كان صوت مكنستها الكهربائية المزعج لايزال ساطعا , كان عمرها أي المكنسة يزيد عن العشرة أعوام وأصبح صوتها أكثر إزعاجا من أي وقت مضي , ولكنها مازالت تسحب بعض الأتربة إلي بطنها العجوز. مالبث أن استيقظ من نومة طويلة , لم يرتد نظارته الطبية بعد , توجه إلي دورة المياه ، لم يغسل وجهه، تبول ، وكان لون بوله أكثر صفرة من المعتاد، غسل يديه، أو هكذا بدا له، وخرج حتي غطي صوت المكنسة الكهربائية علي صوت أحلام الليلة الماضية التي لاتزال ترن بأذنيه... توجه إلي حجرته وفي صمت بحث عن نظارته، لم يجدها بمكانها المعتاد، فبدأ بالبحث عنها مستعينا بحاسة اللمس علي مكتبه الخشبي العتيق، وجدها ووضعها علي وجهه، فاستقرت في الحفرتين اللتين دأبت علي حفرهما بجانبي أنفه منذ سنين، فتح عينيه وأغلقهما عدة مرات قبل أن يضبط نظره، عاد إلي مرآة حجرته ناظرا لنفسه نظرة فاحصة، اخترقت يده خصلات شعره، ثم انصرف عن صورته وخرج إلي الصالة المجاورة .. كانت بوقتها قد توقفت عن تنظيف أرضية الحجرة وعن ازعاجه. فتح النافذة، كانت الشمس لاتزال تنظر إلي الكون من خلف ستار، جارهم الشاب يقف بنافذته المقابلة لسبب غير مفهوم في وقت مبكر كهذا، لم ينتبه الجار إليه، فأشاح سريعا بوجهه ودلف بين الجدران، لعله نظر إلي المكنسة أو أي شئ آخر متجنبا حديثا محتملا مع جاره الأبدي، عاد إلي الصالة، جلس علي كرسي وثير تطوله أطراف أشعة الشمس، ولا تطوله نظرات جاره النحيف، أشعل سيجارته بينما جلست بكرسي مقابل له، لم ينظرا إلي بعضهما البعض وبدا الوضع تلقائيا، غير متعمد، وعاديا .... لم يصل إلي نصف سيجارته حتي خفسها بالطفاية المجاورة. ذهب إلي نتيجته الخاصة، فهو لا يعتمد علي النتائج المطبوعة إياها، تلك التي يوزعونها عليه بالعمل بأول كل عام جديد، ولم يكن ليهتم بالتقسيم المعتاد للشهور والأسابيع... كان له نتيجته الخاصة، يصنعها كل عام، يذهب إلي مطبعة مجاورة، تقوم علي طباعة الكتب الدراسية، ويستأجرها لطباعتها له خصيصا، والنتيجة المخصوصة تبدأ بعيد ميلاده من كل عام, فهو اليوم رقم (1)، وتنتهي باليوم رقم (365)، و بجواره يطبع عمره الجديد... طور فكرته وبدأ في وضع نتائج عكسية، كتب بأول أوراقها " باقي 365 يوم " واستمر بعد تنازلي حتي وصل إلي يوم يتم فيه عام جديد من عمره... ذهب كعادته بمطلع كل صباح إلي نتيجته المبتكرة حيث تصدرتها ورقة كتب عليها ( باق يوم واحد)، فاقتطف الورقة وقد كتب علي لاحقتها بخط أسود غامق، بخط فارسي مميز، " ثلاثون عاما". تأمل الورقة مليا، مكتوب عليها أن اليوم هو الأثنين، يظن أنه صلي الجمعة بالأمس، ما أسرع مر الأيام!! كانت قد بدأت في استخدام المكنسة من جديد، نظر إليها معاتبا ولكنها لم تكن تلتفت إليه، كان جانب السجادة المتسخ هو ما يلفت نظرها الآن. مرت دقائق، ارتدي بها ملابسه العادية وخرج إلي الشارع دون أن يحلق ذقنه لما أصابها من التهابات بالأيام الأخيرة. شعر أن القميص أضيق من ذي قبل، فألقي نظرة علي بطنه، ثم تحسسها بيده، وتتبع صورته المنعكسة علي زجاج المحلات والمطاعم، ظن أن القميص هو الذي ضاق، يبدو أنها لم تستخدم البرنامج الصحيح أثناء غسيله، ولكنه يشعر أن جسده قد امتلأ أيضا... قرر ألا يذهب إلي العمل بعدما قطع نصف الطريق إليه، إنه يوم عيد ميلاده الثلاثين، لابد أن يكون مختلفا... مر أمام بائع الجرائد، فتجاهله، لقد اعتاد ألا يشتري الجرائد بهذا اليوم. رمق كل من مر به في الشارع بنظرة من طرف عينه، هم نفس الأشخاص الذي اعتاد علي رؤيتهم بكل يوم، نفس الوجوه