تعيش الصحافة المصرية بكل أطيافها ومدارسها مرحلة قاسية ما بين تراجع الدور وغياب الهدف مما يطرح سؤالا مهما لم نجد الإجابة عليه حتي الآن ما هو مستقبل الصحافة المصرية في السنوات القادمة، وما هي نهاية المطاف أمام أزمات كثيرة تلاحقها، وهل يمكن وسط هذه المتغيرات السريعة والحادة أن نجد لها حلا وننقذ ما يمكن إنقاذه.. حين تتحدث عن دور مصر الثقافي والحضاري والتنويري لا بد أن يبدو أمامك تاريخ الصحافة المصرية وهو تاريخ لا يقل من حيث الدور والمسئولية عن أدوار مؤسسات مصر الثقافية الكبري التي تركت آثارها علي وجه الحياة المصرية بل والعربية وامتدت إلي آفاق أوسع .. إن صحافة مصر كانت واحدة من أهم قلاع الثقافة المصرية سنوات طويلة وهي التي قدمت رموز التنوير والفكر والإبداع في كل المجالات، وهي التي وقفت بجانب حركات التحرر واستقلال الإرادة المصرية وهي التي مهدت الطريق لدعوات الإصلاح والحريات وحقوق الإنسان .. وقبل هذا كله كانت منبرا لكل الأفكار الواعية والإبداع الخلاق والتمهيد لكل الأحداث الكبري التي عاشها المصريون ابتداء بثورة 19 وانتهاء بحركات الإبداع والاجتهاد والتطوير في وعي المجتمع وأحلامه في التغيير .. كانت صحافة مصر منبر الحريات ومدرسة الوعي والوطنية ومنها تخرجت أجيال قادت فكر هذه الأمة ومهدت الطريق لكل دعوات الإصلاح والنهضة.. إن صحافة مصر هي التي قدمت رموز مصر الثقافية والفكرية وهي التي خرج منها لطفي السيد ومصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وهيكل باشا وآل عبدالرازق وهي التي احتضنت مواهب مصر الكبري احمد شوقي وحافظ إبراهيم وشعراء مصر الأفذاذ وهي التي وقفت وراء الفن والإبداع الجميل في أم كلثوم وعبدالوهاب والسنباطي وهي التي حركت مواكب الاجتهاد في محمد عبده والشيخ شلتوت والغزالي وخالد محمد خالد وكل علمائنا الأفذاذ الذين قادوا مسيرة الفكر في مواكب التنوير.. لا أحد ينكر دور الصحافة المصرية في معارك التحرير ضد الاستعمار الإ نجليزي وفتح أبواب الحريات وتحقيق أحلام الشعب في الحرية والكرامة، إن دعوات تحرير المرأة وإنشاء المؤسسات الثقافية والتعليمية الكبري في مصر جاء بدعم كامل من صحافة مصر بكل تأثيرها ودورها ومسئوليتها .. كانت وراء ثورة 19 وثورة يوليو ومحاربة الفساد السياسي والمالي والسلوكي.. نحتاج وقتا طويلا حتي نستطيع أن نتوقف عند منارات الضوء التي أطلقتها صحافة مصر في كل مراحل تاريخها الحديث في كل مجالات الفكر والاجتهاد والإبداع.. لقد وصلت الصحافة المصرية في فترة من الفترات إلي آفاق عربية وعالمية تجاوز تأثيرها حدود مصر، وكان تعدد مدارسها ورموزها من اكبر النجاحات في تاريخها في العصر الحديث، كانت مدرسة الأهرام حيث الدقة والرصانة والمصداقية .. وكانت روز اليوسف في قضايا الحريات السياسية، وكانت أخبار اليوم جريدة الشارع المصري بكل أحلامه وتناقضاته .. وكانت دار الهلال بتقاليدها ومدارس الإبداع فيها وكانت الجمهورية صوت ثورة واعدة، وكانت هناك عشرات