رغم أن الزعيمين، الروسى فلاديمير بوتين والصينى شى جى بينج، قد التقيا أكثر من ثلاثين مرة على مدى السنوات الست الماضية منذ تولى الرئيس شى السلطة عام 2013، فإن قمة موسكو الأخيرة كانت إيذانا بمرحلة جديدة فى العلاقات بين البلدين التى وصلت بالفعل لمستويات غير مسبوقة. وخلافا لما تذهب إليه بعض الكتابات الغربيةوالأمريكية، التى تشكك فى العلاقة بين روسياوالصين مستندة إلى خلافات تعتبر الآن جزءاً من الماضى، وتاريخا لا يمكن قياس الحاضر عليه، فقد تجاوزت العلاقة بينهما الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجى واقتربت كثيرا من التحالف الاستراتيجى، يدعم ذلك مجموعة من المؤشرات. أولها: القاعدة الصلبة من المصالح المتبادلة بين الطرفين. فقد شهد التعاون الاقتصادى والتقنى بينهما قفزات ملحوظة وأصبح أوسع كثيرا من قطاع الطاقة وإن ظل الأخير فى صدارة التعاون بينهما، وكانت شركة غازبروم الروسية قد وقعت مع شركة سى.إن.بى.إس الصينية اتفاقية تقضى بتوريد 38 مليار طن سنويا من الغاز الروسى لمدة 30 عاما بقيمة 400 مليار دولار، فى صفقة اعتبرت الأضخم عالمياً، وأطلق عليها صفقة القرن بين البلدين، وذلك عبر خطوط نقل مباشرة من سيبيريا أهمها خط أنابيب قوة سيبيريا، الذى يبلغ إجمالى طوله نحو 4 آلاف كيلومتر. هذا إلى جانب التعاون فى المجال النووى ويتضمن مشاريع قائمة على التكنولوجيا المتطورة لا نظير لها فى الصناعة النووية العالمية، ليؤكد البلدان قيادتهما فى المجال، منها قيام شركة روس أتوم الروسية للطاقة النووية ببناء أربعة مفاعلات نووية فى الصين تبلغ قدرة كل منها 1200 ميجاوات، اثنان منها فى محطة تينوان النووية، واثنان فى محطة شوداباو. كذلك التعاون فى مجال الفضاء حيث تقدم روسيا معدات لمولدات كهرباء حرارية تستخدم فى برنامج الفضاء الصينى المخصص لاستكشاف القمر، واتفقت شركة روس كوسموس الروسية مع إدارة الفضاء الوطنية الصينية على توسيع مشاريعهما المشتركة فى مجال استكشاف القمر. على صعيد آخر، تشهد الاستثمارات المشتركة نموا ملحوظا ويتم تنفيذ أكثر من 30 مشروعا مشتركا فى المجالات المختلفة بعضها فى الأقاليم الروسية ومنها الشرق الأقصى الروسى الذى يمثل فضاء رحبا للتعاون والاستثمار المشترك بين البلدين. أما على صعيد التبادل التجارى بينهما فقد بلغ 108 مليارات دولار، ويعمل البلدان على زيادته إلى 200 مليار دولار، وهو رقم قياسى فى تاريخ العلاقات بينهما وعالمياً، وذلك فى ضوء تعزيز الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الاقتصادى الأوراسى الذى تقوده روسيا ومشروع الحزام والطريق الذى تقوده الصين، واستخدام العملات الوطنية، الروبل واليوان، فى التعاملات بينهما وعبر البنوك المشتركة. وخلال قمة موسكو يوم 5 يونيو تم توقيع 21 اتفاقية تدعم التعاون فى المجالات السابقة وتدشن تعاونا جديدا فى المجال الزراعى والصناعى ومجال النقل والاتصالات. من أبرزها شركة مشتركة للصناعات الغذائية برأسمال 80 مليار دولار، وإنشاء ممر للنقل يتضمن خطوطا برية وبحرية لتسهيل التنقل بين البلدين، وتطوير البنى التحتية الحدودية بينهما. كما لُوحظ ضخامة الوفد الصينى