هناك قضايا حسمت وانتهى زمانها أمام حقائق ثابتة تأصلت فى ضمير الناس وأصبحت جزءا من ثوابت حياتهم حاضرا ومستقبلا .. ولكن هناك فئة من الناس دائما تحاول أن تنبش فى القبور وتتصور أن الأموات قاموا فى أكفانهم وأن ذلك يمكن أن يغير حقائق التاريخ .. إن الغريب فى الأمر أن يتصدى لمثل هذه الأعمال أناس لا علاقة لهم بما يتحدثون فيه,فأنا لا أتصور طبيبا يصلح سيارة أو مهندسا يجرى عملية جراحية أو مقاولا يصنع سفينة فضاء .. نحن نعيش فى عالم تخصص فى كل شىء وأصبح التخصص والمعرفة والحقيقة من ثوابت هذا العصر ولكننا فى مصر نغالط الحقائق ونكذب على أنفسنا ونزور تاريخنا.. ولعل هذا ما أكده الرئيس عبدالفتاح السيسى حين قال: ينقصنا الوعى والفهم وهذا يعنى أن نعود إلى مصادر الأشياء ولا نكتفى بظواهرها. فى يوم من الأيام جلس المصريون على المقاهى يرسمون صورة الحرب مع إسرائيل فى عام 67 واختلفوا وتحول كل فرد إلى خبير استراتيجي فالطائرات سوف تجىء من الغرب ولن تجىء من الشرق والهجوم من البحر وليس من البر والمعركة سوف تستغرق ساعات ونكون فى تل أبيب.. ولم يحدث شىء من ذلك كله ولكننا الآن عدنا نعبث فى تاريخنا ونشوه كل الحقائق فيه وعادت ريما إلى عادتها القديمة.. على شاشات الفضائيات المصرية الآن تطلع أصوات تقول إن مصر فرعونية وليست عربية وإن آثار الفراعنة هى شواهد تاريخنا ويخرج بعض الناس ويتحدثون فى ذلك ويقلبون كل حقائق التاريخ.. إن مصر فرعونية هذه حقيقة ومازالت آثارها الصامتة تؤكد ذلك ولكن مصر أيضا قبطية ومازالت شواهد كنائسها وأجراسها وشعبها وعقيدتها.. ومصر الإسلامية هى التى حملت للدنيا كلها الإسلام دينا وعقيدة وحضارة.. ولكن هناك من لم يقرأ صفحة واحدة فى تاريخ هذا الوطن ويريد أن يعود بنا آلاف السنين للوراء.. أنا لا أجد تعارضا على الإطلاق بين مراحل تاريخنا، لأن فى ذلك ثراء وقيمة ولكن لا ينبغى أن يغالط البعض فى الحقائق.. لا اعتقد أن هناك تعارضا بين فرعنة مصر وعروبتها ولكن هناك شواهد حية وشواهد ماتت.. إن مصر الإسلامية لها لغتها التى يتحدث بها مئات الملايين ولها آلاف المساجد وملايين المصلين إلا إذا كانت هناك صلوات فرعونية لا نعرف عنها شيئا.. إن هذا لا يقلل من تقديرنا لتاريخنا الفرعونى ولكن من الصعب أحياء هذا التاريخ فى قلوب الناس وضمائرهم، لأنه مجرد ذكريات شعب وليست واقعه الذى يعيشه.. إن ما يحدث الآن ليس جديدا ولكن كانت له جذوره الفكرية والثقافية وقد نادى به كبار كتابنا على فترات متباعدة، هناك من كان يرانا جزءاً من حضارة البحر المتوسط، كما رأى عميد الأدب العربى طه حسين أن مصر يجب أن تتجه شمالا وهناك من طالب بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية كما فعل أتاتورك فى تركيا وهناك من رأى أن مصر فرعونية حتى النخاع وأن كل ما جاء بعد الفراعنة شىء لا يذكر لإن العالم يعرف كليوباترا