المجلات التي اهتمت بشئون الوطن وهموم الشعب .. وفي هذه المدارس شهدت مصر ميلاد كتابها ومبدعيها الكبار نجيب محفوظ والحكيم وطه حسين والعقاد ومصطفي أمين وهيكل وأنيس منصور واحمد بهاء الدين ثم جاءت أجيال من المبدعين الذين انتقلت بهم الصحافة إلي آفاق أوسع، يوسف إدريس ويوسف السياعي وكامل الشناوي وعبد الرحمن الشرقاوي وثروت اباظة وفتحي غانم وأمينة السعيد وبنت الشاطئ وسناء البيسي ونعمات احمد فؤاد وصلاح عبد الصبور ولطفي الخولي وصلاح منتصر ولويس عوض وعلي الراعي وابراهيم الورداني وفكري اباظة وموسي صبري واحمد رجب وصلاح جاهين وعشرات من الرموز الذين أضاءوا قناديل العقل المصري بالكلمة الحرة والإبداع الراقي.. لا ينكر أحد دور الصحافة المصرية في احتضان كل مدارس الإبداع الفني والفكري والثقافي وأنها كانت مرآة صادقة لكل حركات التطور في حياة المصريين.. قلت إن صحافة مصر تعيش الآن محنة قاسية إنها مثل كل الصحافة الورقية في العالم تتعرض لهجمة تكنولوجية ضارية حيث ظهرت وسائل التواصل الحديثة من النت والكمبيوتر والتليفون المحمول وشاشات الفضائيات كل هذه الوسائل كانت علي حساب انتشار الصحف ودورها في توصيل الخدمة للقارئ .. إن القارئ الآن لا ينتظر صحيفة تقدم له خبرا في اليوم التالي وهو يشاهده حيا علي شاشة المحمول أو الفضائية .. انه لا ينتظر تفاصيل جريمة أو عملية إرهابية في صورتين علي صفحة جريدة لأنه يشاهد الأحداث حية بكل تفاصيلها ولهذا فإن الصحافة تقف أمام منافسة غير عادلة من حيث الانتشار والصورة والتفاصيل والسرعة هناك كاميرا تنقل الحدث إلي آخر نقطة في هذا الكون لقد شاهد العالم أحداث 11سبتمبر علي الهواء والطائرات تقتحم ناطحات السحاب وكان من الصعب أن ينتظر أحد خبرا في صحيفة يأتي بعد يوم أو يومين .. إن صحافة مصر الآن تقف حائرة أمام منافسة عنيفة لا يستطيع أحد أن يقف أمامها ولهذا كانت التصفيات التي حلت بعدد من الصحف الكبري في العالم وقد تحولت إلي مواقع إخبارية علي النت أو مواقع التواصل الاجتماعي.. إن هناك ملايين من البشر الآن في العالم كل واحد منهم يملك صحيفته الخاصة التي يتلقي منها الأخبار ويتحاور مع الآلاف ويكتب كل ما يريد من النقد والصراخ والضجيج لم يعد للصحيفة هذا الدور الذي كان يوما أمام الفضاء الخارجي الذي سيطر علي عقل البشرية كلها.. أمام تراجع معدلات التوزيع وأزمة الإعلانات والأعباء الضخمة في الطباعة وأسعار الورق ومشكلة الدولار ورواتب آلاف الموظفين تعيش الآن الصحافة المصرية اقسي ظروفها صعوبة .. في يوم من الأيام كانت أرقام توزيع بعض الصحف تتجاوز المليون نسخة يوميا وكانت بعض المؤسسات تستجدي نشر إعلان أو تعزية وكانت المؤسسات الصحفية تنعم بحالة من الثراء والغني والاستقرار، ولكن هذه العهود ولت وأصبحت موارد الصحيفة لا تكفي لسداد رواتب العاملين فيها.. و للأسف الشديد فقد واكب هذه الظروف الاقتصادية الصعبة رحيل عدد كبير من كتابنا الكبار الذين كانوا يمثلون مصدر ثراء حقيقي للصحيفة وكانت