وسط خطي التقارب المتسارعة التي يخطوها الجانبان العربي والتركي لتعزيز المشاركة الاستراتيجية بينهما علي أكثر من صعيد. و ذاع صيت الجمعية التركية العربية للعلوم والثقافة والفنون ورئيسها المفكر التركي ذي الأصول العربية الدكتور محمد العادل. و الذي يلقب بسفير الثقافة العربية في تركيا.ومن ثم كان معه هذا الحوار في مقر الجمعية بالعاصمة التركية أنقرة. عن موضع الثقافة في التقارب العربي التركي الراهن يقول: لقد شهدت العلاقات التركية العربية خلال السنوات القليلة المنقضية تطورا لافتا علي جميع الأصعدة, لكن الملاحظ ان الصعيد الثقافي لا يسير بنفس وتيرة باقي الأصعدة, فقد انحصر التقارب العربي التركي ما بين الاقتصاد والسياسة فقط ولم يعرج علي نحو جاد الي المناحي الثقافية والفنية والعلمية, علي الرغم من أننا في الجمعية نوقن بأن التواصل الثقافي هو صمام الأمان لأي تقارب عربي تركي, لأن إبقاء هذا التقارب سياسيا أو اقتصاديا بحتا سيجعله مرتهنا بقرارات الحكومات التي هي متغيرة بطبيعتها. وما يجري بين تركيا والعرب لا يزال تقاربا جزئيا وتعاونا رسميا ولم يتحول إلي مشاركة استراتيجية بمفهومها الشامل.وعن مدي تهيئة الأجواء لتعزيز التواصل الثقافي بين تركيا والعرب يقول: أتصور أن هناك أرضية مشتركة مهمة يمكن للعرب والأتراك الانطلاق منها وهي التاريخ الذي يحمل تجارب مشتركة, وكذا الروابط الثقافية والحضارية, التي يأتي الدين في القلب منها, كذلك يجب أن نعلم أن البنية التشريعية في العالم العربي وتركيا مهيأة لهذا التقارب, لأن هناك اتفاقات تعاون ثقافي وعلمي تم إبرامها بين تركيا وغالبية الدول العربية. هذا إضافة إلي وجود رغبة ملحة وجادة من قبل الحكومة التركية الحالية لإعادة مد جسور التواصل الثقافي مع العالم العربي. وعن التاريخ في العلاقات التركية العربية أوضح أن التاريخ يمثل نعمة ونقمة في العلاقات العربية التركية. فهو نقمة, لأن بعض الأقلام سولت لها نفسها العبث به أثناء كتابته وسعت إلي تطويعه لخدمة أغراض استعمارية أو لخدمة بعض الدوائر التي لا تريد التلاقي بين العرب والأتراك. وهو يمثل نعمة لأنه حافل بالعديد من صور ونماذج التقارب والتواصل الناجحة التي يمكن البناء عليها والانطلاق منها مستقبلا. وفي ظني أن أفضل السبل التي يمكن أن تساعد علي تعظيم الاستفادة من التاريخ هي إعادة كتابته علي نحو موضوعي بأقلام عربية وتركية منصفة وموضوعية. وحتي تتم هذه العملية بنجاح, علي الجانبين التركي والعربي أن يتجنبا الخوض في المناطق الخلافية أو الحساسة من تاريخهم المشترك وينطلقا أولا من الأمور التي تبعث علي الوفاق والتقارب. وهنا أيضا تبرز أهمية الترجمة, التي يمكن أن تلعب دورا مهما في هذا الخصوص بحيث يتعاون الطرفان في ترجمة أمهات الكتب العربية الي التركية والعكس, فغالبية الكتب الموجودة حاليا بالمكتبات العربية والتركية تعود للعهد العثماني, كما أن الترجمة للتركية اقتصرت علي الكتب الفقهية والدينية فقط ولم تتسع لتشكيل كتب التاريخ والحضارة وغيرها من صنوف المعرفة التي يمكن أن تشكل أسسا صلبة للتقارب التركي العربي. وحول ترويج مصطلح العثمانية الجديدة وتأثيره علي التقارب الثقافي بين الأتراك والعرب يقول إن هذا المصطلح قد صاغته دوائر تركية وغربية وعربية غير راغبة في تحقيق التواصل الثقافي بين تركيا والعالم العربي والإسلامي. لأن أصحابها أرادوا من خلاله تفزيع المسلمين والعرب من التقارب مع تركيا مستندين إلي خبرة الماضي, التي تنطوي علي سوء فهم وتزييف للتاريخ. لذلك أتصور أنه ليس من مصلحة العلاقات التركية العربية الترويج لهذا المصطلح في المرحلتين الحالية والمقبلة. وعن تقييم الحضور الثقافي العربي في تركيا هذه الأيام كان السؤال فقال: يؤلمني كثيرا القول إن هذا الحضور لا يزال متواضعا قياسا إلي ما هو متاح ويمكن بلوغه في ظل الترحيب والقبول التركيين الواسعين هذه الأيام بكل