الحرية تختنق.. فالحرية لا تزدهر وتترعرع إلا في مناخ صحي وبيئة صالحة. لكن ذلك المناخ الصحي وتلك البيئة الصالحة صارا غائبين عن مجتمعنا الآن بعد أن تحول إلي ساحة لصراع غوغائي تواري فيه العقل وسيطرت عليه المصالح الشخصية في تلك المرحلة الانتقالية التي أتمني ألا تطول. والحرية ليست كلمات وشعارات وهتافات خاوية, وهي لا تتحقق بقرار فوقي من الحاكم وتصريحات جوفاء لكنها تتفتح كالزهور بفضل الهواء النقي, وإن وجدت في محيط فاسد فسرعان ما تذبل وتختنق. وقد أثبتت تجارب التاريخ أن الحرية تدهس تحت الأقدام عندما تسيطر علي مجتمع من المجتمعات أيديولوجية عليا أو مذهب لا يقبل المجادلة والنقاش. وينطبق ذلك علي المجتمعات الغربية والشرقية علي حد سواء. فعندما عاشت أوروبا عصر الأيديولوجيات مثل النازية والفاشية والشيوعية ذبحت الحرية قربانا لهذه المذاهب. وعندما هيمنت علي مصر فكرة القومية وسعي النظام إلي فرضها بالقوة انزوت الحرية وانكمشت وتقوقعت علي نفسها. لكن التاريخ أثبت أن أخطر أنواع المرجعيات التي تهدد الحرية هي المرجعية الدينية التي تؤدي إلي هيمنة من يتدثرون بعباءة الدين, علي السياسة والحياة العامة. وقد عاشت أوروبا حقبة سوداء عندما انطلقت محاكم التفتيش التي تغلغلت في عقول الناس وضمائرهم وقتلت مئات الآلاف من الأبرياء بتهمة الكفر والزندقة. وفي مصر الآن وغيرها من الدول العربية يري أنصار فصيل كبير أن رسالتهم في الحياة هي قمع من يعتبرونهم أعداء الدين وأن مهمتهم السامية هي إعلاء كلمة الله في الأرض, مع أن الله سبحانه وتعالي لم يمنح تفويضا لأحد بالقتل والتعذيب والترويع باسمه بل لم يعط تفويضا لأحد بالحكم والتشريع والتحكم في العباد. ومنذ انقطاع الوحي صار الاجتهاد والمصالح المرسلة هما القاعدة لأن مفسر كلمة الله ومشرع الأمة الأوحد وهو الرسول قد انتقل إلي الرفيق الأعلي. وعندما يصدر رئيس مجلس الشوري قرارا بوقف أحد رؤساء التحرير بصحيفة كبيرة عن العمل والتحقيق معه في واقعة نشر خبر سواء أكان صحيحا أم غير صحيح.. فإنه لا يسعني إلا أن أقول إن الحرية تختنق. عندما أقرأ أن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين يصف الصحفيين بأنهم سحرة فرعون أعتبر ذلك الوصف إهانة بالغة إلي مهنتي ورسالة تحذير وإنذار هدفها ترويض الشرفاء وتكميم الأفواه.. ولا يسعني إلا أن أقول إن الحرية تختنق. وعندما أشاهد مسئولا كبيرا بجماعة الإخوان المسلمين يوجه اتهامات خطيرة لمقدمة أحد البرامج الشهيرة بالتليفزيون ويهددها تهديدا مبطنا.. فلا يسعني إلا أن أقول إن الحرية تختنق. وعندما يتم وقف مذيعة بالتليفزيون عن العمل لمجرد أنها تجرأت وبعثت برسالة لوزير الإعلام عبر موقعها علي الفيس بوك تحثه علي إجراء إصلاحات بمبني ماسبيرو.. فلا يسعني إلا أن أقول إن الحرية تختنق. وعندما أشاهد علي اليوتيوب فيديو لحشد من الشباب والرجال الهائجين والصائحين يحاصرون منزل شخص ويحاولون الفتك به لدي نزوله لولا تدخل بعض القلوب الرحيمة, وأفاجأ بأن عنوان الفيديو هو القبض علي ملحد فإني أتذكر ما قرأته عن مطاردة الساحرات في القرون الوسطي الأوروبية وأستحضر في ذهني الأفلام التاريخية التي شاهدتها عن هذه الفترة المظلمة فلا أجد فارقا بين المتطرفين الذين كانوا يحرقون النساء والرجال ويسحلونهم بتهمة السحر والزندقة, وبين هؤلاء المتشنجين الذين ملأت قلوبهم مشاعر الكراهية والبغضاء تجاه ذلك الشاب المتهم بالإلحاد.. ولا يسعني إلا أن أقول إن الحرية تختنق. وحينما تقوم مدرسة بقص شعر تلميذتين في سن الطفولة بالمدرسة الابتدائية لرفضهما ارتداء الحجاب وهو اعتداء صارخ علي إنسانية الفتاتين وقمع لحرية الاختيار التي حباهما الله بها.. لا يسعني إلا أن أقول إن الحرية تختنق. وكل هذه المؤشرات تدلنا علي اتجاه الريح وأنه إن لم نهب لمواجهة موجة التطرف الفكري والتعصب الديني المقيت فسوف يضيق الخناق أكثر وأكثر علي الحريات العامة والخاصة.. الحرية تختنق.. فمن ينقذها؟ المزيد من مقالات شريف الشوباشي