والتجاعيد القديمة، نفس بائع الجرائد ونفس سائق الميكروباص ونفس المارة، هم أنفسهم، في الواقع لم يكلمهم أبدا، بالرغم من أنه ظل يراهم علي مدار الثلاثين عاما الماضية، إلا أنه لم يبادلهم إلا النظرات، فقد يخطف الجريدة من أمام بائع الجرائد واضعا ثمنها بجوار يده المكرمشة دون أن ينطق بكلمة، ولكنه تصور أن أحدهم قد يلاحظ أنه أتم الثلاثين من عمره اليوم، قد يبارك له، أو علي أقل تقدير يهديه ابتسامة عابرة، ظن أنه ليس بحاجة أن يبلغهم، تصور أن الأمر يظهر جليا للجميع، فوجه رجل ثلاثيني بالتأكيد يختلف عن وجه رجل عشريني... ولكنه تراجع وأيقن أنه مخطئ بظنه. تعجب أنه الوحيد الذي يعجز ويشيخ في هذا العالم، فكل هؤلاء المارة بنفس هيئتهم منذ أن رآهم لأول مرة بحياته، لم تشب شعرة واحدة فوق رؤوسهم ولم يمرض أي منهم ...حتي هذا الفكهاني الذي تجاوزت ملامحه التسعين، مازال علي نفس صورته تلك طوال سنينه الثلاثين، لم يتغير، ولم يمت ... بدا الأمر مزعجا له، هل هو الوحيد الذي يعجز بهذا الكون ؟؟؟ توجه إلي محل الحلوي الشهير بالشارع الرئيسي، فوجد البائع يستقيم مبتسما أمام علبة مغلقة، وقبل أن يبلغه الشاب بطلبه، فتح البائع العلبة المقابلة ليجد الشاب بداخلها تورتة الشيكولاته التي يحبها، نظر إلي البائع مذهولا فابتسم البائع وقال" كل سنة وحضرتك طيب "، تذكر أنه لم يكن يشتري من هذا المحل في السابق، لا مجال لأن يعلم شيئا عن عيد ميلاده أو ذوقه باختيار الحلوي .صمت. لم يرد إلا بابتسمة ذاهلة واصطحب العلبة مارا علي الوجوه نفسها بتجاعيدها مرة أخري، ظن أن علبة الحلوي قد تلفت أنظارهم إلي عيد ميلاده، ولكن ما من شئ تغير. وصل إلي منزله بالدور السادس صعودا علي السلالم، فهو يخشي الأسانسير منذ علم عن حادث سقوط الأسانسير بصديق والده، كان طفلا بحينها، ولم يسيطر علي مخاوفه تلك قط . فتح الباب بعدما وقف أمامه للحظات يلتقط أنفاسه، وضع العلبة المزينة علي المائدة البيضاوية. كانت لاتزال جالسة علي كرسي الصالة والمكنسة الكهربائية بجوارها ترتكن إلي الحائط. لم تلتف إليه مرة أخري، لم يخلع من ملابسه إلا حذاءه. تذكر عندما كان يأتيه والداه بالحلوي بصبيحة يوم عيد الفطر والأضحي ورأس السنة ومولد النبي وبعصر يوم عيد ميلاده، كان يرفض أن يأكل أيا من تلك الحلوي قبل ميعادها المحدد، الأمر يتعلق بالطقوس التي يجب أن تتم كما ينبغي، فكر بأن يتصل بهما، لكنه تراجع وقرر أن يأكل التورتة أولا. جلس إلي المائدة، وأزاح كمه إلي ما فوق مفصل ذراعه، تذكر حلمه الأبدي بأن يلتهم تورتة كاملة بمفرده، هذا الحلم الذي ظلت والدته تنهاه عنه علي مدار عمره خوفا عليه، قرر ألا يخالف أمرها واقتطع جزءا من التورتة وبدأ في التهامها بينما عاد صوت المكنسة الكهربائية من جديد، نظر إليها فوجدها غير منتبهة إليه، ملتفتة إلي بعض الأتربة بطرف السجادة الآخر... نظر إلي تورتته وعاد ليكمل ما بدأه، أحس أن طعمها لم يعد جميلا كما كانت بالسنين الماضية، فقدت الكثير من سحرها، ليست نفس الشئ الذي تعلق به علي مدار السنين... أغلق العلبة علي ما تبقي منها، وارتدي الحذاء المرتكن بجانب الباب وخرج متوجها إلي بيت والديه، قد يكون طعم التورتة مختلفا هناك، قد يكون أكثر لذة، قد تلمع حبات الكريز في عينيه مرة أخري، قد يأكلها كاملة، وقد تمنعه والدته... ذهب إلي بيت والديه محملا بأحلام طفولية حلوة المذاق، أحلام لن يحققها أبدا، لن يلتهم التورتة منفردا أبدا، لكي يبقي علي حلمه، لكي يرافقه ويصحبه ويؤنسه فيما تبقي له من عمره.