في عبارة شهيرة للشيخ محمد عبده في كتابه الإسلام والنصرانية استعاذ الأستاذ الإمام بالله تعالي صراحة من السياسة, بلفظها ومعناها, ومن كل حرف يلفظ في كلمة السياسة, بل ومن ساس و يسوس ومشتقاتها!! وأكبر اليقين أن استعاذة الأستاذ الإمام هذه لم تكن من السياسة بالمفهوم السديد الناصع الذي يعني: استصلاح الخلق بإرشادهم إلي طريق النجاة في الدنيا والآخرة, كما قصد إليه الإمام الغزالي مثلا. كما لم تكن تلك الاستعاذة مما يدعوه جمهرة علماء المسلمين ونحن من ورائهم بالسياسة الشرعية التي تجعل محور اهتمامها منصبا علي توجيه الأمة إلي ما يتفق مع روح الشريعة, وما لا يناقض قطعياتها ومقاصدها, بل كانت استعاذة الأستاذ الإمام بالقطع واليقين متجهة إلي السياسة بالمعني الزئبقي النفعي الفضفاض, الذي يفتح الباب واسعا أمام سدنة السياسة ودهاتها لاستخدام شتي الوسائل ومختلف الممارسات أيا كان نصيبها من الحق والصدق والأخلاق لكي تكون لهم: الغلبة في حلبة المعترك السياسي, حساباته وتوازناته, ومقايضاته, ومناوراته, مما يمكن إيجازه بأسره في عبارة واحدة هي لعبة السياسة!! في ضوء هذه التفرقة الجوهرية السالفة يصبح من الضروري أن يقوم العقل المتبصر بمراجعة بعض المفاهيم الذائعة الشائعة في المرحلة الراهنة, استهدافا لتحرير المصطلحات مما يشوبها من غموض والتباس ينبغي الحذر منهما, لا سيما حين يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية الفاصلة. في ضوء هذه التفرقة الجوهرية السالفة بين السياسة و لعبة السياسة يصبح من الضروري أن يتوقف العقل المتبصر مليا أمام العبارة الشائعة الذائعة وهي رفض الفصل بين الدين والسياسة, ثم أمام العبارة المرادفة لها وهي انه قد انتهي العصر الذي كان يقال فيه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة فإطلاق تلك العبارات علي عواهنها, وتعميمها المقصود أو غير المقصود ينطوي علي قدر من الإيهام فأي سياسة تلك التي يراد عدم الفصل بينها وبين الدين, بل ودمجها فيه, ومزجها بنسيجه؟ وأي دين هذا الذي يقبل أن يقحم عليه ذلك المفهوم الزئبقي الفضفاض في لعبة السياسة ذات التوازنات والمناورات والمنحنيات؟؟ ثم إنه ينبغي الإشارة هنا إلي أمور عدة: أولها: إن غرض الأغراض وغاية الغايات من لعبة السياسة كما تنطق بذلك السوابق واللواحق هي حيازة الحكم والظفر به, واعتلاء سدته, وإعطاؤه الأولوية القصوي فوق وقبل بذل الجهد واستفراغ الوسع في سبيل صلاح البشر, والانحراف من دخائلهم, وعلاج دوافع الفساد في بواطنهم, وأكبر الظن أن هذا الإصلاح الفوقي إن سميت حيازة الحكم إصلاحا إنما هو كالهرم المقلوب, أو كالقفز إلي النتائج قبل المقدمات. أجل.. إن لعبة السياسة قد تنتهي إذا توافرت لها الحرفية والمهنية في الاستناد الملتبس إلي الدين: إلي تسنم ذروة الحكم, ولكن هرمها المقلوب بما يتبعه من توابع: قد يؤدي إلي تجاوزات شتي, بادية للأعين, وحينئذ يتم نسبة تلك التجاوزات لا إلي السياسة, بل إلي الدين نفسه, أخذا بتلك القضية الملتبسة بالدمج والمزج بين الدين والسياسة, وفي هذا ما فيه من تجاوز علي حقائق الدين وعلاجه لمشكلات البشر!! ثانيها: أنه حين يقال أنه لا فصل بين الدين والسياسة فإن عباءة الدين تنبسط بالتبعية علي لعبة السياسة ذاتها, وحينئذ يتم إسباغ قدسية الدين علي آليات السياسة ومناوراتها وأدواتها, باعتبارها وسائل تأخذ حكم الغايات, ولكن ألا ينقلب النسبي حينئذ: مطلقا, والبشري آنئذ: مقدسا؟ ثالثها: إنه حين يقال أن لا فصل بين الدين والسياسة فإن هذا المزج والدمج بين هذين الطرفين: يتضمن إغفالا وإهمالا لحرص الفكر الإسلامي في مختلف أدبياته علي أن يظل الدين المنزل في كثير من جوانبه في مرقاة عالية بحسبانه المثل الأعلي الذي تطمح البشرية في مختلف عصورها إلي الدنو منه والاقتراب من سمائه, فالفقه بمجمله محاولة اجتهادية للاستنباط من الشرع, وفي داخل الفقه ذاته محاولة لالتماس الظنيات من القطعيات, بل إن السياسة الشرعية ذاتها محاولة للاقتراب من الأطر الفقهية العامة, وكل تلك المحاولات الاجتهادية لا تعني علي جلالها وقدرها المزج والدمج بينها وبين الدين, وإلا ما كانت محاولات اجتهادية أصلا. فكيف يقول من يقول بالمزج والدمج بين السياسة حتي في آلياتها وممارساتها وبين الدين نفسه, مع أن تلك الآليات والممارسات تكتظ بالمنحنيات المتعرجة والمصالح المشتجرة؟! رابعها: إن السياسة الشرعية وحدها حتي حين يراد دمجها بالإسلام ومزجها بنسيجه فليس معني هذا أنها تحوي الإسلام كله, فالإسلام ليس سياسة فقط, وليس نظام حكم فحسب, وليس نظاما اجتماعيا مجردا, إنه بالإضافة إلي ذلك كله حضارة عقل, وحضارة قلب, وحضارة عمران, إنه حضارة المنطق والفلسفة, وعلم الكلام, وحضارة الفن والشعر والأدب, وحضارة التصوف والذوق والوجدان, وحضارة الاستقراء العلمي, والاكتشافات الكونية, والسبق الكشفي, والعمران البشري, ففي بوتقة الإسلام ينصهر ذلك كله, أما أحادية النظرة إلي الإسلام وحصره في جانب واحد من جوانبه ذات الثراء والتنوع, والخصوبة والتدفق وهو جانب الحكم والسياسة فذلك ما ينبغي إعادة النظر فيه. الدين والسياسة.. ولعبة السياسة المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى