النساء لدينا- وكما فى كل مكان فى العالم أنواع، نوع يربكك ويزعجك بمنظره فور أن تشاهده، وعندما يبدأ فى الكلام يجعل العالم يزداد تعقيدًا وقلقًا، ونوع آخر نريد أن نستكين ونأنس إليه وهو أقرب إلى أمهاتنا، حيث ستجد معظم كلماتهن تصب فى النصائح والستر والخوف من الغد، ونوع آخر يثرثرن بكلمات دون أن يفعلن شيئَا فى الحياة، وكأنهن ينقلن حديث الليل فى التليفزيون إليك، تتحدث كببغاء لا يريد أن يصمت، ونوع آخر، نادرًا أن نراه ونجده، هذا النوع من النساء والذى كلما تقدم فى العمر، ازداد جمالًا وأنوثة، ومن هذا النوع تأتى: سوسن بدر. .................................. فبينما كنا نراها تحاول أن تقف بجوار ابراهيم «نور الشريف» فى فيلم «حبيبى دائمًا»، بصفتها طبيبة وزميلة ولكنها لم تستطع أن تخترق قلبه بعد كل ما فعلته معه، وهى تعلم - كأنثى - فى قرارة نفسها أن قلبه لن يفتح لها بابًا. وكأنها تثبت أن الحياة من المستحيل أن تقدم لنا حبًا جديدًا، أو أن يدك حصون القلب بحب جديد مهما فعلت. كانت «سوزان أحمد بدر الدين أبو طالب» أو الفنانة «سوسن بدر»، رفيعة وجافة دون أن تقلق منامتنا الفقيرة أو تصاحبنا على وسائدنا، ولم تكن الفتاة التى تلقى لنا برسالة صغيرة من النافذة بها قلب قد اخترقه سهم، ولم تكن تلك التى نخشى أن ننظر لها، فتجعل قلوبنا تنفجر بالدبيب، كانت هادئة ومطيعة وصاحبة نظرات مرتبكة وخجلة كتلميذة لم تفارق تختة المدرسة. وكأن كل ما سبق كانت بدايات فقط كى تضحك علينا، وكأنها نداهة لا تريد أن تخطف الأطفال فى عز الظهيرة الحارقة، حيث تركتهم يلهون فى تلك الترعة الصغيرة وفى هذه النهارات الشقية. لكن الحال تغير، وكأنها مثل الخمر الحقيقى كلما ازدات قدمًا وتعتيقًا ازدادت لذة وشغفا، بل تقوم بتحطيم العقل وكسر الفؤاد. هكذا تتألق الفنانة «سوسن بدر»، وعلى مدى أكثر من أربعين عامًا على سطح شاشتنا، كأنثى تتلاعب الألفاظ بشفتيها كما تتراقص حواجب عيونها الرفيعة والحادة وهى تلقى كلماتها بهدوء وقسوة فى آن واحد. هذا التألق والوهج والنضج الفنى ستراه فى لقطات قليلة تضعها وتصنعها سوسن بدر على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، خاصة فى السنوات الأخيرة، كأفلام مثل «ساعة ونص» و«الشوق» و«678» و«الفرح» و«ألوان السما السبعة» و«قص ولصق» و«حب البنات»، و«ديل السمكة» و«شمس الزناتى»، أو أدوارها على شاشة التليفزيون فى مسلسلات كثيرة، حيث تجدها فى الدراما كوحش كاسر فى مسلسل «السبع وصايا» و«عايزة أتجوز» و«الرحايا» وغيرها من الاعمال. ولو دققنا فى تفاصيل أداء الفنانة سوسن بدر، فسنجد ميزانا دقيقا وحادا، تقيس به شخصيتها التى تؤديها أمامنا، فكلمات الحوار التى تخرج من فمها تخرج من فم أنثى مصرية قديمة، عاشت من أيام الفراعنة ومارست تقلبات الأحوال والظروف التاريخية إلى أن استقرت فى قلق وعنف العصر الحديث، تمثل لى «لوحة فرعونية» منحوتة بهدوء وقسوة، لوحة لا تنسى ولا تستطيع تمحى من الذاكرة كما لا تستطيع أن تحتفظ بها لنفسك، لأنها لا تصاحب أحدا ولا تتزوج أحدا، بل يجب أن نتعود عليها هكذا، تظهر وتختفى كشمس الشتاء الدافئة، تلقى كلمة بعيونها قبل شفتيها وبجسدها قبل نهديها، تمارس الإغراء دون أى فعل فاضح أو جارح، هى الانثى بكل طقوسها وتقلباتها وبكل جبروتها أيضًا. العيون التى تمثل بئر أسرار حربية لن نعلمها إلا بعد رحيلنا، البشرة المصرية السمراء المحببة لنا كليلة هادئة، الحزن القديم والذى لا ينسى كحزن جداتنا، الشفاه الممتدة بابتسامة حزينة من المحيط للخليج، والشعر الأسود كأحلامنا المستحيلة، والطول العظيم كملكة خارجة من تابوت تاريخى ظللنا دهرًا ننبش