بعيدا عن متاهات السياسة ودهاليزها الغامضة وما يجري فيها من حسابات وخسائر فأنا أعتقد ان معركة المصريين ضد الإرهاب في الشهور الماضية هي واحدة من أخطر الحروب التي خاضها الجيش المصري والشرطة لحماية هذا الوطن.. في سنوات مضت كانت ظاهرة الإرهاب محدودة في شواهدها وآثارها ولكن المعركة الأخيرة كانت معركة حربية كاملة العناصر، وحين يتوقف التاريخ عند هذه المرحلة سوف يخوض في تفاصيل هذه المواجهة حين تفرج قواتنا المسلحة عن تفاصيل وملابسات هذه المعركة التي أغلقت أبوابا كان من الممكن أن تحمل مخاطر كثيرة تهدد مستقبل هذا الوطن، وفي تقديري ان معركة الإرهاب هي حصاد أخطاء كثيرة وقعت فيها النظم السياسية السابقة بإختلاف توجهاتها وحين يجئ وقت الحساب سوف نكتشف ان هناك عوامل وأسبابا كثيرة تقف خلف هذه الظاهرة الخطيرة.. ان أكثر ما أزعجني في المحاكمات التي دارت مع الإرهابيين الذين شاركوا في أكبر العمليات الإرهابية التي شهدتها مصر أخيرا ان بينهم ضباطا من الجيش والشرطة الذين تم اخراجهم من الخدمة وذهبوا للعمل خارج مصر حيث تم تجنيدهم هناك.. هناك ملاحظة أخرى أن معظم الأسماء في قائمة المتشددين دينيا من الدعاة لم يدرسوا الإسلام في مصر ولم يعرفوا الدين على حقيقته بل ان معظمهم اما خريجو كليات عملية مثل الطب والهندسة أو مؤهلات متوسطة وجميعهم تقريبا حصلوا على شهادات دينية من جلسات وندوات ولقاءات مع شيوخ في الأقطار العربية وهذه الشهادات لا تعطيهم الحق في الفتوى أو الدعوة أو التفسير لأنها اجتهادات شخصية كثيرا ما ابتعدت عن جوهر الدين وثوابته. على الجانب الآخر فإن صورة طلاب جامعة الأزهر وحالة العنف والفوضى التي انعكست في سلوكياتهم طوال العام الدراسي تؤكد ان هناك خللا ما في المكونات الفكرية والدينية التي وصلت بهم إلى هذه الحالة من الفوضى في الفكر والسلوك.. وإذا أضفنا لذلك كله ان في الجامعات المصرية كما تؤكد الإحصائيات أكثر من 1800 استاذ جامعي ينتسبون إلى جماعة الإخوان المسلمين وأن كثيرين منهم حرضوا شباب الجامعات على العنف بل ان منهم من حمل في سيارته القنابل والمواد الحارقة ودخل بها إلى أسوار الجامعة. لقد واجه الجيش فلول الإرهاب في سيناء بحسم واستطاع أن يستعيد هيبة الدولة في هذا الجزء العزيز من الوطن.. واستطاع جهاز الشرطة أن يفرض سيطرته على الشارع المصري ويخرج بنا من هذا المأزق الخطير.. لا أحد يستطيع ان ينكر ان الحل الأمني كان ضرورة وان الحديث عن التجاوزات هنا أو هناك لا يبرر إنكار جهد كبير قامت به قوات الجيش والشرطة لإنقاذ هذا الوطن ولولا هذا لكانت الحرب الأهلية هي البديل الوحيد. لم نكن نعبأ كثيرا بالشطط في مجالات الفكر خاصة ما يتعلق بالخطاب الديني وكنا نرى ان المناخ الثقافي والفكري والديني في مصر قادر على امتصاص