أكثر مايثير الحزن والألم في الشارع المصري الآن هو حالة التراجع السلوكي والأخلاقي التي أصابت الناس.. من يقرأ الصحف ويشاهد الفضائيات ويسمع نشرات الأخبار لا يصدق ان هذه هي مصر التي عرفناها وأحببنا كل شىء فيها.. من يتابع الجرائم في الشارع المصري وما يحدث فيه الآن يبكي على أيام كانت شوارع مصر لا تنام ما بين الفن والثقافة والعلاقات الإنسانية الجميلة والراقية.. اين تجمعات المصريين امام المسارح والحفلات والمكتبات ودور العبادة.. اين العلاقات الأسرية حين كانت القلوب تواسي بعضها في الشدائد وتفرح مع بعضها في المناسبات السعيدة.. ما هذا الحجم من الكآبة الذي يطفح على وجوه الناس.. ما هذا الكم من الإحباط الذي يبدو امامك في كل شىء.. هل هو الفقر.. هل هو غياب الأمن.. هل هي العلاقات الاجتماعية التي افتقدت الرحمة والتآلف حين سطت مجموعة قليلة من الناس على مصير شعب ومقدرات وطن، حاول ان تقرأ معي خريطة الشارع المصري دون افتراءات او ادعاءات لكي نصل الى اسباب هذه الظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية الخطيرة.. هل هي الثقافة التي تراجعت وأخذت معها سلوكيات وترفع الزمن الجميل.. هل هي لعنة المال التي اقتحمت حياتنا ولم يعد احد قانعا بما لديه.. ام انها التغيرات الاجتماعية الحادة التي اطاحت بكل الثوابت والقيم.. في كل يوم تقع عيني على صفحة الحوادث في اي صحيفة او اي فضائية تقرأ وترى عشرات الجرائم وفيها كل مظاهر الخلل السلوكي والأخلاقي.. إن فيها خيانة الأزواج وجرائم الآباء والأبناء والطفولة المعذبة امام قلوب لا تعرف الرحمة.. وفيها جرائم الاغتصاب والاعتداء على ارواح الناس بأحط الوسائل واقذر الأساليب.. إن صفحة الحوادث وما ينشر فيها لا يتجاوز 10% من حجم الجرائم في الشارع المصري وهي تعكس صورة مجتمع اختلت كل المقاييس فيه. لم يكن من المتصور ان تصل درجة العنف في حياة المصريين الى ما نراه الآن لن نتحدث هنا عن قضية الإرهاب والعصابات التي خرجت تنتقم من مجتمع مؤمن وآمن ومستقر لتقلب موازين الحياة بالنار والرصاص والدم.. كانت سيناء يوما مجتمعا قبليا تحكمه الأعراف والتقاليد وكانت العائلات والقبائل تعرف بعضها بالاسم والمكان وكان من الصعب ان تسيل نقطة دم هنا او هناك فهل هذه هي سيناء القديمة ومن اين هبطت عليها تلك اللعنة السوداء حاول ان ترى صورة الحوادث الإجرامية في تفجير مديريات الأمن وإحراق الأقسام وسيارات الشرطة والاعتداء على جنود يحرسون الوطن ويموتون في سبيله.. حاول ان تشاهد ما يحدث من جرائم على الطرق السريعة واغتصاب الآمنين وقتل المارة والاعتداء على حرمة البيوت.. هذه جرائم كلها جديدة علينا وكانت بعيدة تماما عن الشارع المصري وهي انعكاس شديد الضراوة لما حدث من انحدار في الأخلاق والسلوك. من اخطر الظواهر التي انتشرت في حياة المصريين الجرائم الأسرية ان يقتل الابن اباه او يقتل الأخ شقيقه.. لقد انتشرت بيننا منذ سنوات قصة قتل الأزواج وكانت محدودة ولكنها في السنوات الأخيرة