الأرض للوصول إليه. تمثل الفقر المصرى الحقيقى دون أى قلق أو افتعال، كما تمثل الارستقراطية الجافة دون إزعاج أو اعوجاج فى الفم، أنثى اختمرت عجينتها وخُبزت على نيران هادئة لسنوات طويلة كفنجان قهوة لا ينسى، دائمًا ساخنة ومشعة ومتوهجة ومشتعلة. فهى المطربة «عفيفة أو كروانة» التى تخشى أن تتلاشى الأضواء عنها فى «ديل السمكة»، ولم تكتف بذلك فى هذا الدور، بل قدمت جزءا من الحياة السرية للفنانات المطربات، حيث نجد وجهها دون مكياج أو رتوش، لتخبرنا بأن السينما تصنع نجماتها وكيف تجعلهن نجمات مزيفات، وهى «حنة» الأنثى المرغوبة وبنت البلد الجدعة فى «شمس الزناتى» و«سلام يا صاحبى»، وهى الأم «توحيدة» التى لا تكف عن الزواج والرغبة فى «ألوان السما السبعة»، وهى الأم ألطاف حسانين القط الراحلة والتى تقلب الحارة بطلتها من الشباك وسيرتها فى «قط وفار»، بينما سنجدها أنثى شرسة لا تهادن ولا تهادى إلا الرعب كما فى «الرحايا»، أو التى تمسك جميع الخيوط فى يدها كما فى «السبع وصايا». انظر لشخصية «سميرة» فى مشهد واحد فى فيلم «حب البنات» تقف أمام ابنتها، بعد اكتشاف زواجها السرى، لتعبر لها عن رغباتها كأنثى، كان تفاصيل جسدها الدقيقة تتحدث بالرغبة، وبهذا الدفء المفقود، وبهذا الضياع الذى مارسته فى زواج فاشل، لتثبت لها انها حية وتريد أن تعيش الأيام القليلة الباقية فى حضن رجل فقط. حتى لو كانت قد علمت ابنتها أن السعادة هى البعد عن الرجال. وبنفس التوهج ظهرت فى لقطات خاصة فى فيلم «قط وفأر» حيث دور ألطاف حسانين القط»، تقف فى الشرفة تنشر الغسيل فتهتاج الحارة وتتقافز عيون الرجال وتتحرج وكأن الشمس الحادة صدمتهم، ثم تأتى كطيف لابنها، تربت عليه بكلماتها، ثم تقبله وتختفى، بهذه الرغبة النسائية الطاغية، وكأنها شهرزاد التى تحكى كل يوم كلمة فقط، ثم تختفى لنظل فى حالة من الانتظار حتى الكلمة الجديدة فى اليوم التالى والذى لا يأتى ابدًا. انظر للراقصة «نوجة» وهى ترقص فى فيلم «الفرح»، راقصة درجة عاشرة بامتياز، لكنها تقدم لك إنسانيتها، تقدم لك بحثها عن لقمة العيش، فخلف هذا الجسد يوجد تلال من المشكلات الحياتية وليس البهجة، لتقدم لنا النموذج الصارخ للضعف الأنثوى والذى يريد أن يفعل أى شىء كى يعيش أو يعيش خلفه جيش لا نراه، كانت «بيئة» لدرجة العفة رغم عريها الهش، وكانت شريفة رغم بدلة الرقص التى ترتديها- وكأنها خارجة من محراب عتيق، بعد أن ابتهلت رقصًا لضريح لا تعرف منه إلا كراماته، لتقدم لنا كرامتها بين يدى امرأة اخرى، تتركها وتموت كريمة مختار- لتتحول الراقصة إلى معددة، وإلى سيدة تقوم بتغيسل الجسد الطاهر، وكأنها تغسلها بدموعها وتكفنها ببدلة رقصها، والتى ترقص بها فى هذه الحياة، فالجميع يرتدى تلك البدلة، والجميع يرقص رقصته الخاصة به فى هذه الحياة. وفى مسلسل «الوصايا السبع» تقدم لنا «أوسة» كانت طوفان من الأداء المتألق الخالد، مزعجة لدرجة الرعب، ترتدى الأبيض فتتحول إلى صاحبة طريقه، ثم تنفض كل ذلك لتتحول إلى «حية» تنهش كل من حولها، كانت «حية» حقيقة تتحوى وتلتف وتنهض وتبتسم وهى تغرق الجميع فى سمها، إلى أن تظهر براعتها فى النهاية، وتفوز بالكنز، كانت فى هذا الدور، تعتصر نفسها بالتمثيل والأداء الحاد، لتثبت أنها قطعة شمس لا يأتى لها ليل وقطعة قمر يخفى خلفه هلالات وبدور وتحولات لا نعلمها. كما جاءت فى شخصية « أمانى» وهو دور شفيف لعانس تلتقى برجل مرشح لأن يكون زوجًا لها، «حسين الأمام»، فى فيلم «احكى يا شهرزاد»، لنجدها تلقى بكل الفضلات وسط عرض الطريق، وتقوم بتحويل نقاط ضعفها كأنثى عانس إلى وقود لحرب مشتعلة بداخلها، كانت هادئة وقوية وحاسمة وجبارة أيضًا.