حرية بلا مسئولية انفلات وفوضى .. وابداع بلا هدف أخلاقى مغامرة غير محسوبة النتائج وجريمة فى حق الإنسان .. ومنذ هبط الإنسان على هذا الكون وهو يدرك ان الحساب والعقاب جزء من ثوابت هذه الحياة .. فى كل شىء يطبق الإنسان مبدأ المحاسبة، وحين تختل المقاييس وتسقط الثوابت وتصبح الفوضى اسلوب حياة .. هنا ينبغى أن نتوقف ونراجع حتى لا تتحول الحياة الى غابة تحكمها عشوائية الفكر والسلوك . ثارت الدنيا على المهندس ابراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء بسبب قراره عرض فيلم طلوع الروح اقصد حلاوة روح على لجنة محايدة لإصدار ما تراه من القرارات تجاه هذا الفيلم، ان رئيس الوزراء لم يصدر قرارا بوقف عرض الفيلم ولكنه فضل ان يلقى باللغم الى اهل الإختصاص واصحاب المعرفة من رعاة الفن والثقافة امام غضبة شعبية صارخة ضد هذا الفيلم ومطلب ملح من المجلس الأعلى لرعاية الطفولة بوقف الفيلم. لم تكن السابقة الأولى التى يتقرر فيها وقف عرض فيلم او مسرحية او مصادرة كتاب، فقد حدث ذلك كثيرا ودارت معارك وظهرت بطولات واستنزف الكثير من اعمارنا فى قضايا محسومة ولا تحتاج المزيد من الجدل .. حدث هذا مع افلام مثل: خمسة باب والمذنبون والملاطيلى، وحدث مع رواية وليمة لأعشاب البحر وكانت سببا فى إلغاء حزب سياسى وتهميش رمز فى حجم ابراهيم شكرى وشمل ذلك بعض الروايات المجهولة وفى احيان كثيرة كان المنتجون والفنانون والكتاب يثيرون هذه القضايا بدافع البحث عن الشهرة وتحقيق المزيد من الانتشار للأفلام او الكتب قبل ظهورها .
ولو اننا استعرضنا تاريخ بعض هذه الأعمال للاكتشفنا ان قرارات المنع او المصادرة لم تكن جزافية وان الأعمال الرديئة فى كل زمان ومكان سوف تجد من يرفضها ويتصدى لها ويطالب بمنعها .. وفى تقديرى ان الفيلم الأخير «حلاوة روح» لم يكن يستحق هذه الضجة من الناحية الفنية فهو يدخل فى نطاق سلسلة افلام المقاولات الرخيصة التى اساءت للفن المصرى كثيرا وتعتبر من الصفحات السوداء فى تاريخ الثقافة المصرية .
والغريب فى الأمر ان اهل الفن يستخدمون فى كل مناسبة كلمة حرية الإبداع رغم ان ما نراه وما نشاهده لا علاقة له بالإبداع من قريب او بعيد، حتى اننا نستخدم كلمة مبدع بصورة أساءت للإبداع فى كل مجالاته، ان المطرب صاحب الصوت الردئ مبدع .. والملحن لص الألحان مبدع .. والفنان مروج المخدرات فى اعماله مبدع .. والمرأة التى تتاجر بجسدها مبدعة .. والكاتب الذى يتاجر بغرائز الناس مبدع .. والبرامج التافهة التى تطارد الناس كل ليلة على الشاشات ابداع .. ان امتهان الإبداع بهذه الصورة قد فتح الأبواب واسعة للمهاترات والتلوث السمعى والفكرى ووجدنا انفسنا امام مستنقعات تحمل اسم الفن والإبداع بل ان الأحق والأولى بهذه الأعمال هى شرطة الآداب لأنها تمثل جر،ائم اخلاقية وسلوكية.
لا يعقل ان يتساوى فيلم بيطرح قضية جادة او ازمة مجتمعية خطيرة مع فيلم آخر يقوم على مشاهد الإثارة والجنس والعرى الرخيص .. ما هى القضية الخطيرة التى يجسدها مشهد بين امرأة مثيرةتحرك غرائز بريء وتمتهن براءته امام الملايين .. ما هو الإبداع فى هذا المشهد وما هى اهمية مثل هذه القضية .. هل تحولت الى ظاهرة اجتماعية خطيرة واصبحنا نرى الفساد يطارد الأطفال فى الشوارع بحثا عن الجنس، وهل انتهت كل قضايانا الإجتماعية والإنسانية ولم يبق غير إثارة النساء لغرائز أطفال .. وما هى القيمة الفنية والإبداعية لمثل هذه الأفكار المريضة ..امرأة شبعت جنسا مع كل فئات المجتمع وجاءت فى النهاية لتثير غرائز طفل صغير .. مثل هذه السقطات الفنية والأخلاقية لا ينبغى ان تجد من يدافع عنها من اهل الفن خاصة ان ثوابت المجتمع واخلاقياته ترفض هذه السلوكيات الشاذة .