هذه التجاوزات وقد شهدنا معارك فكرية ودينية كان الحوار واختلاف الرأي أهم مقوماتها.. حدث هذا مع أعداد كبيرة من المفكرين والكتاب ورجال الدين ومازلنا نذكر معركة الشيخ الشعراوي مع د. زكي نجيب محمود ود. يوسف ادريس.. ومعركة الشيخ الغزالي ومادار حول رواية "وليمة لأعشاب البحر" أو ما حدث من صراعات حول مفهوم الدولة الدينية والدولة المدنية بين كبار المثقفين ورجال الدين إلا ان حالة القصور في هذه الرؤى تجسدت في عدم القدرة على الإدراك المبكر للجانب الفكري في قضية الإرهاب.. كنا دائما نرى ان الإرهاب قضية أمنية ولم نقترب إطلاقا من جوانبها الفكرية والثقافية بل والإنسانية.. كان إهمال التعليم وانهيار المنظومة التعليمية ابتداء بالمدرسة والمدرس والمنهج والفصل بداية المأساة، كان التلاميذ يجلسون على الأرض وكانت المدرسة بلا دورة مياه وكان المدرس يطوف على تلاميذه في البيوت من أجل الدروس الخصوصية.. خلف الجدران الصامتة والمدارس المتهاوية نشأت بذور الإرهاب لأن التلميذ الذي عاش في هذا المناخ لم يتغير فيه شئ حين انتقل إلى الجامعة في القاهرة وفي مدرجاتها وجد استاذا يلقنه أصول الشطط بأسم الدين ووجد جماعة تقدم له المساعدات ابتداء بالكتب والملازم وانتهاء بوجبة غذائية ومع هذا جرعة ضخمة من الخلل الفكري والتدين الكاذب.. وحين طلبت منه هذه الجماعة ان يرد لها الدين خرج رافعا غضبه وشططه وأحرق الجامعة التي وفرت له فرصة التعليم بالمجان.. هذا هو الشق الفكري والثقافي في قضية الإرهاب. إن هذا الشاب لم يولد إرهابيا ولكن المناخ الفاسد والسلوكيات المشبوهة هي التي جعلته يسقط ضحية منظومة فاسدة في السلوك والأخلاق. على الجانب الآخر لفساد المنظومة التعليمية كان الإعلام المصري غارقا في تفاهاته اليومية حيث البرامج التافهة والفن الهابط والثقافة الضحلة، بينما الريف المصري بشبابه غارق في دنيا الخزعبلات وفي الزوايا والمساجد كانت هذه الجمعيات المشبوهة تحاصر الشباب وتبث في عقولهم أفكارا ورؤى خارج الزمان.. وما بين أشباح العفاريت والبخت والخطاب الديني المشوه نشأت أجيال جديدة سجنت نفسها في هذه المفاهيم حتى أغلقت كل ضوء شارد يمكن ان يتسلل إلى عقولها.. في آلاف الزوايا كانت عقول شبابنا هي ضحية خطاب ديني لا يعرف الوسطية ولا يدرك قيمة الحوار واختلاف الرأي.. ولم يكن غريبا ان يفصح هذا الفكر عن وجهه الحقيقي حين اندفعت حشود الإرهاب تحرق كل شئ تحت دعاوى دينية كاذبة ومضللة.. ما بين المدرسة والإعلام سقط ملايين الشباب في دوامة الشطط الديني والفكري وساعد على ذلك ظروف اقتصادية صعبة أمام أشباح البطالة والفقر والعشوائيات وما افرزته من نماذج بشرية مشوهة وغاضبة ورافضة.. في هذا الوقت كانت مؤسسات الدولة الثقافية تسير على نفس النهج متجسدا في ثقافة الاحتفالات