اقتربت من الظواهر العامة خاصة انها حملت اشباح الخيانة.. هنا ظهرت خلافات المواريث وغياب القناعة واساليب التحايل والغش والعدوان على حقوق الآخرين.. كانت الأسرة المصرية نموذجا في التماسك والرحمة والتعاون بين كل ابنائها.. وكانت للأب مكانته وللزوج حرمته وللأبناء قدسيتهم في اعماق الجميع ومنذ سيطرت موجات الجشع على قلوب الناس انزوت كل هذه الأشياء وبدلا من ان نرى اشجار الرحمة رأينا حشود الكراهية والحقد وغياب الضمير. لم تقتصر الجرائم الأخلاقية التي عكست انحدار القيم على الشارع والأسرة وصفحة الحوادث بل إنها انتقلت بصورة مخيفة الى الواقع السياسي المصري في ظل انقسامات لم تعد تفرق بين الحوار والشتائم وبين الإقناع والترصد وبين خلاف الفكر وصراع المصالح.. لقد حمل الصراع السياسي في مصر كل امراض الشارع ابتداء بالاغتيالات المعنوية وانتهاء بالتصفيات الأخلاقية.. وبجانب الرغبات العدوانية في الإقصاء والتدمير والتشهير اصبح من الصعب ان تجد خلافا سياسيا رفيعا يحترم الرأي الآخر.. وعلى صفحات الجرائد والفضائيات لم تعد تقرأ رأيا سديدا او فكرا منظما ولكن القذائف الصاروخية تنطلق كل ليلة ليفقد المصريون آخر ما كان لديهم من اساليب الحوار وترفع الكلمة.. لقد شارك الإعلام المصري في كل انواع الجرائم الأخلاقية وغير الأخلاقية التي انتشرت في حياة المصريين وقد استخدم في ذلك كل الأساليب ابتداء بالبرامج الحوارية والتوك شو والمسلسلات والأفلام والأغاني الهابطة ولم يكن غريبا ان يتصدر الشاشات الآن مطربو الدرجة الثالثة ونجوم ما بقى من شارع الهرم وحشود الفن الهابط وكأننا لم نكتف بالفن الهابط الذي افسد اذواق شعب ولكننا سرعان ما اتجهنا بقوة الى الإعلام الهابط لنفسد ما بقى من الترفع في اذواق الناس والأسوأ من ذلك كله ان يتحول الإعلام المصري في سابقة هي الأولى من نوعها الى وسيلة لاقتحام خصوصيات الناس وإذاعة اسرارهم و مكالماتهم التليفونية على الملايين بصورة تثير الأسى والغثيان. وسط هذا الركام الأخلاقي كانت الأمية تنخر في عظام المجتمع المصري وتدمر آخر ما بقى فيه من قيم الترفع والزمن الجميل.. ومع الأمية كان فقراء العشوائيات واطفال الشوارع يتناثرون على وجه المجتمع مثل الأمراض المستعصية فكانت لعنة المخدرات والاغتصاب والسرقة وللأسف الشديد ان هذه الحشود المرضية تحولت الى واقع اجتماعي واخلاقي شديد البؤس والضراوة. وما بين ظلام الأمية.. وخرائب العشوائيات وفقر أطفال الشوارع كان من السهل ان تنمو ظواهر اجتماعية خطيرة.. ما بين الأميين ظهر التدين الكاذب واصبح واقعا اجتماعيا وامنيا يهدد كيان الدولة ويدمر اركانها.. وفي ظل دعوات دينية مضللة اقتحمت الشارع المصري كان من السهل ان تظهر خرائب الفكر المتخلف لتعود بالمصريين مئات السنين الى الوراء. في ظل حشود الفقر والأمية كانت هناك طبقة اجتماعية استطاعت ان تسلب هذا الشعب كل حقوقه المشروعة في حياة كريمة.. وغابت هذه الطبقة عن آداء دورها الاجتماعي في إنقاذ ابناء هذا الشعب من