كلما طافت عينى على تلال الكتب التى تحيط بى فى بيتى ومكتبى وسمعت من يؤكد أن زمان الكتاب قد انتهي، وان أبناءنا وأحفادنا لن يعرفوا هذا الصديق الجميل الذى طالما أنس وحدتنا وأضاء عقولنا، وكان مصدر الإلهام والإبداع والتميز.. اشعر بحزن شديد أن هناك من ينزع من أيدينا فرحة العين وهى تعانق السطور ورائحة الحبر وهى تحتضن الأوراق ونبضات القلب وهى تتسارع خلف أبيات جميلة من الشعر أو أحداث مؤلمة فى رواية أو أفكار كم حلقت بنا فى سماء من الفن والإبداع والتألق.. هل صحيح أن الكتاب بدأ رحلة الوداع من دنيا البشر وأن جهازا صغيرا سوف يجمع كل شيء ابتداء بسخافات مواقع التواصل غير الاجتماعى وانتهاء بمسرحيات شكسبير واشعار المتنبى وروايات محفوظ وأشعار شوقي.. وأن هذا الصديق الوفى لم يعد يجد الرعاية فى بيت أو وطن أو زمان وقرر أن ينسحب اعتزازا بكرامته وتاريخه.. لقد قدم للبشرية أعظم عقولها وقدم للإنسانية أروع إبداعاتها، وحتى الآن مازالت المخطوطات القديمة أكبر شواهد الحضارة القديمة ومازالت تباع فى المزادات مثل الجواهر الثمينة ومازالت تزين جدران البيوت والمتاحف، ولا أدرى إذا انسحب الكتاب من حياة الناس فهل ينسحب تراث الكتب والمخطوطات من ذاكرة الشعوب.. أشعر بحزن شديد أن أبناءنا وأحفادنا لن يعرفوا متعة العلاقة بين الإنسان والكتاب لن يشعروا بدفء الكلمات فى ليلة شتوية باردة.. لن يشعروا بنبضات حلم يخبو فى حوار أو عتاب أو مساءلة.. إن الشيء المؤكد أن الحياة سوف تزداد فقرا، وأن النفوس سوف تزداد توحشا، وان الإنسان سوف يفقد أصدق أصدقاء البشرية عطاء ونبلا.. هل يمكن أن يجيء يوم ولا تجد فى البيت كل البيت كتابا واحدا يذكرك بهذا الصديق القديم هل يمكن أن ينسى أحفادك صورة الكتاب ولا يذكرون من ملامحه شيئا.. فى يوم من الأيام عشنا مأساة احتراق الأوبرا فى قلب القاهرة وكان يحيط بها سور الأزبكية كنت تزوره وتجد آلاف الكتب القديمة والحديثة، وكانت أسعاره تناسب القروش التى معنا ومن سور الأزبكية عرفنا صداقات كثيرة مع مئات الكتاب والمبدعين والشعراء والروائيين وكنا فى إجازة نهاية العام الدراسى نحمل عشرات الكتب لكى نعيش معها شهور الصيف.. وذات يوم هبت عاصفة غليظة على سور الأزبكية، وفجأة وجدنا الأحذية تحتل أماكن الكتب وتحول السور العريق إلى معرض لبيع وشراء الأحذية ومنذ حلت الأحذية مكان الكتب بدأت مأساة العقول.. لا أنكر أن هناك مناسبات كثيرة شعرت فيها بحزن عميق وأنا أشاهد امتهان الكتب.. سمعت يوما كاتبنا الصديق الراحل أنيس منصور يحكى قصة عباس العقاد وهو يبيع جزءا من مكتبته لأنه يمر بأزمة مالية.. كان العقاد يكتب مقالا أسبوعيا فى جريدة الأخبار مقابل 50 جنيها.. وحين علم أنيس بالأزمة التى يعيشها العقاد ذهب إلى مصطفى أمين وحكى له القصة وطلب أن يصرف للعقاد مبلغا تحت الحساب.. ووافق مصطفى أمين وأمر بصرف 200 جنيه للعقاد.. وحملها انيس منصور لكى يسلمها للكاتب الكبير ولكن العقاد غضبا غضب شديدا ورفض أن يأخذ النقود من أنيس منصور قائلا أنا أحصل على أجر ما كتبت فقط.. فماذا افعل فى رد هذه النقود إذا لم اكتب غدا.. أعد الأموال إلى أخبار اليوم مع شكرى لمصطفى أمين.. تصور ابنك أو حفيدك لو حاولت يوما فى عيد ميلاده أن تقدم له كتابا كهدية وهو لم يقرأ كتابا فى حياته.. انه لا يعرفه.. ولم يسمع عنه.. وتراه واقفا أمامك يسألك ما هذه الهدية؟.. ولن تجد الإجابة.. إن وداع الكتاب ليس قضية عادية خاصة أن هناك من يؤكد انه ينسحب فى هدوء ولا أحد يعلم ما هو مصير الكتب التى أصبحت جزءا من تاريخ وحياة البشرية.. إن الكتاب كل يوم يفقد مكانته بين الناس وفى المكتبات، بل انه يفقد مكانته تماما فى المدرسة والجامعة ودور البحث ولا ندرى ماذا يبقى لنا بعد ذلك.. إن الكتب السماوية وهى عقائد البشر مازالت حتى الآن كتابا محفوظا فى قلوب أصحاب الديانات، وهناك قواعد لطبع هذه الكتب تحفظ لها قدسيتها، ولنا أن نتصور أن تعبث بها الأيادى والأقلام على شبكات النت ومواقع التواصل الاجتماعى لنا أن نتخيل جماعات المغامرين من أصحاب الفكر المريض لو تجرأت أيديهم وعبثوا فى الكتب السماوية ولا يمنعهم أحد.. كيف تضحى البشرية بتاريخها الإبداعى الذى قدمته عقولها فى آلاف السنين أين يذهب هذا الإبداع وسط تلال الديسكات والشاشات والمواقع، ومن يحفظ هذا التراث إذا تعرضت تكنولوجيا العصر لهجمات تخريبية من اى مكان؟ إن الثقافة العربية قامت كلها على مجموعة من الكتب لأنها ثقافة كتاب، إن القرآن الكريم هو مصدر اللغة العربية وما جاء بعدها من توابع ولنا أن نتصور واللغة العربية تعيش أسوأ أيامها والإسلام يتعرض لأكبر هجمة وحشية فى تاريخه ثم لا يجد أبناؤنا بين أيديهم لغة يحفظونها أو تاريخا يعيشون عليه أو كتابا سماويا يرجعون إليه.. إن محنة اللغة العربية سوف تزداد تعقيدا مع اختفاء مناهجها وانسحاب كلماتها وغياب الثوابت التى كانت تحفظها.. إن القضية رغم أنها أصبحت واقعا حضاريا إلا إنها تمثل تهديدا لثقافات البشر باختلاف نوعياتها وشعوبها وعقائدها.. لقد أصبح الحديث واقعا عن تراجع أهمية الكتاب فى هذه المرحلة من تاريخ البشرية، وان على البشر ان يستجيبوا لمقتضيات الحضارة والعصر، وان هناك بدائل أكثر تأثيرا ولكن يبقى السؤال هل يستغنى الإنسان المعاصر بكل ما حمله من مكونات عن صديقه القديم الكتاب.. هنا وقبل أن تدخل البشرية هذه المغامرة وهذه التضحية ما هو البديل إذا وجدنا يوما أساليب التكنولوجيا الحديثة لا توفر الأمان الكافى لما سيبقى لدينا من الكتب، خاصة ان الاستغناء عن الكتاب حولها إلى ديسكات على وسائل التكنولوجيا الحديثة.. ماذا لو حدث هجوم الكترونى على تراث الأمم والشعوب من أساليب حديثة فى التجسس والتخزين وتدمير الثوابت بحيث تصحو الشعوب على أطلال ما كان لديها من التراث والقيم.. إن الملايين من أبنائنا الآن لا يعرفون لغتهم العربية فقد غابت عنهم كثيرا أن آخر ما بقى لهم فقط ربما صوت الشيخ محمد رفعت، وهو يتلو سورة مريم، أو دعوات النقشبندي، أو أغنيات ولد الهدى أو إلى عرفات الله.. إن المدرسة لا تعلم اللغة العربية بل تعلم لغة الدولة التى تنتمى إليها وترفع علمها.. ولا أدرى هنا هل ستبقى مكتبات المدارس وماذا يقرأ الاطفال فيها وهم لا يتحدثون العربية؟ صحيح إن المكتبات غابت من سنوات وتحولت إلى مطاعم وكافيهات.. فماذا يقرأ أبناءنا ما دامت الكتب قد قررت الانسحاب من بيوتنا ومدارسنا ودور العبادة عندنا؟ إن مهنة النشر تنقرض أمامنا من سنوات وانسحب الناشرون إلى ممارسة أنشطة أخري، وبعد فترة قصيرة سوف تتحول المكتبات إلى بازارات لبيع التحف والتماثيل القديمة.. وسوف يسأل الإنسان عن كتب أحبها ولا يجدها فى الأسواق .. لن يجد قصة الحضارة ولا شخصية مصر ولا حديث الأربعاء، ولا العبقريات، ولا رجال حول الرسول، ولا الأيام، ولا فى بيتى ولا الحرام، ولا الثلاثية، ولا المتنبى وشوقى وشكسبير وبودلير وناجى والمجنون، ولن يجد كتب هيكل وأنيس منصور وفتحى غانم وعبدالحليم عبدالله ورجاء النقاش.. ماذا يبقى لأجيالنا القادمة لو أن الكتاب فى لحظة ثورة وغضب ثار من أجل كرامته وقرر أن ينسحب تاركا كل شيء.. إن العالم كله يصرخ لقد انتهى زمن الكتاب وبدأت شواهد المؤامرة على وجوده ودوره وتاريخه، وان البشرية تنتظر هذه النهاية المؤسفة أن تجمع كل تاريخها وإبداعات شعوبها فى صندوق صغير لن تجد فيه شيئا إذا انقطع تيار الكهرباء أو سقط منك فى بؤرة مياه عفنة.. إن التضحية بالكتاب ستكون جريمة الحضارة وهى تعيش أزهى مراحل إنجازاتها.. سوف يرى البعض إن البدائل العلمية سوف تقوم بدور الكتاب، ولكن أين والكتاب وكل شيء أنكر قيمته واستغنى عنه رغم انه كان دائما حصنا من حصون الحضارة بل كان أباها الشرعي.. أرجوك قبل أن تبيع ما لديك من الكتب إذا كنت مثلى عاشقا قديما من عشاقها اجمع لأحفادك الصغار بعض الروايات وقليلا من أبيات الشعر وبعض الدروس فى اللغة العربية المنسية وصفحات من تاريخ نعتز به وبعض صور لشخصيات أثرت فينا وأحببناها ربما تجد ذلك كله على دسك أو شاشة موبايل أو تابلت صغير يجب أن نغيره كل عام أو ربما أقل.. سوف تبكى البشرية دوما على صديق رائع وجميل اسمه الكتاب فرطت فيه ونسيت تاريخه ولم تدرك قيمته..