كتب:مكاوي سعيد تحرك الجالسون بصالة المغادرة بمجرد سماع رقم الرحلة, وتوقيت الإقلاع يبث من السماعات التي فوق رؤوسهم, انهمك بعضهم في إخراج جواز سفرهم والتذكرة من حقائب الظهر. والبعض الآخر بدأ يتخلص من قنينات المياه البلاستيك وبقايا المأكولات, وعند النداء الأخير قام غالبهم بهمة واصطفوا في صفين أمام بوابة الدخول التي يقف أمامها أمينا شرطة ينظران إلي المتجهين نحوهم بصرامة, الأكبر سنا والأكثر بدانة والذين يعانون من متاعب مرضية نهضوا بمساعدة آخرين, وفي غضون ثوان صارت الصالة التي كانت تشغي بالناس خالية تقريبا إلا من عاشقين أو زوجين حديثين كانا يتناجيان بمعزل عن الجميع, كان الطابوران المصطفان يتآكلان بمجرد أن يفحص أحد الأمناء الأوراق ويتأكد من تطابق صورة الجواز مع الشخص الواقف أمامه, انتبهت الفتاة لفراغ الصالة فخبطت علي كتف رفيقها وقاما بتزامن منضبط, لكنها أوقفته لتناوله جواز سفره وتذكرته بعد أن أخرجتها من حقيبتها, وهو يهم بالاتجاه إلي مؤخرة الطابور, لمح شنطة بلاستيك داكنة سوداء ملقاة علي أحد الكراسي, أعلن بصوت قوي أن هناك شنطة منسية, التفتت رؤوس من الطابور تجاه ما يشير إليه لكن دون اهتمام, تحركت فتاته نحو الشنطة وفتحتها ونظرت بداخلها, ثم أعادتها إلي مكانها وقالت له بصوت محايد عبر مسافة: كتب..., ثم لحقت به إلي الطابور, دخلت في اللحظة ذاتها سيدة تدفع طفلها علي عجلته بسرعة تلحق الدخول وبجوارها زوجها وبيده وثائق السفر, اطمأنت عندما لمحت المسافرين مازالوا يدخلون, وهي تمر بجوار الكرسي الذي عليه الشنطة توقفت بعربة الطفل, وناولت مقودها لزوجها, واتجهت ناحية الكرسي, بينما دفع الرجل عربة الطفل إلي الأمام اعتراضا علي ما تفعله,فحصت السيدة الشنطة باهتمام, ثم نظرت تجاه زوجها الذي يرقبها وضمت شفتيها وهمست: كتب, دون أن يبين صوتها, لم يفهم الزوج في أول الأمر, وضعت الحقيبة مكانها وظهرت حركة شفتيها أوضح هذه المرة: كتب, ثم هرولت تجاه زوجها, وبدلت من وضعها هذه المرة وأخذت الوثائق وتركت زوجها يقود العربة تجاه باب الخروج, خلت الصالة تماما ودخلت عاملة النظافة وهي تدفع مكنستها الكهربائية تلتقط الأوراق وأكياسالشيبسيوالمولتو وتشفط الأتربة, مرت بجوار الكرسي ووجدت الشنطة, استدارت برأسها في كل الأرجاء, اطمأنت أن لا أحد يتابعها لكنها رغم ذلك حاذرت, وهيمنت بجسدها علي الكرسي واحتضنت الشنطة بلهفة وبدأت في تفتيشها, استدارت بخيبة أمل والشنطة لاتزال بيدها وكادت تصطدم بالمكنسة, لعنت المسافرين بصوت منخفض وهي في طريقها إلي سلة المهملات في ركنهاالقصي, رمت بالشنطة داخل السلة ثم عادت إلي ما كانت تفعله... هذا المشهد حقيقي رأيته- رؤية العين- في أثناء إحدي سفرياتي, وغضبت من هذا التعامل المذري مع الكتب.. من الذي اشتراها ولم يأبه لفقدها أو لعله تركها عامدا.. ومن الذين تصوروا أن الشنطة بها ملابس أو برفانات وتسللوا للاستيلاء عليها ورجعوا خاليي الوفاض.. ومن عاملة النظافة التي عاملتها كأنها نفايات... ثم هدأت واعتبرت أن هذه عينة عشوائية لسوء الحظ جاءت متوافقة في سلوكها ضد الكتب.. إلي أن أعادت إلي نفسي هذا الإحساس المقيت.. حادثة اقتحام رجال البلدية لأكشاك بيع الكتب التي كانت تزين شارع النبي دانيال وتعطيه واجهة حضارية.. ذلك الشارع الذي كان مقصدا لمثقفي مصر عند زيارة الإسكندرية.. رمي الكتب ودهسها علي الأرض بالرغم من تأكيد أصحاب الأكشاك بأنها أكشاك مرخصة.. بينما التعديات والإشغالات من بائعي الملابس والأكل ولعب الأطفال علي بعد أمتار من شارع النبي دنيال نفسه ولم يتحرك أحد لإزالتها, والحيوانات النافقة تلقي في ميدان محطة مصر علي مسافة قريبة من الشارع المعتدي عليه وتترك حتي تتحلل ولا يتحرك أحد, لكن لأن الثقافة ليست لها ظهر, يعتليها الجميع, بينما بعض المثقفين مشغولين بلقاء ولي الأمر, وبعضهم يسعي وراء مصالح شخصية, ومجموعة منهم قابعة في بروج عالية, والقليل منهم متمسك بثقافته كالقابض علي الجمر. حاذروا فسيأتينا أمثال جوبلزوزير الدعاية النازي بمقولته الشهيرة عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي, وأمثال يوليوس قيصر عندما أحرق مكتبة الإسكندرية وبمثل جحافل المغول عندما أحرقت مكتبات بغداد وألقت بالرماد في نهر دجلة, وقيل إنه بقي سبعة أيام أسود اللون, وبمن أشبه بالذين أحرقوا كتب ابن رشد وابن حزم وكفروهما.. أيها الكتاب والمفكرون المتكالبون علي لقاء الرؤساء والملوك بحجة إيصال صوتنا إليهم, نفاجأ عقب هذه اللقاءات بمطالبكم الشخصية وبكلامكم المرسل وببعض النفاق والمداهنة.. اعملوا خيرا في هذه الأمة وتكاتفوا ودافعوا عن الثقافة التي جعلتكم تتبوأوا مكانتكم هذه.. الثقافة التي يتجاهلونها ويعادونها ويهملونها.. ألم تلاحظوا أنه في كل لقاءات الرؤساء الذين تلتقونهم.. في كل الصحف السيارة ووكالات الإعلام التي تقتات من نتاج عقولكم.. لا يذكرون أحدا منكم إلا قليلا, بينما الفنانون الذين برفقتكم- مع شديد الاحترام لهم- مهما كانوا كبارا أو صغارا في فنهم حتي لو كان من بينهم من مر أمام الكاميرا بالصدفة, تهلل له الصحافة وتستضيفه الفضائيات, إن ضعفكم وهوانكم علي أنفسكم يضعف موقفنا, فاستقووا يرحمكم الله.