يقف العالم الأن حائرا امام تلك المتغيرات السريعة التى تشهدها الحياة كل يوم وكلها تدور فى منطقة المعرفة هذا العالم الفسيح الذى خلقه الإنسان لنفسه ووضع فيه كل ما يستجد من أسرار الحياة..أن هذا الجهاز الصغير الذى يحمله الأطفال والنساء والرجال يغنى الإنسان عن مئات المصادر التى كانت تقدم له كل مجالات المعرفة فى هذا الجهاز الذى يسمى الموبايل او النت او الفيس بوك أواليوتيوب وكل هذه التوابع من الأسماء فتحت أمام الإنسان أبوابا للمعرفة غيرت كل المفاهيم وخلقت عالما جديدا فى كل شئ ولم يعد الإنسان فى حاجة إلى البحث عن المعرفة فى آلاف المصادر نحن أمام عالم جديد ومن يشاهد طفلا صغيرا وهو يدور فى فلك هذا الجهاز الخطير يدرك حجم المتغيرات التى إجتاحت العقل البشرى.. كانت مصادر المعرفة واضحة ومحددة تجسدت فى صحيفة او مجلة او كتاب أو ثقافة سمعية أو مرئية ولكل مجال منها مصادره..لقد عاش الإنسان زمنا طويلا وهو رفيق للكتاب أو صديق للصحيفة ويوم اخترع الإنسان الطباعة كان ذلك فتحا مبينا فى تاريخ البشرية..وكانت الشعوب تتباهى بما تملك من الكتب والمكتبات وتفتخر بما انجزت فى الإبداع والفنون وأرتبط التقدم الحضارى بهذه الثورات الإبداعية فى الرسم والنحت والتصوير والشعر والموسيقى والفلسفة, وكان يكفى ألمانيا أن تنجب بيتهوفن وجيته ويكفى إيطاليا أن أنجبت دافنشى ومايكل أنجلو ويكفى انجلترا أنها أنجبت شيكسبير وملتون ويكفى الهند أنها أنجبت طاغور ويكفى العرب أنهم أنجبوا المتنبى وشوقى وأبن سينا وأبن رشد كانت هذه الأسماء تكفى وعاش العالم على هذه الوجوه التى أضاءت العقل البشرى فى الإبداع والفلسفة والملاحم والفنون. لابد أن نعترف أن العالم قد تغير كثيرا أمام واقع جديد مازالت هناك فئات تقدر هذه المساهمات التى قدمتها عبقريات نادرة فى تاريخ البشرية ولكننا لم نعد نجد فى مسيرة الحضارة مثل هذه الأسماء إبداعا وتأثيرا ووجودا. نحن امام واقع ثقافى وحضارى جديد لم تعد الفنون فى المقدمة ولم يعد الإبداع هو الطريق نحو التميز ولكن ظهرت أشياء ووسائل جديدة غيرت المفاهيم واستبدلت الأشياء.. أن الجميع يتحدث الأن عن نهاية دور الصحافة الورقية أن نجد أنفسنا يوما نقرأ كل شئ ونراجع أى شئ على صفحة مضيئة سرعان ما تختفى وتحل مكانها صفحة اخرى وان هذه المتغيرات الحادة لن تترك للإنسان فرصة لأن يختار أو يفكر أو يتأمل أن ايقاع الوسائل الحديثة فى التكنولوجيا يتطلب من الإنسان أن يفعل عدة أشياء فى وقت واحد أن يلعب وأن يقرأ وأن يسمع الموسيقى ويشاهد فيلما من أفلام الرعب ثم يخرج من ذلك كله بعقل منهك وإحساس مشتت وحالة من الضياع والوحدة..انه فى هذه الحالة إفتقد أشياء كثيرة هو لم يتحاور مع أحد ولم يسمع رأيا معارضا ولم يقرأ قطعة شعر تشجيه ولم يسمع اغنية تحرك خياله لأنه امام آلاف الصفحات التى يغرق فيها ولا يعرف طريقا للنجاة..