هذه الأسماء تتحمل مسئولية ترويج الصحيفة ورفع أرقام توزيعها، وفي اقل من عشرين عاما غاب عن صحافة مصر أبرز كتابها هيكل ومصطفي أمين وعلي أمين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وأنيس منصور ويوسف إدريس واحمد بهجت وبنت الشاطئ وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن الشرقاوي واحمد بهاء الدين وموسي صبري وسعيد سنبل وأمينة السعيد وعدد كبير من الفنانين والمبدعين الكبار في الفن والفكر والثقافة ولا شك أن هؤلاء تركوا فراغا كبيرا في الصحافة المصرية من حيث الانتشار والدور والقيمة .. إن غياب هذه الرموز عن القارئ لن تعوضه أسماء أخري، خاصة أن الأرض استراحت والمواهب جفت، وكانت الثمار هزيلة وبخيلة.. إن لدي المؤسسات الصحفية المصرية العتيقة أصولا كثيرة منها الاراضي والمباني والمنشآت، ويمكن لها أن تتخلص من بعض هذه الأصول وتعيد استثمارها لتحسن مواقفها المالية لاستكمال رسالتها.. أعود من حيث بدأت ما هو الحل .. كيف ننقذ صحافة مصر وهي حتي الآن صاحبة دور ورسالة رغم كل ما لحق بها من مظاهر التراجع في الدور والمسئولية.. أصبح من الضروري علي الدولة أن تحمي صحافتها أعرف أن الحكومة الآن تقدم دعما ماليا لجميع المؤسسات الصحفية بصورة منتظمة ولكن هذا الدعم لا يكفي خاصة أننا أمام آلاف من البشر يعملون في هذه الصحف.. إننا نخطئ كثيرا إذا تصورنا أن مواقع التواصل الاجتماعي وفضائح النت وصخب الشاشات يمكن أن يغني عن الرأي الجاد والفكر السليم، لقد تحولت المواقع إلي ساحات لا تضع حسابا لأخلاق أو فكر، ولهذا فإن غياب الصحافة سيكون لحساب أشياء لن تبني يوما عقول أبناء يستهلكون أعمارهم ما بين العبث والفضائح وتشويه صورة الناس.. مازلت أعتقد أن صحافة الرأي قادرة علي أن تحافظ علي ما بقي من تأثير الصحافة الورقية، ولا شك أن صحافة مصر الآن تعاني كثيرا من ضحالة المواهب وهبوط مستوي الكتابة، خاصة أن معظم الصحفيين الشباب يتجهون إلي الفضائيات في أعمال الإعداد والتحقيقات التليفزيونية السريعة أمام ضعف مواردهم المالية، وهنا ينبغي أن تحاول المؤسسات الصحفية تشجيع المواهب الواعدة في أن تكتب وتكبر وتبدع لتظهر أجيال جديدة من الكتاب.. قد يحتاج هذا إلي بعض الوقت ومزيد من الحريات والتشجيع من المسئولين عن هذه الصحف، وقد يتطلب الأمر دعم هذه المواهب وتوفير المناخ العلمي والثقافي لهم بعيدا عن ثقافة التيك واي التي تقوم عليها خدمات الإنترنت والموبايل بعد أن تحولت إلي وسيلة وحيدة للثقافة أمام الأجيال الجديدة.. إن هذا يتطلب أن ترعي الصحف الموهوبين من أبنائها بالكتاب والسفر والتدريب والمتابعة وإتاحة الفرص .. إن صحافة مصر تعيش محنة قاسية، ولكن مازال دورها ضروريا حتي الآن وعلي الدولة المصرية أن تدرك أن مصر بلا صحافة كارثة كبري وأن مهرجانات وصخب الفضائيات لا يمكن أن يغني عن أقلام تضىء العقول وتحيي الوجدان وإن الأمل سوف يظل في أجيال جديدة من المواهب تعيد أمجاد الراحلين من أصحاب المواهب الكبري.