ما هو عربي, لاسيما, المنتج الثقافي, ومقارنة بالحضور الثقافي التركي المتنامي والمنظم رسميا وشعبيا في العالم العربي خلال السنوات العشر المنقضية. والسوق الثقافية التركية هائلة وقادرة علي استيعاب المزيد. ويبدو أن السبب في ذلك الغياب العربي عن سوق الثقافة التركي يعود إلي تضاؤل الوعي العربي الرسمي بأهمية الساحة الثقافية التركية أو بالقدرة الاستيعابية لتلك الساحة. وهناك محاولات جرت أخيرا من الجانب التركي لدبلجة بعض الأعمال الدراسية العربية التاريخية والدينية وعرضها علي الفضائيات التركية, وقد لاقت إعجاب الأتراك, غير أنها كانت أعمالا محدودة ومقتصرة علي لون درامي واحد تقريبا بينما هناك أكثر من400 فضائية تركية تتسع لعشرات الأعمال الدرامية العربية, وهناك مئات المسارح ودور الثقافة التركية وعشرات المهرجانات التي يمكن للعرب أن يوجدوا فيها ويعرضوا بضاعتهم الثقافية الثمينة والتي يتوق إليها الأتراك. وأنا أنتهز هذه الفرصة لدعوة العرب إلي تفعيل دور مراكزهم الثقافية الموجودة حاليا في تركيا وإنشاء المزيد من تلك المراكز في عدد من المدن والحواضر الثقافية التركية, كما أهيب بالدول العربية أن تحدد ماذا تريد من تركيا مستقبلا وأن تضع استراتيجية واضحة لبلوغ غاياتها تتضمن الآليات والأدوات التي تساعدها علي ذلك. وعن دور المثقف العربي في هذا المجال يوضح أنه برغم الدور الذي يمكن أن نشيد به لكثير من المثقفين العرب في نهضة بلادهم وأمتهم, إلا أن الغالبية العظمي من المثقفين العرب لا تزال بعيدة عن واقع وقضايا بلدانهم ومصائر شعوبهم, فهي تؤثر العزلة والانفصال وتتجنب المبادرة ولا تبدي الاستعداد للبذل والعطاء والوعي بالمسئولية الملقاة علي عاتقهم. وبالتالي, يتعين عليهم السعي لمزيد من الاندماج والانخراط في قضايا أمتهم والسعي لبلورة آليات وتصورات متكاملة وفاعلة للتواصل الثقافي مع الجانب التركي وتعظيم استفادة بلادهم من ذلك التواصل. وبالنسبة للجانب التركي يبدو لي أن تركيا تعرف جيدا ما تريده من العرب ولديها استراتيجية واضحة, وهي تتصالح مع نفسها أولا توطئة للتصالح مع محيطها والعالم أجمع. إنها تعود إلي تركيتها التي فقدتها من قبل بسبب المتغربين, الذين نأوا بها بعيدا عن تركيتها وسعوا إلي تغريبها وسلخها عن ماضيها الحضاري والثقافي والديني. وقد بدأت مساعي تركيا للتصالح مع ماضيها منذ عهد عدنان مندريس في خمسينيات القرن الماضي, لكن هذه المساعي صارت عملية متواصلة مع عهد تورجوت أوزال في ثمانينياته, ثم اتخذت شكلا ممنهجا ومؤدلجا في عهد نجم الدين أربكان, حتي اكتملت ونضجت في عهد أردوغان, الذي استفاد من تجارب كل من سبقه علي هذا الدرب, ونجح في تحويل هذا التوجه التصالحي الإصلاحي من توجه حزب أو تيار إلي مشروع وطني لدولة. وعن دور الجمعية التركية العربية للعلوم والثقافة والفنون في هذا المضمار يقول: لدي جمعيتنا وعي كبير بضرورة تقوية أواصر التقارب الثقافي بين تركيا والعالم العربي, كما أنها تدرك أهمية الثقافة والتاريخ كآليات مهمة في هذا الإطار. فالجمعية تتبني منذ العام2009 مشروعا ضخما لإعادة الاعتبار للغة العربية في تركيا لتكون إداة مهمة للتواصل بين الجانبين وهي تنظم دورات لتعليم اللغة التركية في الدول العربية وأخري مماثلة لتعليم اللغة العربية في تركيا. وأحب أن أؤكد في هذا المقام أن الأتراك لا يعتبرون اللغة العربية لغة أجنبية في تركيا بسبب القرآن والإسلام, وإنما هي إحدي ثلاث لغات وطنية الي جانب التركية والكردية, فهي تشكل جزءا من نسيج الثقافة التركية. ونحن ننسق مع الجامعة العربية والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة في هذا المسعي ومع أقسام اللغات التركية والعربية في الجامعات التركية والعربية. كما أننا عاكفون في الجمعية علي بلورة مزيد من المشروعات والأنشطة العلمية والفكرية التي تعزز التواصل الثقافي بين تركيا والعالم العربي.