لعب الأزهر الشريف في مصر علي مدي الفترات التاريخية مدير مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة. المتعاقبة مجموعة من الأدوار التي تراوحت بين الصعود تارة, والهبوط تارة أخري في محاولة لتحديد طبيعة العلاقة بين كل من الدين والدولة, فلا يخفي علي عين المراقب الواعي الدور المتنامي لهذه المؤسسة الدينية التي طالما كانت صرحا شامخا لأكثر من ألف عام, يتمتع برؤية ثاقبة وفهم عميق لصحيح الدين. ومن هذا المنطلق تتبدي الرغبة في الاحتكام إليه لتحديد أطر هذه العلاقة, وبيان أسس السياسة الشرعية الصحيحة التي ينبغي انتهاجها, ارتكازا إلي خبرته المتراكمة, وتاريخه العملي والثقافي ولعل ذلك ماقاد الأزهر الي مبادرته بإنشاء بيت العائلة في ظل شراكة وطنية مع الكنائس المصرية لمواجهة أي صدام طائفي محتمل, هذا وقد تجذر دور الأزهر بعد إصداره الوثيقة التي توافقت علي ضرورة تأسيس مسيرة الوطن علي قواعد كلية شاملة تناقشها قوي المجتمع المصري لتصل في النهاية الي الأطر الفكرية الحاكمة لقواعد المجتمع. ولقد تجلي الموقف المتميز للأزهر في تأكيده دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة, التي تعتمد علي دستور ترتضيه الأمة, يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة, ويحدد إطار الحكم ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها علي قدم المساواة, بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب, بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح, حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولاحضارته ولاتاريخه مايعرف في الثقافات الأخري بالدولة الدينية التي تتسم بالسلطوية, وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ, بحيث ارتأي الأزهر ترك الناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم, شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع, وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخري الاحتكام إلي شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية, وهي من أهم النقاط المثارة في الجدل السياسي بما يستأهل محاولة لم الشمل, وتحقيق حد أدني من التوافق حولها. وفي ظل ماتشهده الساحة المصرية من أحداث متواترة تدعو في مجملها إلي مزيد من الحزن والأسي نجد العديد من الأقلام تنبري في محاولة للتشكيك في مختلف القوي السياسية, بحيث تعالت صيحات التخوين وكيل الإتهامات, وبات من الصعوبة بمكان إبداء الثقة في مؤسسة من مؤسسات الدولة المختلفة, وهنا يثور التساؤل حول طوق نجاه محتمل يمكن ان يلتف حوله المصريون, ويعكس قدرا من التوافق الذي نفتقده في هذه الآونة. وهنا يبرز جليا الدور الذي يمكن أن يلعبه الأزهر الشريف الذي طالما لعب دورا محوريا في كثير من حقب التاريخ المصري المتلاحقة, وحظي باحترام المصريين وجميع مسلمي العالم, وهنا تحضرني واقعة للتأكيد علي المكانة التي يتمتع بها الأزهر كمؤسسة كبري ينطر اليها من العالم العربي والإسلامي بقدر كبير من الاحترام والتقدير, بحيث تمتد هذه المكانة الي القارة الآسيوية, فقد حرصت القيادة الماليزية السابقة متمثلة في عبد الله بدوي علي الظهور مع الامام الراحل الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق وذلك قبيل الانتخابات الماليزية لمجرد تدعيم مكانته علي الصعيد الداخلي في بلده( حيث كانت شرعيته قد تراجعت الي أدني مستوي) وذلك نظرا للمكانة التي يتمتع بها الأزهر, والتي يمكن ان تسهم في تقوية مركزه السياسي وهو ماحدث بالفعل. إن الأزهر يعد المؤسسة التي استطاعت الأخذ بزمام المبادرة بإصدارها وثيقة الأزهر التي مثلت بحق نبراسا يستضاء به, ومع تأجج الفتن يثور التساؤل حول مدي إمكانية الأزهر حاليا أن يقوم بدور يلقي بصيصا من الضوء علي الظلمة الحالكة التي نمر بها. ولعل مما تجدر الإشارة إليه ان الأزهر حرص علي استجلاء إحدي نقاط الجدل الثائرة علي الساحة السياسية والتي ترتبط بالحريات, حيث نوه الي ضرورة الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي, مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل, والتأكيد علي مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية, واعتبار المواطنة مناط المسئولية في المجتمع. وشددت الوثيقة علي ضرورة الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار, وضرورة اجتناب التكفير والتخوين, واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين, مع اعتبار الحث علي الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن, ووجوب اعتماد الحوار المتكافيء والاحترام المتبادل والتعويل عليهما في التعامل بين فئات الشعب المختلفة دون أية تفرقة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين, إن الدور المحوري الذي يلعبه الأزهر والذي تجسد في المبادئ التي تطرقت اليه وثيقته يعد بحق استجابة لمطالب الثوار الشباب والشهداء من أبناء الشعب المصري, مسلمين ومسيحيين, الذين رفعوا شعار المطالبة بإرساء دولة مدنية, وهو شعار يطرح في العمق قضية العلاقة بين الدولة والدين, أو بين السياسة والدين, بعد اكثر من مائتي عام علي تأسيس محمد علي باشا للدولة المدنية الحديثة في مصر عام1805, وهو مايسعي الأزهر من خلال وثيقته التاريخية علي دعمه وتأكيده من خلال إبرازه التناقض الجوهري والأساسي بين الدولة المدنية والدولة الدينية, فالدولة المدنية تسمح لجميع المواطنين بممارسة عقائدهم بحرية ودون تمييز وبنفس الشروط علي أساس حق الجميع في المواطنة بالتساوي. خلاصة القول إن الأزهر قد حرص علي تحديد طبيعة العلاقة بين كل من الدولة المدنية والدينية, بأن رسخ مفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية الذي يعد حجر الزاوية لنجاح المشروع الوطني بما يضمن إنهاء حالة الاحتقان الطائفي وأبعاد مخاوف إرساء دعائم دولة دينية أو عسكرية, وهو الهاجس الذي بات يشغل حيزا متناميا من شواغل المحللين السياسيين في الآونة الأخيرة, فهل يكون الأزهر بمثابة طوق نجاة في ظل هذا المناخ المشحون بالشك والريبة, هذا ما نأمله وماسوف تفصح عنه الأيام المقبلة بعد تصاعد الأحداث الأخيرة في بورسعيد؟