ونفرتيتى أكثر من أى امرأة أخرى فى تاريخ العرب والمسلمين.. هذه القضايا أثيرت فى أزمنة مضت ولكن التاريخ حقائق وثوابت وليس رغبات تحركها أهداف ومصالح .. إن البعض الآن يغازل مناطق نفوذ ترى أن خروج مصر من محيطها العربى انجاز ضخم وأن لدى المصريين تاريخ طويل يمكن أن يكون بديلا لعروبتها وإسلامها وكنائسها وفى تقديرى أن هذا فكر ضال ومضلل، لأننى من الصعب بل من المستحيل أن أفرض على شعب بكل هذا الزخم أن تستبدل رموزه.. كيف نسقط من تاريخنا صلاح الدين حتى لو كان لدينا أحمس؟ وكيف نستبدل المومياوات بما لدينا من تاريخ فى رحلة العائلة المقدسة أو رفات الحسين والسيدة زينب رضوان الله عليهم؟! .. إن هدم تاريخ مصر بكل مراحلها من أجل فرعنة تاريخنا ليس عملا طيبا إذا كانت النوايا صادقة.. لقد انتقلت كل هذه الأفكار إلى شاشات التليفزيون لكى يخرج علينا من يتحدث عن ثوابت التاريخ وهو لم يقرأ شيئا فيها، ماذا قرأ هؤلاء عن تاريخ مصر فى عصوره المختلفة؟! قد يرى البعض صفحات ملوثة بالدماء ولكن فى أى وطن من الأوطان كان التاريخ خاليا من الشوائب بل من الجرائم والأخطاء؟!.. أنا لا أتصور أن نطلق على فريق مصر فى كرة القدم «الفراعنة» يلعبون .. لا أحد من هؤلاء اللاعبين يحمل جينات الفراعنة إنهم أبناء الفلاحين المكافحين الذين حفروا قناة السويس وعاشوا على ضفاف نيلنا الخالد ومازالوا يعيشون فى هذا الوطن ويموتون شهداء فى سيناء كى يحافظوا على ترابه .. اننى أتعجب حين أشاهد مفكرا لا علاقة له بدراسة أو قراءة أو فهم التاريخ وهو يلغى عروبة مصر تملقا أو بحثا عن جائزة أو سفرية وفى المقابل يهيل التراب على كل رموزنا باختلاف مواقعها.. هناك تاريخ مات وهناك تاريخ حى والذى يحكم الفارق بينهما أن هناك بشراً يتكلمون وهناك صخوراً لا تنطق وليس معنى ذلك أن تاريخ الفراعنة مجرد صخور صامتة ولكن المؤكد انه لا أحد يتكلم.. إن القضية ليست قضية مصر وحدها ولكن نزع مصر من قلب عالمها العربى يمكن أن يهدد وجود هذه الأمة، لأن مصر هى العروبة وحين تتخلى مصر عن عروبتها فليس أمامنا غير الطوفان.. إن هناك من يقف وراء هذا الطرح وهو ليس جديدا.. إن مصر الفراعنة هى السياحة والمعابد والمقابر والمومياوات وكل هذا التراث الحضارى الخالد ومن حقنا أن نعرض ما لدينا من الكنوز ولكن لا ينبغى أن نترك أيادي أخرى تعبث فى تاريخنا وتلغى ذاكرة الأجيال وتقف بهم أمام أحاديث الصمت ورفات تاريخ لن ينطق ولن يتكلم .. إن إسرائيل على سبيل المثال تضلل العالم بأن العمال اليهود أقاموا أهرامات الجيزة وقد قالها بيجين للرئيس الراحل أنور السادات وما أكثر الأكاذيب التى يطلقها البعض حول دور اليهود فى مصر قبل أن يغضب الله عليهم.. أن تشويه التاريخ المصرى بكل رموزه يهدف إلى طرح بدائل أخرى لذاكرة الوطن ولم يبق فى جداول الانقسامات بين المصريين غير أن يخرج علينا البعض بأن مصر فرعونية