في كتابه الإسلام والنصرانية استعاذ الشيخ محمد عبده بالله تعالي من السياسة ومن لفظ السياسة, ومن كل حرف يلفظ في كلمة السياسة, ومن ساس ويسوس ومشتقاتها!! حين أفضي الشيخ الجليل بهذا القول كان منخرطا من قمة رأسه إلي أخمص قدميه في تيار الحركة الوطنية المصرية الدافقة آنئذ, إذ كان الشيخ- في تلك الآونة منفيا إلي بيروت, يدفع في منفاه عن طيب خاطر ضريبة الوطنية الخالصة التي كان يجهر فيها بالحق ويصدع بالصدق, شأنه في ذلك شأن أقرانه ولداته من شيوخ الأزهر, عازفا عزوفا رفيعا عن اعتلاء موجة لعبة السياسة وجني أرباحها الآنية, ومنافعها البراقة, بل كان قصاري همه: توجيه دفة الوطن إلي وجهة الإصلاح بشتي ضروبه واتجاهاته, الهادئة تارة, والهادرة تارة أخري!! ولم يكن الشيخ محمد عبده في هذا الموقف المبدئي الثابت الذي يميز تمييزا واضحا بين الوطنية الصادقة من جهة, وبين لعبة السياسة من جهة أخري: بدعا من شيوخ الأزهر, فالذاكرة المصرية لم تزل واعية بما صنعه أسلافه من علماء الأزهر في ثورتي القاهرة الأولي, والثانية ضد الفرنسيين, بيد أنهم أعني أسلافه من العلماء الذين حملوا ألوية الثورتين لم يصنعوا ما صنعوا طمعا في ولوج معترك لعبة السياسة, أو تطلعا إلي حصد مكاسبها ومطامعها, فلقد كانت العقلية الأزهرية الرصينة ولا تزال تمتلك من الحصافة وسداد الرؤية ما تتبين به الفارق الجوهري بين الوطنية النقية الخالصة من جهة, وبين لعبة السياسة من جهة أخري, حيث المناورات والتنازلات والمقايضات بغض النظر عن مدي الأخلاقية فيها وحيث لا يحسن هؤلاء الشيوخ: المكر والخداع, أو الإظهار والإضمار, إلا إذا بدلوا جلودا غير جلودهم وعقولا غير عقولهم, ومسلكا غير مسلكهم!! وأكبر اليقين أن هذا الموقف الأزهري المبدئي لم يكن يعني البتة: إنكارا أو تنكرا لما يضمه التراث الإسلامي التليد في جنباته مما اصطلح علي تسميته في هذا التراث السياسة الشرعية, تلك التي أفني كثير من جهابذة العلماء علي امتداد القرون: أعمارهم وأبصارهم في تمحيصها, والكشف عن مصادرها من الكتاب والسنة, ثم في تحديد هدفها الرئيس وهو إصلاح الراعي والرعية كما ينطق بذلك عنوان أحد المصادر المهمة في هذا المضمار. وبنفس القدر فلم يكن هذا الموقف في نفوره من لعبة السياسة يعني البتة أيضا: هدما أو نقضا لما حدده حجة الإسلام الغزالي هدفا مباشرا لهذه السياسة الشرعية, وهو علي حد تعبيره (استصلاح الخلق بإرشادهم إلي طريق النجاة في الدنيا والآخرة). إن من الواضح البين للأبصار والبصائر أن استصلاح الخلق وإرشادهم إلي طريق النجاة في الدنيا والآخرة لا يتفق البتة مع الوسائل والأساليب التي ينتهجها دهاة لعبة السياسة ومحترفوها, حيث يختلط الصدق بالبهتان, وحيث الاستجداء المقيت للانفعالات والشعارات, وحيث تستخدم مصطلحات الدين وأبجدياته استخداما زئبقيا ماكرا, فإذا بالناس أمام هجين مختلطهو إلي التيه أقرب, وإلي الزيف أدني, ولا عجب فهولاء يمرحون في فضاء لعبة السياسة التي تهتز فيها المعايير, والتي بينها وبين السياسة الشرعية بون بعيد!! وكما اختلطت في هذا الهجين لعبة السياسة بالسياسة الشرعية فقد اختلطت أيضا بالوطنية حتي خيل لبعض اللاهثين في حلبةلعبة السياسة أنهم بذلك يضخون الدماء في عروق الوطنية, دون أن يدركوا أن الاستغراق في لعبة السياسة والانغمار في نفعيتها وبراجماتيتها يصيب الوطنية بغبش الرؤية, واختلال الوجهة, وانحراف المقصد!! أما الأزهر الشريف فلم يك يوما أحد أطراف لعبة السياسة ولن يكون, بل سيظل راسخ القدم ثابت الجنان, مخلصا لوطنية أمته, حافظا لدينها القويم, وسياسته الشرعية, وراعيا لوسطيتها وتوازنها, مركزا همه وهمته في استصلاح الأمة وتصحيح مساراتها بمنأي عن سراديب لعبة السياسة, ومنزلقاتها ومنحنياتها!! المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى