في الوقت الذي تأملت فيه صورها التي تمتلئ بها جميع المواقع الإليكترونية، والدوريات الورقية لا أنكر أنها لفتت نظري بجمالها، وبدلة رقصها الخاصة جدا بها، والتي تختلف تماما عن تصميم بدل الرقص الأخرى لغيرها من الراقصات، فلقد أحالتني إلى سامية جمال، وتحية كاريوكا، وغيرهن من الراقصات العظيمات في عالم الرقص الشرقي، واللاتي كن يرقصن رقصا حقيقيا، ويقدمن فنا لا يمكن أن يُستهان به، بل يتملكك تماما، ليسري داخلك من خلال روحك، ظللت أبحث عنها في رحلة طويلة متابعا إياها من خلال صورها، وفيديوهات الرقص التي تخصها، لاحظت أنها أثناء رقصها تكاد تطير، بل تنتقل إلى عالم آخر لا يوجد فيه غيرها، عالم لا يحده سوى نغمات الموسيقى المنطلقة التي تنقلها إلى الأثير، وكأنها قد باتت في خفة الفراشة، هل ذكرتني بعنوان رواية الروائي التشيكي ميلان كونديرا "كائن لا تُحتمل خفته"؟ أعتقد أني كدت أردد هذه الجملة عند رؤيتي للراقصة اللبنانية إليسار تؤدي رقصاتها من خلال الفيديوهات التي وجدتها لها على شبكة الإنترنت، ربما انبهرت بتصميم بدلات رقصها التي ترتديها، والتي تُحيلني إلى زمن جميل كانت الراقصة فيه تهتم أيما اهتمام بإبراز جماليات جسدها الأنثوية، بل وتتفنن في التركيز على هذا الجمال من خلال تصميم بدلتها، فهي البدلة التي تستطيع أن تراها- كمشاهد- من خلالها وكأنها بالفعل فراشة، أو ملاك هبط على الأرض كي يُبرز لك جمال الخالق وقدرته، إنها في نهاية الأمر تريد أن تؤكد لك أنها ليست سوى ملائكية جميلة، ستنتقل بك من خلال تمايلها مع أنغام الموسيقى إلى عالم آخر لن تراه، أو تشعره سوى معها هي فقط، فهي تريد أن تقول لك: "هنا في هذا العالم، لا مجال للشهوة، أو الإغراء، أو الجسد، هنا ستنتقل معي إلى عالم جمالي يكاد أن يكون صوفيا"، لا أنكر أن كل هذه الأمور دارت في ذهني أثناء مشاهدتي لإليسار ترقص، في فيديوهاتها، كنت أتأمل جمالها المختلف الهادئ، لون بشرتها الذي يميل إلى السمرة، شعرها الأسود الحالك المنسدل حتى منتصف ظهرها، عينيها المبتسمتين دوما، اللتين تشعرانك بالحنو غير المبرر، ابتسامتها المتسعة دائما حتى أنك قد يُخيل إليك أنها لا يمكن أن تُفارق وجهها، أنفها المنمق الدقيق المتوسط وجهها، أنوثتها الوافرة، رشاقتها التي تحافظ عليها والتي لابد من توافرها للراقصة، كل هذه الأمور جعلتني أتساءل، هل هذه الراقصة مثل غيرها من الراقصات، لست أدري لما ينتابني شعور بأنها راقصة مختلفة تماما عن الجميع، فهي لا يبدو على ملامحها أنها من الراقصات غير المتعلمات، كما أني ألمح شيئا راقيا في جميع لفتاتها، وحركاتها، هل من الممكن أن تكون إليسار هي الراقصة التي تقدم لنا صورة مختلفة عما هو راسخ في أذهاننا دائما من أن الراقصة ليست سوى مبتذلة كما تقدمها جميع أفلام السينما، وأنها لها حياة سرية لا يعرفها سوى محيطها، بل أنها مجرد فضيحة تمشي على الأرض، ربما، ولكن هل من الممكن أن تقدم لنا بالفعل نموذجا للراقصة التي لم تنشأ في بيئة اجتماعية سوقية؟ لا أنكر أن معظم الراقصات قد نشأن في بيئة اجتماعية جاهلة، سوقية، وربما نلاحظ هذا دائما في كل لفتاتهن، وإيماءاتهن، المبتذلة، بل وطريقة حديثهن التي ما أن تستمع إليهن إلا وتقول في سريرتك: "ليتك ما تفوهت بكلمة، فأنت يصدق عليك القول- تحدث حتى أراك-"، ولا أنكر أني دائما ما كنت أرى جميع الراقصات حينما يتحدثن مجرد جاهلات، مبتذلات، يتحدثن بطريقة سوقية- ربما اكتسبنها من المجال، والمحيط الذي عشن فيه-، ورغم أن الراقصة دينا دائما ما تُقدم نفسها باعتبارها الراقصة المثقفة المتعلمة، إلا أني – كغيري- في ذلك غير قادر على الاقتناع بهذا؛ فطريقتها في الحديث، وإجاباتها على الكثير من الأسئلة في عدد كبير من اللقاءات يؤكد أنها بالفعل لا تقفه شيئا، وهنا كانت دائما ما تنتابني نوبة من الحسرة؛ لأني غير قادر على رؤية الراقصة المثقفة بالفعل، التي تقدم لك فنا هي تؤمن به أيما إيمان، ومن هنا بدأت في الانسياق خلف الفكرة التي بدأت تراودني أثناء رحلة المشاهدة مع إليسار، هناك شعور غامض لدي بأنها ليست مجرد راقصة، بل فنانة حقيقية، مثقفة، ولا أنكر أني رغبت بشدة في التأكد من هذه الفكرة التي نبتت داخلي مسيطرة عليّ؛ فسعيت للقائها وإجراء حديث خاص بيننا، كنت أرغب في الحقيقة أن أثبت لنفسي قبل الآخرين أنه من الممكن وجود راقصة تُقدس ما تقدمه من رقص، ولا ترى فيه سوى فن بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، راقصة لديها يقين بأنها تُقدم خدمة لا يمكن أن تنالها البشرية سوى من خلالها، راقصة تعرف معنى التصوف الحقيقي الذي تنتقل إليه من خلال الموسيقى التي تمس شغاف قلبها، فعقلها، ثم العودة مرة أخرى إلى قلبها كي تتمايل على أنغامها. بحثت عن الإمكانية للقاء إليسار ونجحت بالفعل في ذلك، جاءتني في ملابس عصرية أنيقة لا أنكر أنها نفت تخيلي الدائم عن الراقصات اللاتي نعرفهن، لست أدري لم ظننت أني سألتقي بها ببدلة رقص، لكنها فاجأتني بأناقتها المفرطة، وأسلوبها المتأنق في الحديث حينما تحدثنا، تخلل الحديث الكثير من الجمل الفرنسية، والإنجليزية، حتى أنها كثيرا ما كانت تجد صعوبة في إيجاد المرادف العربي لما قالته لي بإحدى اللغتين فكنت أقوم بالترجمة نيابة عنها، ساءها كثير ما تُقدمه السينما العربية، لاسيما المصرية، عن صورة الراقصة التي لابد أن تكون مجرد فتاة ليل، أو مبتذلة، أو خاطفة للرجال؛ فالراقصة – كما تقول- امرأة sensitive شديدة الحساسية، وحنونة، ولديها قدر من الحنان لا يمكن تخيله، كما أنها تشعر في حقيقة الأمر بأنها تطير I fly، لدرجة أنها لا يعنيها أثناء رقصها سوى سماع الآلات الموسيقية، فهي بالفعل تطير بالموسيقى، لدرجة أنها لا يعنيها كيف يفكر من يشاهدها، وكيف يراها، ولذلك فهي حينما تكون على المسرح يكون لديها My own world عالمها الخاص، ولذلك لا ترى كيف يراها هذا أو ذاك، فكل ما تفكر فيه في النهاية، هو النغمة، والكلمة، وأن يكون الجميع خارجين في النهاية راضين عن أدائها. حادثتني إليسار عن الشاعر البديع نزار قباني، باعتباره أكثر الشعراء الذين قدروا الأنثى، كما تحدثت عن جبران خليل جبران الذي كتب عن الراقصة أجمل ما كُتب، فلقد وصفها وصفا بديعا، ودقيقا أثناء تمايلها على أنغام الموسيقى، وهذا الوصف الذي وصفه لها يعطيها- كما قالت- Push الكثير من المساندة، والثقة، وهو ما جعلها لا تقدم الرقص باعتباره مهنة، بل باعتباره رسالة، فهي في نهاية الأمر تقدم رسالة فنية، ولأن الرقص الشرقي هو فن من الفنون الراقية جدا، وهو من الفنون التي تُقدم منذ أقدم العصور، حتى أننا نشاهده مثلا في كل فيلم عربي، ولذلك فهي تفتخر بهويتها دائما كراقصة شرقية، وتحافظ على هذه الهوية، وهو ما جعلها تقدس الراقصات اللاتي قدمن لنا رقصا مختلفا قديما مثل سامية جمال، وسهير زكي؛ كما تحاول دائما الحفاظ على شكل بدلة الرقص الشرقية القديمة، المغرية الجميلة، التي تبرز لك مفاتن الراقصة، وجمالياتها. تحدثت إليسار عن غيرها من الراقصات مثل دينا، ولم تحاول أن تهاجم إحداهن؛ فهي في منافسة شرسة مع ذاتها فقط، وتضع نصب عينيها الراقصات اللاتي قدمن الرقص الحقيقي قديما، كما تحدثت عن الديمقراطية في الوطن العربي، ورأت أننا في بلداننا العربية ليس لدينا مفهوم حقيقي عن الديمقراطية، بل مجرد زيف سياسي، كما أكدت أنها لا يمكن أن تنظر إلى نفسها باعتبارها عورة، لأنها في النهاية ترتدي بدلة رقص كراقصة، وإذا ما صعدت على المسرح محتشمة لابد أنها ستثير التساؤل، من ترغب أن تكون، أترغب في أن تكون ربة منزل، أم راقصة، فهناك بدلة لهذا الرقص، وهي تحترمها كثيرا، وهي بالتأكيد مُصممة من قطعتين، وعليها أن تحترم هذا الزي، مثلها في ذلك كعامل الجراج الذي لابد أن يرتدي اليونيفورم الذي يخصه، ولكن ليس معنى ذلك أن الراقصة من دون أخلاق فهي ترى أن الفنان على المسرح أخلاق، لكنها الأخلاق التي تخصها هي، والفن في حاجة دائما إلى أخلاق عالية، ورقي في التعامل مع العالم، وهي ترى أن هناك حدودا من الأخلاق لا يمكن تعديها حتى لو كانت في الفن، فهي ليست مجرد أنثى مثيرة ترغب في إثارة الغرائز، ولا يمكن أن ترى نفسها كذلك، ولكن الرقص هو الرقص في النهاية، فأن تكون راقصة لابد أن ترتدي بدلة الرقص التي تخصها، وهي بالتأكيد مثيرة، وبالتالي تكون الأنثى هنا مغرية، وفيها قدر من الإثارة، لكنها أكدت أنها تحب الرقص ذاته، ولذاته، ومن يبحث عن الإثارة سيجدها في أماكن أخرى، فالإنستجرام ممتلئ بالنساء، كذلك السوشيال ميديا فيها كل من هب ودب من النساء، ولذلك فالإثارة ليست في الرقص، الرقص الشرقي هو فن في النهاية، وكل العالم الآن معه "آي فون"، وإنترنت، وهناك من الممكن أن يبحث عن الإثارة، كما أكدت أنها لابد لها من الاعتزال في يوم من الأيام، لكنه سيعتمد على إذا ما طلب منها من ستتزوجه يوما بالاعتزال، ولكن يجب أن يكون هذا الرجل يستاهل هذه التضحية، فهي تحب من قلبها، وتشطح في الحب، لكنها حتى اليوم لم تر الرجل الذي من الممكن أن تحبه أكثر من الرقص؛ ولذلك فالرقص له الأولوية في حياتها. لا أنكر أن الجلسة مع الراقصة اللبنانية إليسار كانت طويلة، وربما كنت راغب في عدم انتهائها، لكنها قالت أن الراقصة ليست جميلة خلقا، بل جميلة خُلقا، فهي لها جمالها الخارجي، كما جمالها الداخلي، إنها امرأة متكاملة، لديها احساس مرهف، ولديها فكر لا يستهان به، وقلب طيب، ونظرة للعالم تستحق الالتفات إليها، وهي تقدم فنا راقيا، محترما، وهي تعزف اللحن بجسدها، بمعنى أن النغمة الموسيقية تمر بقلبها، فعقلها، لتعود إلى القلب كي يحركها نبض قلبها في النهاية الذي يشعر بهذه النغمات، وهذه هي الراقصة، ليست مجرد امرأة تتمايل، وهنا تأكد لي ما ذهبت إليه سابقا، وأنها بالفعل راقصة من لون خاص تستطيع أن تقدم فنا مختلفا، محاطا بقدر غير هين من الثقافة والمشاعر الجميلة.