سوف يقول البعض ان الفيلم تجسيد للواقع، وهل هذا المشهد الشاذ يمثل حقيقة مجتمع، كنا نتحدث عن الإغتصاب كظاهرة مرضية تتعرض لها النساء وهى قضية جادة، ولكن ماذا عن إمرأة لعوب تحرك الخيال الجنسى لطفل صغير .. إن هذا يحملنا بالضرورة الى قضية ضاع نصف عمرنا ونحن نعيد فيها ونزيد وهى قضية الإبداع .. ولا بد ان نحدد من البداية المعنى الحقيقى للإبداع، لأن افلام المقاولات ليست ابداعا ولأن الفن الهابط جرائم ينبغى ان يحاكم المسئولون عنها امام القضاء .. ولأن الأصوات الرديئة التى تطاردنا ليل نهار تستحق السجون والمعتقلات وليس الشاشات والفضائيات .. وإذا كان البعض يسعى لترويج هذه الأعمال الشاذة فإن الهدف ليس الفن او الإبداع ولكنها الاتجار بغرائز الناس وجمع الملايين من خلال إفساد اجيال جديدة لم تعد تفرق بين الغث والسمين .
لا اتصور فنا بلا هدف او غاية حتى لو استخدم الفنانون بعض ألوان القبح وجسدوها فنا فإن الهدف ينبغى ان ينتهى الى ساحة الجمال، إن الإجرام فى السينما شىء مثير ومحرك لخيال البشر ولكن ينبغى الا يسعى الى ترويج الجريمة، ومشاهد المخدرات، ينبغى ألا يكون وسيلة لتشجيع الشباب على تناول المخدرات .. والخيانة جزء من سلوكيات الناس ولكن من الظلم ان نتصور انها اصبحت ظاهرة عامة ونقول ان الناس جميعا خونة .. والسرقة سلوك إنسانى معروف ولكن لا يمكن ان يدعى احد ان المجتمع كله مجموعة من اللصوص .. ومن هنا ينبغى ان تكون القيم العظيمة فى النهاية هى غاية الإبداع. ومن الجريمة نصل الى العدالة ومن الخيانة يتجسد الشرف والوفاء ومن صفوف اللصوص يخرج اصحاب المبادئ والقيم ..
ان الشىء المؤكد انه لا يوجد نموذج واحد لمعنى الحرية فى الإبداع .. انها تختلف من مجتمع الى آخر ومن وطن الى وطن . وهناك ثوابت تحكم المجتمعات البعض منها تمرد على هذه الثوابت والبعض الآخر مازال يعيش اسيرا لها ..
هناك ثلاثية فى حياة المجتمعات العربية لها جذورها وهى الدين والجنس والسياسة .. فى منطقة الدين بصفة خاصة تقف قضايا الحرية والإبداع امام ثوابت صلبة للغاية ندر تجاوزها .. ورغم ان الجنس من اكثر العوامل التى تحرك البشر والأحداث إلا ان الاقتراب منه له حسابات خاصة .. وبعد ذلك تأتى السياسة وهى تختلف من بيئة الى اخرى ومن مجتمع الى آخر وفى الوطن الواحد تجد عشرات التناقضات فى السلوكيات والأخلاق والمبادئ تحت رايات الدين والسياسة .. هذه الثلاثية الدين والجنس والسياسة يمكن ان يضاف لها عنصر آخر يمكن ان يستخدم كعامل ضغط هنا او هناك وهو التقاليد والثوابت الاجتماعية وإن بقيت الخيوط متشابكة بين هذه العوامل، فكثير ما استخدم الحكام الدين فى الساحة السياسية .. وكثيرا ما كان الجنس وراء صراعات اجتماعية واخلاقية وبقى الإبداع حائرا بين هذه المناطق العشوائية وإن كانت غايته الثابتة ان يكون حصنا من حصون الأخلاق فى دنيا البشر ..
انا لا اتصور ان يكون هناك من يقف ضد حرية المبدع وان الرقيب الوحيد عليه وعلى إبداعه هو ضميره الحى ومسئوليته الإنسانية ..
والسؤال: ماذا لو تحول هذا الرقيب الى تجارة المقاولات واصبح هدفه الوحيد ان يحقق المزيد من المال حتى لو كان ذلك على منظومة قيم تنهار، واذواق شعب تشوه كل شىء فيه؟!.. ان من اهم مسئوليات الإبداع الحقيقى ان يحمى المجتمع من نفسه لأن الخلايا السرطانية التى تصيب اجزاء من جسد الإنسان يمكن ان تنتقل الى مناطق اخرى ،وهذا ما يفعله الفن الهابط حين يتحول الى خلايا سرطانية تلتهم السينما ثم تنتقل الى الغناء وتقفز الى المسرح وبقية الفنون، وتكون الضحية فى نهاية المطاف اذواق الشعوب التى يحاصرها القبح من كل جانب، ينبغى ألا نتوقف كثيرا عند فيلم هابط ونثير حوله الصخب والضجيج ولكن ينبغى ان تكون لنا وقفة مع حالة الإنهيار الأخلاقى التى اصابتنا كشعب واصبحت تهدد كل ما لدينا من الثوابت الأخلاقية والإبداعية والفكرية ونرى اسباب ذلك كله والفن الهابط فى مقدمة هذه الأسباب.