والمناسبات السعيدة وثقافة الأنس والفرفشة تحت أضواء القاهرة الساحرة ومهرجانات العبث والثقافة السياحية بينما كان الشباب في ريف مصر وضواحيها غارقا في الخزعبلات والشطط الفكري. وأمام هذه الثلاثية: فساد التعليم وفساد الإعلام وفساد الثقافة كان من السهل ان تظهر أجيال جديدة اجتاحها فكر ديني خاطئ وساعد على ذلك حالة من الفراغ السياسي أمام غياب دور الأحزاب السياسية وتخلي أجهزة ومؤسسات الدولة عن دورها في تأصيل الوعي السياسي. هذا هو الوجه الخفي للإرهاب تحت راية الفكر ولا شك ان السبب الرئيسي في ذلك هو غياب مؤسسات الدولة وتراجع دورها وهنا لا يمكن أن نتجاهل اهمال الدولة لدور الأزهر مما وصل به إلى هذه الحالة من الغياب.. وهنا بدت الصورة أمامنا.. دوائر من الفراغ الفكري والسياسي والديني ووجدت جماعات الإرهاب والشطط فرصتها في تجنيد هذه الملايين من الشباب الضائع.. وللأسف الشديد ان الدولة على امتداد فترات طويلة من المواجهة اكتفت بالمواجهات الأمنية واستبعدت تماما كل جوانب الفكر لأنها وضعت على رأس المؤسسات المسئولة أشخاصا اجادوا لعبة الرقص على الحبال وإرضاء السلطة وتفريغ المجتمع من كل قدراته ومواهبه ورموزه الحقيقية.. والآن وصل بنا الحال إلى ما نحن فيه الآن طلابا يحرقون جامعاتهم.. واساتذة يروجون للشطط والعنف والتطرف.. وفئات اجتماعية سقطت في مستنقع الإرهاب والفوضى، وهنا ينبغي ان نتوقف عند الجانب الفكري في قضية الإرهاب. لابد من إنقاذ ثلاثية التعليم والإعلام والثقافة في مصر ولا يعقل ان يبقى التعليم في مصر على حالته ما بين السطحية الشديدة والإزدواجية، بين ما هو أجنبي وما هو مصري وهذه الخلطة الغريبة بين التعليم العام والخاص.. ولا ينبغي السكوت على حالة الإنفلات التي يعيشها الإعلام المصري ما بين الفوضى وغياب الفكر والرؤى مع تسطيح كل شئ، اما الثقافة ثروة مصر الحقيقية فهي في حاجة لعملية إنقاذ سريعة.. وفي هذا السياق لا بد ان يسترد الأزهر دوره ورسالته في ظل ضوابط توفرها الدولة لحماية هذه المؤسسة العريقة. لا يعقل أن نعالج قضايا الإرهاب أمنيا فقط بينما لا توجد برامج توعية واضحة على المستوى الفكري والثقافي في قضايا الإنتماء والمواطنة والحوار مع الآخر ووسطية الخطاب الديني مع غياب كامل لدور الأسرة المصرية في توجيه وتقويم الأجيال الجديدة. رغم مئات المظاهرات ورغم خلع رئيسين ونجاح ثورتين مازال الفراغ السياسي في الشارع المصري قضية خطيرة لم تستطع جموع الشباب من الثوار حتى الأن إنشاء حزب سياسي واعد، ومازالت الانقسامات في المواقف ولا أقول الفكر تهدد مستقبل أجيالنا الجديدة، ومازالت الأحزاب السياسية تعاني أمراضها المزمنة في سنوات التصحر والتجريف ولا يعقل اننا بعد ثلاث سنوات مازلنا حتى الأن نقف في نفس المكان على المستوى