المشارك فى منتدى سان بطرسبورج الاقتصادى الدولى، ألف من المسئولين ورجال المال والأعمال، الذى حضره الرئيسان بوتين وشى ومثل الأخير ضيف شرف المنتدى. يتزامن التعاون الاقتصادى مع آخر عسكرى لا يقل أهمية حيث وقع البلدان خارطة طريق لتطوير التعاون فى المجال العسكرى بينهما خلال الفترة من عام 2017 وحتى 2020. وتسلمت الصين منظومات إس-400 الروسية بموجب صفقة أبرمتها مع موسكو عام 2014، لتكون بكين بذلك العاصمة الأجنبية الأولى التى تحصل على هذه المنظومة، كما تم تدريب مجموعة من العسكريين الصينيين فى روسيا على تشغيلها واستخدامها. كما حصلت بكين على مقاتلات «سو-35» الروسية، الأمر الذى يزعج واشنطن وتعتبره تهديداً للسيطرة الجوية الأمريكية فى منطقة شرق آسيا رغم كونها منظومات دفاعية. كما يعد التدريب والمناورات المشتركة أحد أبرز محاور هذا التعاون الاستراتيجى، ويقوم البلدان بالعديد من المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة، من أبرزها مهمة السلام لمكافحة الإرهاب التى تجريها مع باقى دول منظمة شنجهاى. ومن المعروف أن الصين كانت مطلع العقد الماضى تمثل السوق الرئيسية للسلاح الروسى وتستأثر وحدها بما يزيد على 50% من إجمالى مبيعات الأسلحة الروسية ومع تطور الصناعات العسكرية فى الصين تراجعت وارداتها من الأسلحة الروسية واقتصر على منظومات نوعية عالية التقنية. ثانيها: التهديدات والتحديات المشتركة التى تواجههما معاً، وأبرزها وأهمها السياسة الأمريكية العدائية تجاه البلدين وحرب العقوبات التى تشنها واشنطن ضد روسيا وحربها التجارية تجاه الصين. فقد جاءت استراتيجية الأمن القومى الأمريكى التى أصدرها دونالد ترامب فى ديسمبر 2017 لتؤكد أهمية توسيع النفوذ الأمريكى فى العالم، معتبرة أن دور روسياوالصين الدولى يمثل تهديداً للولايات المتحدة، مستخدمة مصطلح الدول التحريفية للإشارة إلى روسياوالصين اللتين تحاولان تغيير الوضع الراهن، أو القوى المراجعة التى تريد خلق عالم لا يتوافق بالضرورة مع المصالح والقيم الأمريكية. ومن ثم تسعى موسكووبكين إلى الانتقال لنظام دولى متعدد القوى تمثل أوراسيا مركز ثقل مهما وقائدا فيه على الصعيدين الاقتصادى والاستراتيجى. ثالثها: المواقف المتطابقة والرؤى المتناغمة حول القضايا والأزمات الدولية والإقليمية المختلفة وفى مقدمتها فنزويلا وسوريا وإيران وغيرها فى تحد وتناقض واضح مع المواقف الأمريكية التى ترى البلدان أنها تزعزع الاستقرار والأمن الدوليين. رابعها: الود والتفاهم الذى يغلف العلاقة بين البلدين على مستوى القيادات والشعوب. فخلال عام 2018 زار الصين نحو مليونى سائح روسى، وزار الصين عدد كبيرمن الروس (8.1 مليون)، وغلب على القمة وجولات الرئيسين بوتين وشى فى سان بطرسبرج روح الود والصداقة والاحترام المتبادل لاثنين من أقدم الحضارات فى العالم. إن القوة الاستراتيجية الضاربة لروسيا يدا بيد مع القوة الاقتصادية الهائلة للصين ستغير حتما من موازين القوى العالمية، ومن مسار كثير من الأزمات الإقليمية والدولية، وستساعد على الانتقال إلى نظام أكثر عدالة واستقرارا كما يطمح البلدان. لمزيد من مقالات د . نورهان الشيخ