ماذا يقول هؤلاء الذين يتباكون على حرية الإبداع عن حالة الفوضى التى تعيشها الفضائيات المصرية وما تقدمه للمصريين من امراض التخلف الفكرى والفنى والسلوكى؟ هل يشاهد هؤلاء البرامج الحوارية وما فيها من الشتائم والبذاءات التى كان ينبغى ان تأخذ طريقها للنائب العام كجرائم اخلاقية .. هل شاهدنا المساجلات الكلامية الرخيصة بين رموز النخبة المصرية التى كانت يوما تاج مصر وضميرها .. هل شاهدنا العبث بعقول الناس ما بين تصفية الحسابات السياسية والصراعات الدينية والى اين وصلت بنا كل هذه الإختناقات الفكرية؟!
إن معظم ما يقدم للمصريين الأن فى مجالات الفنون وهو يحمل لافتات الإبداع والجدل السياسى والحوار الدينى قد افسد اجيالا كاملة اصبحت لا تؤمن بالحوار ولا تعرف ما يسمى بالذوق العام ولا تعترف بالآخر واصبح المال والمال وحده هو سيد الجميع حتى ولو كانت الضحية تراث مجتمع عريق وثوابت امة عظيمة.
ان الفيلم الهابط سقطة من مئات السقطات ولكن هناك كيانا ثقافياوفكريا وحضاريا تهدده الأن غابة من العشوائيات المتوحشة التى تقودها فصائل من تجار القبح وسماسرة العبث واوشكت ان تقضى على تاريخ طويل من الفن والإبداع الجميل . ..ويبقى الشعر وَكانتْ بيْننا ليْلةْ
نثرْنا الحبَّ فوقَ ربُوعهَا العَذراءِ فأنتفضتْ
وصَارَ الكونُ بستَاناً
وفوقَ تلالها الخضْراءِ
كم سكرت حَنَايانَا
فلم نعرفْ لنا إسمًا
ولا وَطنًا وعُنوانَا
وكانتْ بيننَا ليْلْة
سَبْحتُ العُمرَ بينَ مياههَا الزرقَاءِ
ثم َّرَجعتُ ظمآنا
وكنتُ أراكِ يا قدرِي
مَلاكاً ضلَ مَوطنَه
وعاشَ الحبَّ انسَانَا
وكنتُ الرَّاهبَ المسجُونَ في عَيْنيكِ
عاشَ الحبَّ مَعصية ً
وذاقَ الشوقَ غُفرانَا
وكنتُ امُوتُ في عينيك
ثمَّ اعُود يَبْعثُني
لَهيبُ العطرِ بُركانَا
وكانتْ بيننَا ليلةْ
وَكانَ المْوجُ فِي صَمْتٍ يُبعثرُنَا
علىَ الآفاق ِشُطآنَا
ووَجهُ الليل ِ
فوقَ الغيمةِ البيْضاءِ يحمِلنا
فنبْني مِنْ تلال ِالضّوءِ أكْوانَا
وكانتْ فرحة ُالايامِ
في عينيكِ تنثُرنِى
على الطرقاتِ ألحانَا
وَفوقَ ضِفافكِ الخضْراءِ
نامَ الدهرُ نشوَانَا
وأَقْسَمَ بعد طولِ الصَّدَّ
انْ يطوِي صَحائفنَا وَيَنسانَا
وكانَ العمرُ اغنية ً
ولحْنًا رائع َالنغمَاتِ
اطرَبنَا واشجَانَا
وكانتْ بيْننا ليلة ْ
جلستُ أُراقِبُ اللحظَاتِ
فِي صمت ٍتودّعُنَا
ويجْري دمعُها المصْلوبُ
فوقَ العْين الوانَا
وكانتْ رِعشة ُالقنديلِ
في حُزن ٍتُراقبُنا
وتُخفِي الدمْعَ احيَانَا
وكانَ الليلُ كالقنَّاص يَرصدُنَا
ويسْخرُ منْ حكايانَا
و روّعنَا قِطارُ الفجْر
حينَ اطلَّ خلفَ الافْق سكْرانَا
تَرنحَ في مَضاجعِنا
فايقظنا وارّقنَا ونادانَا
وقدّمنا سنين العمرِ قُربَانا
وفاضَ الدَمعُ
في أعمَاقِنا خوْفًا واحزَانا
ولمْ تشفعْ امام الدهِر شكْوانا
تَعانقنا وصوتُ الرّيح في فزعٍ يُزلزِلنا
ويُلقي في رماد الضوءِ
يا عمْري بقايانَا
وسَافرنَا
وظلتْ بيننَا ذكْري
نراهَا نجْمة ًبيضاء
تخُبو حينَ نذكُرهَا
وتهْربُ حينَ تلقانَا
تطُوف العمرَ في خَجلٍ
وتحْكي كلَّ ما كانَا
وكانتْ بيننَا ليلهْ قصيدة وكانت بيننا ليلة 1996 لمزيد من مقالات فاروق جويدة