الفكري والسياسي والثقافي وكأن الثورة لم تقدم شيئا لنا.. الخلاصة عندي ان هناك اهمالا كاملا للجانب الفكري والثقافي في قضية الإرهاب.. ان نجاح أجهزة الأمن في المعركة ضد الإرهاب لا يعني نهايته فمازالت خلاياه ومنابعه وأسبابه، والمطلوب معالجات فكرية لواقع ثقافي يعاني تشوهات كثيرة. بعد أن تهدأ العواصف في الشارع المصري وتستقر أحوال الناس لا بد ان نفتح بكل الصدق والأمانة ملف قضية الإرهاب بجوانبها الفكرية والثقافية لأنه لا يعقل ان يبقى الإرهاب خطرا يطارد المؤسسات الأمنية بعيدا عن جذوره الفكرية وهي أسوأ ما فيه. ..ويبقى الشعر لا تَذكُرى الأمْسَ إنّى عِشْتُ أخفِيه إنْ يَغفِر القَلْبُ.. جُرحِى مَنْ يُدَاويهِ قَلْبِى وعينَاكِ والأيَّامُ بَينَهُمَا دَربٌ طويلٌ تعبْنَا مِنَ مَآسِيهِ إنْ يَخفِق القَلبُ كَيْفَ العُمْرُ نُرجعُهُ كُلُّ الَّذى مَاتَ فينَا.. كَيْفَ نُحْييهِ الشَّوقُ دَرْبٌ طويلٌ عشْتُ أسْلُكُهُ ثُمَّ انْتَهَى الدَّربُ وارْتَاحَتْ أغَانِيه جئْنَا إلَى الدَّرْبِ والأفْرَاحُ تَحْمِلُنَا واليَوْمَ عُدْنَا بنَهر الدَّمْع ِ نَرْثِيه مَازلتُ أعْرفُ أنَّ الشَّوْقَ مَعْصِيتى وَالعشْقُ واللّه ذنْبٌ لسْتُ أخْفِيه قَلْبِى الَّذِى لَمْ يَزَلْ طِفْلا ً يُعَاتبُنى كَيْفَ انْقَضَى العِيدُ.. وانْفَضَّتْ لَيَالِيهِ يَا فَرْحة ً لَمْ تَزَلْ كالطَّيفِ تُسْكرنِى كَيْفَ انْتَهَى الحُلمُ بالأحْزَان ِ والتِّيهِ حَتَّى إذا ما انْقَضَى كالعِيدِ سَامرُنَا عُدْنَا إلَى الحُزْن ِ يُدْمينَا .. ونُدْمِيهِ مَا زَالَ ثَوْبُ المُنَى بِالضَّوْءِ يَخْدَعُنِى قَدْ يُصْبحُ الكَهْلُ طِفْلا ً فِى أمَانِيهِ أشْتَاقُ فِى اللَّيل ِ عطْرًا مِنْكِ يَبْعَثُنِى ولْتَسْألِى العِطْرَ كَيْفَ البُعْد يُشْقِيهِ ولتسْألِى اللَّيْلَ هَلْ نَامَتْ جَوانِحُهُ مَا عَادَ يَغْفُو وَدَمْعِى فِى مآقِيهِ يَا فَارسَ العِشْق ِهَلْ فِى الحُبِّ مَغْفِرَة ٌ حَطَّمتَ صَرْحَ الهَوَى والآنَ تَبْكِيهِ الحُبُّ كالعُمْر يَسْرى فِى جَوانِحِنَا حَتَّى إذَا مَا مَضَى.. لا شَىْءَ يُبْقِيهِ عاتَبْتُ قَلْبِى كَثيرًا كَيْفَ تَذكُرهَا وعُمْرُكَ الغَضُّ بيْنَ اليَأس ِ تُلْقِيهِ فِى كُلِّ يَوْم ٍ تُعيدُ الأمْسَ فى ملَل ِ قَدْ يَبْرأ الجُرْحُ .. والتذكارُ يُحْييهِ إنْ تُرجعِى العُمْرَ هَذا القَلْبُ أعْرفُهُ مَازلتِ والله نبْضًا حائِرًا فيهِ .. أشْتاقُ ذنْبى ففِى عَيْنيكِ مَغْفِرتِى يَا ذنْبَ عُمْرى .. ويَا أنْقَى ليَاليهِ مَاذا يُفيدُ الأسَى أدْمَنْتُ مَعْصِيَتِى لا الصَّفْحُ يُجْدِى..وَلا الغُفْرَانُ أبْغِيهِ إنِّى أرَى العُمْرَ فى عَيْنَيكِ مَغْفِرَة ً قَدْ ضَلَّ قلْبِى فَقُولِى..كَيْفَ أهْدِيهِ ؟! "قصيدة لأن الشوق معصيتي سنة 1989" نقلا عن جريدة الأهرام