وأن تاريخنا الفرعونى هو التاريخ الحقيقى وعلينا أن نسقط كل ما جاء بعده من الأحداث والرموز والشواهد.. هناك شىء يسمى التخصص فى أحداث التاريخ ومدارسه وبين أساتذة التاريخ لغة خاصة يتحاورون بها ويدركون قيمة التخصص وهؤلاء لهم حق الكلام والفتوى ولكن الحديث هنا عن المتطوعين بالباطل لتشويه ذاكرة الشعوب وهؤلاء لا ينبغى أن يسمع لهم أحد.. قد عانينا ومازلنا نعانى من فوضى الفتاوى فى الدين وكانت هذه الفوضى وراء كل ما حل بنا من الأزمات والمحن ابتداء بالتطرف وانتهاء بالإرهاب، وانقسم المصريون على أنفسهم ومازالت محنة الانقسامات تهدد عقل هذه الأمة .. إذا كنا نتحاور حول الخطاب الدينى وما يشهده من تناقضات فإن الخطاب التاريخى يتعرض لتناقضات شديدة لا تقل فى خطورتها عن الخطاب الدينى.. وما بين خطاب الدين وخطاب التاريخ تتسلل أفكار هدامة تبحث عن مصالحها هنا وهناك.. إن فوضى الأحكام والمواقف فى التاريخ توشك أن تفتح الأبواب لانقسامات أخرى وهنا لا بديل عن الحل.. أن نقطة البداية ألا نترك الساحة لكل من هب ودب ليتحدث فى التاريخ إلا إذا كان متخصصا فى فرع من فروعه ولكن أن يلتقط أحد بعض الكلمات من هنا وهناك ويفجر بها قضية فهذه خطايا الإعلام الذى يسمح بذلك.. يجب أن يراعى ذلك فى المناهج الدراسية فى مادة التاريخ خاصة أن تاريخنا تعرض لعمليات تشويه ضارية أفسدت الكثير من صفحاته وأن تكون هناك نظرة موضوعية على كل مراحله.. أن مصر لا بد أن تفخر بتاريخها وتحرص على أن يبقى فى ذاكرة كل مصرى فنحن فراعنة ونحن عرب ونحن مسلمون ومسيحيون ونحن المساجد والكنائس والعلماء والرهبان وهذا التاريخ الفرعوني الحافل جزء من ذاكرة أجيالنا القادمة.. وإذا كان البعض يتخذ من الفرعنة وسيلة للوصول لأهداف أو مصالح أو صفقات فعلينا أن نقف فى وجه هذا الشطط المشبوه.. إن عروبة مصر سوف تبقى متجسدة فى كل الشواهد الحية والباقية على ترابها، إنها جزء عزيز فى وطن يمتد فى قلب هذا العالم .. وهى تاريخ حضارى وثقافى عريق ومازال حتى الآن يشارك فى صنع الحضارة الإنسانية وليست بقايا حضارة انقرضت ولم يبق غير صمت شواهدها.. من واجبنا أن نحمى ذاكرة أجيالنا ولا نسقط منها شيئا ولكن هناك حقائق مازالت باقية وهناك حقائق أخرى لا مكان لها فى حياة الناس، هناك حضارات كثيرة اندثرت وشعوب غابت ولم يجلس أحد على أطلال تاريخه ضد الحاضر والمستقبل وليس هناك تعارض على الإطلاق بين تاريخنا الفرعونى وتاريخنا العربى بحيث يعتقد البعض أن العروبة أصبحت عبئا علينا ويجب أن نستبدل بها تاريخا آخر.. الدعوات الخبيثة التى تطل الآن على الشاشات دعوة لانقسامات جديدة ويكفى ما نحن فيه.. إن الفراعنة جزء عزيز من تاريخنا يجب أن نفتخر به ولكنه ليس كل التاريخ وإذا كانت فوضى الفتاوى فى الدين قد أغرقتنا يوما وضللتنا فلا ينبغى أن نقع فريسة فوضى الفتاوى فى التاريخ ونترك كل شئ لأصحابه