أن البعض يرى أن رفقة الكتاب مضيعة للعمر والوقت والجهد ولكن رفقة هذا الجهاز الصغير تجعلك اكثر حيوية وانطلاقا..أن الكتاب يشبه الحجرة الصغيرة التى تدور فيها ولكن آلاف الصفحات التى تنتقل بينها تشعرك أنك تعيش فى مدينة كبيرة وأنت تجرى خلف الأشياء.أن هناك من يرى أن زمن الإبداع قد مضى ويكفى أن تشاهد أحد الموسيقيين وهو يقوم بتوزيع قطعة موسيقية على هذا الجهاز الصغير انه فقط يحتاج إلى جملة يقدمها وبعد ذلك تتحول إلى لحن صاخب بدون فرقة أو عازفين أو كورس أو ملحن أن فى ذلك توفير للنفقات والأموال وتوفير للزمن والوقت والأشخاص وربما لا تحتاج فى الأساس إلى موهبة موسيقية لأن الألة تكفى. أنت لا تحتاج إلى جهاز ضخم يسمى التليفزيون لأنك تستطيع أن تشاهد كل البرامج وتتنقل بينها على هذا الجهاز الصغير..لديك البرامج التافهة.. وسفسطة المذيعين والمذيعات وشتائم المسلسلات..وأفلام البورنو.. وأفلام الجريمة والقتل وقبل ذلك كله لديك ما يجرى فى دنيا السياسة من الأكاذيب والمؤامرات ومباريات كرة القدم والمصارعة الحرة كل هذا تستطيع أن تشاهده وأنت تجلس فى مكتبك أو تنام فى غرفة نومك وإذا كنت من عشاق السينما القديمة فكل شئ لديك إذا كنت مثلى من هؤلاء القوم الذين يعيشون فى الماضى فسوف تجد كل ما احببت من الغناء الجميل والأحاديث الممتعة ولن تحتاج إلى جهاز الجرامافون ومئات التسجيلات والأسطونات لأن هذا الساحر الصغير يجمع كل شئ من أزمنة الغناء الجميل.. أن الأزمة الحقيقية الأن ان هذا الساحر الصغير بعد سنوات قليلة سوف يجعل العالم كل العالم يقف امام ثقافة واحدة..وفنون واحدة..ولغة واحدة وان زمن إختلاف الثقافات أوشك على الرحيل..لقد تداخلت الثقافات الآن بصورة غير مسبوقة كانت هناك كتب مختلفة..وأفلام مختلفة..وغناء مختلف ولكننا نعيش الآن زمن التطابق فى كل الأشياء أن الأطفال لا يعرفون لغتهم ولا يسمعون أغانيهم ولا يشاهدون أفلامهم أن آخر الأجيال التى ربما مازالت تحفظ شيئا من ثقافتها هى ما بقى من الأجيال القديمة.. أن الأزمة الحقيقية أننا لسنا شركاء فيما يأتى إلينا من الثقافات وللأسف الشديد أنها ثقافات لم تغير شيئا فى العقول ولكنها غيرت الكثير فى الأجسام والحواس طعاما وملبسا وتفكيرا وسلوكا ولهذا فإن مخاطرها بدأت تظهر فى حياتنا بالتدريج بما فيها من مظاهر الخلل والتقليد.. لا أحد يرفض التقدم ولا أحد يرفض العصر الذى يعيش فيه لأنه سيعيشه رغم أنفه ولكن يجب ان يكون لنا نصيب فيه وأن نكون شركاء فى صنعه ونأخذ منه ما يحملنا لمستقبل أفضل وحياة أكثر كرامة. علينا ان نتابع ما يجرى فى حياتنا من المتغيرات السريعة التى كانت نتاجا طبيعيا لما تعرضت له شعوب كثيرة من هذه الحملة الشرسة التى تعرضت لها فى سلوكياتها وفنونها وأخلاقياتها وثوابتها.. لقد أفسد الفيس بوك رغم أنه شئ رائع فى فتح أبواب المعرفة والعلاقات بين الشعوب وتبادل الثقافات إلا أن هذا الإكتشاف الرهيب افسد لغة الحوار بيننا ونشر الجرائم..