ثار اخيرا جدل حول إقامة الأسواق فى الشارع وازدحامه نتيجة لذلك بالباعة المتجولين. فهناك من يرى فى ذلك انتهاكا لحق المواطن فى الرصيف، وهناك فريق آخر يرى أن لهؤلاء الباعة الحق فى الارتزاق أينما وجدوا لذلك سبيلا، وبخاصة فى مدينة لم توفر لهم المكان المناسب. وأنا أسكن فى حى يتجسد فيه هذا التضارب. فالباعة المتجولون يحتلون جزءا من الشارع الرئيسى بالقرب من محطة المترو، ويعرضون هناك بضاعتهم, من الملابس والأحذية والمواد الغذائية، بما فى ذلك الفاكهة والخضراوات وبعض المنتجات الريفية, على الرصيف وفى الطريق. والبعض يعرض بضاعته على عربة، والبعض الآخر يفترش الأرض. وأنا شخصيا لا يضايقنى عقد الأسواق فى الشوارع أو الساحات العامة شريطة الالتزام ببعض الشروط، ومنها بصفة خاصة شروط الصحة والنظافة. ولا أجد غضاضة فى الزحام الناتج وتعطيل حركة المرور شيئا ما. وأرى من هذه الناحية أن ازدحام الشارع بحديد السيارات ما بين متحركة ومركونة أمر أسوأ وأدعى للضيق واختناق الأنفاس. للسوق المعقودة فى العراء بهجة تذكر بأجواء الاحتفال. كان الناس فى المنطقة الريفية التى ولدت فيها يستيقظون فى الساعات الأولى من الصباح ويهرعون مع حيواناتهم إلى سوق الماشية فى بلدة المركز. وأذكر أن تلك البلدة كانت تشهد بالإضافة إلى سوق الماشية, سوقا أخرى تعقد يوم الأربعاء من كل أسبوع. فكنت ترى أهل القرى التابعة يفدون إلى المركز على مطاياهم أو سيرا على الأقدام. وكانت السوق تعقد فى ساحة واسعة فى قلب البلدة، ولكنها كانت تتشعب وتتفرع فى الحوارى والأزقة القريبة، كما كانت لها طلائع فى السكة الزراعية المؤدية إلى البلدة. وكانت فيها منافع للناس، ولكن كانت فيها أيضا فرص للتلاقى والتعارف بين أهل القرى بل وصلة الرحم فيما بين الأقارب منهم. فلم يكن من المستبعد أن ترى فيها أحد أقاربك الأبعدين، فيكون هناك ترحيب وعناق، وقد تكون هناك دعوة إلى الغداء على هامش السوق. وكانت هناك فى نفس الجيرة أسواق أخرى تعقد فى مواقع أخرى على مدى الأسبوع. كانت هناك سوق الإثنين، وسوق ثالثة يوم السبت. ومما يسترعى الانتباه أن أحدا من مرتادى السوق لم يكن فى عجلة من أمره. فلا البائع ولا المشترى يريد أن يعقد الصفقة أيا ما تكن ويتلقى الفلوس أو يدفعها وينتهى الأمر. فالمعاملات كانت فرصة لتبادل الأحاديث والمساومة, المفاصلة, كما يقال. وكانت هذه العملية هى إحدى قواعد اللعب الاجتماعية. وقد لا يخلو هذا اللعب من دعوة المشترى إلى تناول القهوة أو الشاى على حساب البائع. وذلك أن الناس كانوا يفصلون البيع والشراء فى جو من الإمتاع والمؤانسة. ولم تكن تلك العادات والتقاليد الاحتفالية مقصورة على الريف، بل كانت حية أيضا فى الأحياء القديمة من القاهرة كما وصفها نجيب محفوظ ويحيى حقى وغيرهما من الروائيين المصريين. وقد شهدت أنا بنفسى مجالسة التجار لزبائنهم على مصاطب فى الشارع خارج الدكاكين، وعقد الصفقات على مهل ومع أداء واجبات الضيافة فى بعض الحالات. كان البيع والشراء جزءا من فن العيش. فإذا انتقلنا, كما ينبغى أن ننتقل, إلى باريس، رأينا كيف أنها, وهى مدينة النور والحضارة الرفيعة, تحتفى بالريف وخيراته. فلكل حى سوقه التى تعقد فى أيام محددة من الأسبوع. وقد أتيح لى زيارة الأسواق فى عواصم مختلفة، ولكنى