من خلط معيب للرأي بالخبر، مما يقتضي الانتباه إلى خطورته، والمطالبة بعدم الوقوع فيه.