وشجع الشباب على الإرهاب..وكان طريقا للإنحلال والشذوذ وقدم نماذج مريضة للحريات وحقوق الإنسان.. أنه بالفعل عالم فسيح وواسع فى كل شئ إلا أنه غير الكثير من المفاهيم فى المجتمعات لكى يصل الى هدف واحد هو هذا الإنسان الفاقد للهوية والثقافة والعقيدة ضاعت على البشر كل أساليب الإبداع الحقيقى أمام مئات الملايين من البشر الذين يكتبون اى شئ وكل شئ ويشوهون تلك النماذج الرفيعة التى قام عليها العقل الإنسانى فى ابداعاته وتأملاته وثقافته..أن الفيس بوك الأن نسخة واحدة من البشر حيث لا تميز ولا ضوابط ولا اختلاف..أن اسوأ ما يسود العالم الأن هو روح القطيع وكأننا فى طريقنا إلى إستنساخ نموذج بشرى واحد فى تفكيره وثقافته وأسلوبه فى الحياة وإذا تحقق ذلك يوما فسوف تخسر الحياة اهم مقوماتها أن الخالق سبحانه وتعالى جعلنا شعوبا وثقافات ولغاتا واديانا ولم يجعلنا شعبا واحدا إن السؤال الذى ينبغى أن نطرحه على أنفسنا ونحن مهددون بأن نكون فى مقدمة الشعوب التى تتعرض الأن لهجمة ضارية لا احد يعرف مداها: نحن مهددون فى لغتنا ولا ينبغى أن نعلق أخطاءنا فى الآخرين لأن الأسرة العربية فرطت فى لغتها وهى سعيدة جدا الآن ان أطفالها يتحدثون اللغات الأجنبية ولا يجيدون لغتهم وهذا ما حدث فى وسائل التعليم من الإهمال بل والإنكار للغة العربية والكل يخطئ الآن فيها نطقا وكلاما وربما جاء يوم لا تجد فى الأسرة الواحدة شخصا يتحدث العربية.. أن كل الأشياء الأن تفصلنا عن تاريخنا وهناك وسائل هدم كثيرة تشوه هذا التاريخ وتجعل الشعوب تتبرأ من ماضيها أمام دعوات فجة وافكار مريضة إن الهجمة الشرسة التى يتعرض لها الإسلام الدين والعقيدة من الحاقدين والمغامرين والإرهابيين من أبنائه تمثل نموذجا صارخا لتشويه الثقافات والإعتداء على عقائد البشر.. بل ان العالم يخشى أن تنتقل حشود داعش من ميادين القتال فى سوريا والعراق وليبيا واليمن إلى ساحات النت وتتحول معارك السلاح إلى معارك فى الفكر وتضلل هذه الحشود شباب العالم وتدمر عقله. نحن مهددون فى ثوابتنا والبعض منا يسخر من كلمة الثوابت رغم أن الأخلاق ثوابت والعائلة ثوابت والزواج ثوابت ولغة الحوار الراقى ثوابت ونحن شعوب تحب التقليد الأعمى فى كل شئ ابتداء بالطعام وانتهاء بالسلوك..وما يحدث الأن على النت والفيس بوك من قواميس البذاءات كان جديدا علينا وما يحدث من أساليب صناعة المفرقعات وادوات القتل والإرهاب كان جديدا وما تسلل إلى حياتنا من مظاهر الخلل فى السلوك والشذوذ لم يكن بهذه الوقاحة..