وجدت أن أسواق الشارع الباريسية هى أجمل الأسواق على الإطلاق. يلاحظ الزائر على الفور مظاهر الوفرة والبذخ، وأعنى بذلك غزارة المنتجات الغذائية وتنوعها سواء أكانت من ثمرات الأرض أم من ثمرات البحر، أم من منتجات الأقاليم. ثم يلاحظ الزائر أيضا أن طريقة عرض السلع تتسم بحسن الذوق وتدل على شغف السكان بملذات المائدة. فالسوق توفر لكل من شاء جميع السلع اللازمة للاحتفال فى نفس اليوم بوجبة غداء أو عشاء فاخرة, يصدق ذلك على مختلف المواعين وأدوات المائدة ومفارشها، ووسائل زينتها مثل الزهور. ويدرك الزائر أيضا أنه فى بلد تزدهر فيه الزراعة والمحاصيل. والباريسيون يحبون أسواقهم لأنها تخضع لتنظيم السلطات المحلية، وما تفرضه من شروط الصحة والنظافة وتخصيص المواقع على أرض السوق. ويبدو أن سكان الحواضر الأوروبية خطر لهم ذات يوم أن يجمعوا سوق الشارع أو السوق الريفية بمختلف شعبها وفروعها فى مبنى واحد. ومن ثم كانت المتاجر الكبرى (كما يقول الفرنسيون) أو المتاجر ذات الأقسام (كما يقول الإنجليز)، أو مول التسوق (كما يقول الأمريكيون). فالمتجر من هذه المتاجر, مثل هارودز فى لندن أو البون مارشيه فى باريس, سوق ضخمة تشمل كل شيء: من الإبرة إلى الصاروخ كما يقال أحيانا على سبيل المبالغة. فهى، إن كانت لا تشمل ولا يمكن أن تشمل كل شيء، فإنها توفر للزائر كثيرا مما قد يريد. ويستطيع الزائر أن يشترى ما يشاء فى قسم أو آخر من أقسام المتجر وينصرف، ولكنه يستطيع أيضا أن يتسكع بين الأقسام المختلفة، وأن يتوقف هنا أو هناك ليستريح فى أحد المطاعم أو المقاهى الداخلية، ثم يستأنف التجوال. ولذلك كانت هذه المتاجر ذات حظوة لدى ربات البيوت، فهى تزودهن بكل ما يحتجن لتدبير شئون المنزل. أو ليس من الممكن أن يقال إن السوق صورة مصغرة وإن كانت عدسة مكبرة للحياة فى البلدة أو المدينة التى تقام فيها؟ وهى شاهد على تاريخ المكان. فهكذا كان خان الخليلى فى القاهرة؛ وهناك سوق تناظره فى اسطنبول وتتفوق عليه فى رأيي. وهناك بطبيعة الحال البازار فى طهران. وينبغى الا ننسى سوق عكاظ فى العصر الجاهلى، وهى سوق صارت عند العرب فى عداد الأساطير. قرأت ذات يوم أن النابغة الذبيانى كان يجلس فى عكاظ ليحكم بين الشعراء: أيهم أكبر. وحدث ذات يوم أن وفد إليه شاعر - يقال إنه قيس بن الحطيم وبدأ الإنشاد مستهلا قصيدته كما جرت العادة بالوقوف على الأطلال. ولكن الشاعر لم يتجاوز الشطرة الأولى من المطلع: أتعرف رسما كاطراد المذاهب, حتى أجازه النابغة بوصفه أشعر الجن والإنس. ولنا أن نصدق القصة أو نكذبها، ولكن المهم والمؤكد أن السوق الجاهلية كانت تمتاز على سائر الأسواق بأنها كانت تفرد, إلى جانب التجارة ومنافع الناس, مكانا للشعر، وتحتفى بالشعراء. من المؤسف أن الشعر فقد مكانته تلك، وأصبح من النادر أن ينشد فيطرب له المستمعون كما يطربون لعزف الموسيقى، وكما يندمج رواد المسرح فيما يجرى من تمثيل على الخشبة. ولماذا, بالمناسبة, لم نعد نرى فرق الموسيقى العسكرية تعزف فى الشوارع والميادين العامة؟ ولماذا انتهت الفلسفة إلى الانحباس بين الجدران الأكاديمية وداخل صفحات المجلات المتخصصة، بعد أن كانت شأنا حيويا من شئون المواطنين؟ ألم يكن سقراط يناقش مسائلها على قارعة الطريق؟ لمزيد من مقالات عبدالرشيد محمودى