هذه الحياة الصعبة.. كانت المدن الجديدة والأبراج الشاهقة تضع حواجز جديدة كل يوم بين ابناء الشعب الواحد.. وفي ظل هذا المناخ كان من السهل ان تنمو اشباح الحقد والكراهية حتى وجدنا اجيالا كاملة تخرج على المجتمع وتعلن العصيان على كل من استباح حقوق هذا الشعب.. كان ينبغي ان يتم تعديل المسار وان يحصل الفقراء على شىء من حقوقهم والا يتركهم المجتمع فريسة الفقر والحاجة حتى لا يتحولوا الى الغام تنفجر في وجه الجميع. وما بين انانية القادرين وصرخات المحتاجين والمعدمين تحول الشارع المصري الى مرتع خصب لأخلاقيات لا تتناسب مع تاريخه وثقافته واصوله القديمة.. وجدنا انفسنا بين فريقين من ملك كل شىء وافتقد الرحمة ومن خسر كل شىء وافتقد القناعة.. هنا تحولت قضايا المجتمع وازماته الاجتماعية والاقتصادية الى ازمات اخلاقية ثم انعكس ذلك كله على ثقافة المجتمع التي تسربت اليها امراض كثيرة ابتداء بلغة الحوار وانتهاء بصورة الجريمة.. في تقديري ان الشارع المصري يحتاج الى مواجهة كل هذه المخاطر مرة واحدة.. لانستطيع ان نعالج القضايا الأخلاقية بعيدا عن جذورها ومنابعها الاجتماعية ولا نستطيع ان نصل الى لغة راقية في الحوار امام مواكب الأمية الثقافية والأمية التعليمية وحشود الجهل التي اجتاحت الجميع ولا ينبغي ان نترك فريقا من القادرين يعيش حياته مستمتعا بما نهب بينما عشرات الملايين لا يجدون ابسط حقوقهم في الحياة ولا يعقل ان نبحث عن مناخ سياسي على درجة من الوعي والتحضر في ظل غياب كامل لدور النخبة المصرية العريقة.. إن غياب القادرين واختفاء النخبة.. والواقع البغيض الذي يفرض نفسه وشروطه على فقراء مصر لا يمكن ان يحمل واقعا اخلاقيا رفيعا وحين نواجه مشاكلنا الاقتصادية ويجد الشارع المصري شيئا من العدالة في توزيع خيرات الوطن وحين نواجه ازمتنا الثقافية بالعودة الى ثوابت العقل وانفتاحه وحين تختفي حشود الأمية في الشوارع من ملايين الأطفال يمكن ان يختفي جيل كامل من اصحاب السوابق ومدمني الجرائم والمخدرات. إن القضية لم تكن انفلات مجموعات او فصائل ولم تكن شطط حشود سياسية ولكنها مخلفات نظام سياسي فقد الكثير من قدرته على مسايرة روح العصر وبناء مجتمع آمن في ظل ثوابت اجتماعية واخلاقية يحرص عليها.. إن التجاوزات الأخلاقية والسلوكية التي طفحت على الشارع المصري لم تكن وليدة احداث سريعة ولكنها رواسب من الماضي البعيد ويجب ان يتصدى لها الجميع.. إنها تحتاج الى دعم النخبة بعد ان تفيق من ثباتها.. وتحتاج دعم القادرين بعد ان يتخلصوا من مطامعهم وجشعهم.. وتحتاج اصحاب الفكر وعلماء الاجتماع والفكر السياسي لكى يتتبعوا هذه الظواهر الأخلاقية ويعودوا بها الى جذورها المختلفة وكيف وصلت بنا الى ما نحن فيه. إن الغريب في الأمر ان المصريين يعرفون كل ازماتهم ويدركون اسبابها بل إن لديهم كل وسائل العلاج ولكن في ظل اجهزة افتقدت الرؤى ومسئولين افتقدوا الحماس والشفافية وسلطة شاخت واصبح من الضروري ان تجدد دماءها وتستعيد شبابها يمكن ان يكون الحل سهلا.. إن اخلاق المصريين في محنة حقيقية تحتاج الى صحوة الضمائر قبل اي شىء آخر. ..