وهذا يعنى أن ثقافات العالم مهددة فى جوهرها ومظاهرها وان علينا أن نحافظ على ما بقى فينا من القيم والأخلاق والسلوكيات الحميدة لا أحد فى هذا العالم يرفض التقدم وحتى لو رفضه فهو لن يستغنى عنه لأنه لغة العصر والزمن الذى نعيش فيه ولكن المطلوب ألا نترك ما فينا من جوانب الإيجابية يضيع فى سلبيات زمان لا يرحم بقدر ما يحمل المستقبل من مفاجآت فى الفكر والثقافة والفنون بقدر ما تحيط بالثقافات المتناثرة فى هذا الكون من مخاطر أن يلتهم الكبار الصغار وأن يشهد العالم عملية استنساخ ثقافى تتغير فيها ملامح العقل البشرى وتبقى الشعوب المغلوبة على أمرها حائرة ما بين الجهل والتخلف والضياع..أن القضية كيف نلحق بالعصر دون أن نخسر مقومات وجودنا وثقافتنا ولغتنا ودورنا فى هذه الحياة . ..ويبقى الشعر ألمٌ .. ألمْ مَاذا جنيتُ من الألمْ ؟ وجهٌ كسيرٌ .. وابتساماتٌ .. كضوْء الصُّبْح بعثرها السَّأمْ .. حُلمٌ حزينٌ بين أطلال النِّهايةِ .. فى ذبُول ٍ .. يبتسمْ عُمْر على الطُّرقات كالطفْل اللِّقيطِ.. يسائلُ الأيَّام عنْ أبٍ.. وأمْ نهْر جريحٌ تنزفُ الشطآنُ فى أعْماقهِ حتَّى سواقيهِ الحزينة ُ.. ماتَ فى فمهَا النغمْ ندمٌ .. ندَمْ ماذا جنيْتُ من الندَمْ؟ سيْفٌ تحنط فوْقَ صدْر النيل ِ.. يَحْكى قصَّة الزَّمَن الأشمْ سجنُوهُ فانتحَرَتْ أغانيهِ الجميلة ُ وانزوتْ أحلامُه السَّكرى وصَارتْ كالعدَمْ شطآنُه الخضْراءُ تأكلُها الأفاعِى مَاؤه الفضّىُّ تسْكنه الرمّمْ فى كلِّ شبْر ٍ .. منْ رُبُوع النَّهْر أفاق يبيعُ الناسَ جهْرًا .. والذممْ منْ جاءَ بالوجْهِ الملطَّخ بالخطايَا كىْ يؤمَّ النَّاسَ فى قلبِ الحرمْ منْ جاءَ بالقلم الأجِير لكىْ يبيعَ لنا المَوَاعظ والحكمْ لنْ يسْتوى سيْفٌ يسبِّحُ للضَلال .. وَسَيْف عَدْل ٍ .. قدْ حكمْ عدمٌ .. عَدَمْ ماذا جنيتُ من العَدَمْ؟ يبْكى أبُو الهَوْل المحطمُ فى ذهُول ٍ.. تعلنُ الأحْجارُ عصْيانَ الهرمْ هلْ بعْدَ هذا العُمْر .. يسْقط تاجُهُ المرْصُودُ منْ نُور ودَمْ؟ مَا بينَ أنصَافِ الرِّجَال ِ.. وباعَةِ الأوْهَام .. والغلْمَان ِ تنتحرُ الشُّعوبُ .. وينْزَوى فجْرُ الأمَمْ مَازلتُ أمْضى فى الطَّريق ِ.. وأسْألُ الزَّمنَ الجَبَانَ بأنْ يثورَ .. وَيقتحِمْ فيطلُّ منْ بيْن الخرَائبِ .. ألفُ دجَّال ٍ .. وألفُ مُقامر ٍ.. والكلُّ منْ جسْم الغنيمَةِ يقتسمْ منْ علَّم الوطنَ الجميلَ بأنْ يبيعَ الإبن فِى سُوق النّخَاسَةِ والعَدَمْ ؟ يَا أيُّها الوطنُ الذى أسكنتهُ عيْنى وأسْكننِى سَراديبَ النَّدمْ قمْ منْ ترابكَ أطلِق الأحْجَارَ فى وجْهِ السُّكارَى.. والمَواخير الكئيبةِ.. لا تدعْ فى أىِّ رُكن ٍ منْ روابيهَا صنمْ كلُّ الذى أبقتْ لنا الأيَّامُ فى الوَادى الجَميل دموعُ حُزن ٍ.. أو ألمْ منْ يا ترى فينا ظَلَمْ من يَا تُرَى فِينَا ظُلِمْ فَإِلَى مَتَى.. سَيَظَلُ يحَمِّلُنَا زَمَانُ القَهْرِ مِنْ همٍ.. لهمْ وَإِلَى مَتَى.. سَيَظَلُّ أَقْزَامَ الزَّمَانِ الوَغْدِ فِي أَعْلَى القِممْ؟ وَإِلَى مَتَى سَنَظَلُ نَجْرِي فِي القَطِيعِ.. وَخَلَفنَا.. ذِئْبُ الغَنْم؟
قصيدة «وخلفنا ذئب الغنم» سنة 1993 [email protected] لمزيد من مقالات يكتبها: فاروق جويدة