ويبقى الشعر مَا زالَ يرْكضُ بَيْنَ أعْمَاقى جَوادٌ جَامحٌ.. سَجنوهُ يوما فى دُروبِ المسْتحيلْ.. مَا بَيْنَ أحْلام الليَالى كانَ يَجْرى كلَّ يَوْم ألفَ مِيلْ وتكسّرتْ أقدامُهُ الخضراءُ وانشَطرتْ خُيوط ُالصُّبح فى عَيْنيهِ وَاختنق الصَّهيلْ مِنْ يومها وقوافِلُ الأحْزان تَرتعُ فى رُبُوعى والدّماءُ الخضْرُ فى صَمتٍ تسيلْ من يَومهَا.. والضَّوءُ يَرْحلُ عنْ عُيونى والنّخيلُ الشّامخُ المقهُورُ فِى فَزع ٍ يئنٌ.. ولا يَمِيلْ.. مَا زالتِ الأشْبَاحُ تسْكرُ مِنْ دمَاءِ النيلْ فلتخبرينِى.. كيف يأتى الصُّبْحُ والزمَنُ الجمِيلْ.. فأنا وَأنت سَحَابتَان تُحلقَان على ثَرى وطن ٍبخيلْ.. من أينَ يأتِى الحُلمُ والأشْباحُ تَرتعُ حَوْلنا وتغُوصُ فى دَمِنا سِهَامُ البطْش.. والقَهْرُ الطَّويلْ مِنْ أينَ يأتى الصبْحُ واللَّيْلُ الكئيبُ عَلى نزَيف عُيُوننَا يَهْوَى التَسَكُّعَ.. والرَّحيلْ من أينَ يَأتى الفجْرُ والجلادُ فى غُرف الصّغَار يُعلمُ الأطفالَ مَنْ سَيكونُ مِنْهم قاتلٌ ومَن ِالقتيلْ .. لا تسْألينى الآنَ عن زَمن ٍجميلْ أنا لا أحبُّ الحُزنَ لكن كلُّ أحزانِى جراحٌ أرهقتْ قلبى العَليلْْ.. ما بيْنَ حُلم ٍخاننى.. ضاعتْ أغَانِى الحُبّ.. وانطفأتْ شموسُ العُمر.. وانتحَرَ الأصِيلْ.. لكنه قدَرى بأن أحيا عَلى الأطْلالْ أرسمُ فى سَوادِ الليل قِنديلا.. وفجرًا شاحبًا يتوكَّآن على بقايَا العُمر والجسدِ الهزيلْ إنى أحبُّك كلما تاهت خُيوط ُالضَّوء عَنْ عَيْنى أرى فيكِ الدَّليلْ إنى أحبُّك.. لا تكونِى ليلة ًعذراءَ نامت فى ضُلُوعى.. ثم شرَّدَها الرَّحِيلْ.. أنى أحبُّك... لا تكُونى مثلَ كلِّ النَّاس عهدًا زائفًا أو نجْمة ًضلتْ وتبحثُ عنْ سبيلْ داويتُ أحْزان القلوبِ غرسْتُ فى وجْهِ الصَّحارى ألفَ بسْتان ٍظليلْ والآن جئتك خائفًا نفسُ الوُجوه تعُودُ مثلَ السّوس تنخرُ فى عِظام النيلْ.. نفْسُ الوُجوُه.. تُطلُّ من خلف النَّوافذِ تنعقُ الغرْبانُ.. يَرتفعُ العَويلْ.. نفسُ الوجُوه على الموائِد تأكلُ الجَسدَ النَّحيلْ.. نَفسُ الوجوهِ تُطلُّ فوق الشاشَةِ السَّوداءِ تنشرُ سُمَّها.. ودِماؤنَا فى نشْوة الأفْراح مِنْ فمهَا تسيلْ.. نفسُ الوجوهِ.. الآن تقتحِمُ العَيُونَ.. كأنها الكابُوس فى حلم ٍثقيلْ نفسُ الوجوه.. تعُودُ كالجُرذان تَجْرىَ خلفنَا.. وأمَامنا الجلادُ.. والليلُ الطويلْ.. لا تسْألينى الآن عَنْ حُلم جَميلْ أنا لا ألومُ الصُّبحَ إن ولَّى وودّعَ أرضنَا فالصبحُ لا يَرضى هَوَان َالعَيْش فى وَطن ٍذليلْ أنا لا ألومُ النارَ إن هَدأتْ وصَارتْ نخوة عرجاء فى جَسَد عليلْ.. أنا لا ألُوًمُ النهرَ إن جفتْ شواطئُه وأجدَبَ زرْعُه.. وتكسَّرتْ كالضَّوء فى عَيْنيهِ أعناقُ النخيلْ.. مادَامَتِ الأشْباحُ تسْكرُ منْ دمَاء النيلْ.. لا تسَألينى الآنَ.. عن زمن ٍ جميلْ "قصيدة جاء السحاب بلا مطر سنة 1996" نقلا عن جريدة الأهرام