لميس الحديدي: المؤشرات الاقتصادية قد تكون إيجابية.. لكن المهم أحوال الناس    نيويورك تايمز: توجيه سري من ترامب لضرب 24 جماعة لتهريب المخدرات خارج الأراضي الأمريكية    أمم إفريقيا - لوكمان: تونس لا تستحق ركلة الجزاء.. ومساهماتي بفضل الفريق    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    ما بين طموح الفرعون ورغبة العميد، موقف محمد صلاح من مباراة منتخب مصر أمام أنجولا    واتكينز بعدما سجل ثنائية في تشيلسي: لم ألعب بأفضل شكل    إصابة 3 أشخاص في اصطدام توكتوك ب"ميكروباص" في الدقهلية    الدفاع العراقية: 6 طائرات جديدة فرنسية الصنع ستصل قريبا لتعزيز القوة الجوية    تفاصيل إصابة محمد على بن رمضان فى مباراة تونس ونيجيريا    هل فرط جمال عبد الناصر في السودان؟.. عبد الحليم قنديل يُجيب    2025 عام السقوط الكبير.. كيف تفككت "إمبراطورية الظل" للإخوان المسلمين؟    لافروف: أوروبا تستعد بشكل علني للحرب مع روسيا    نوفوستي تفيد بتأخير أكثر من 270 رحلة جوية في مطاري فنوكوفو وشيريميتيفو بموسكو    ناقد رياضي: الروح القتالية سر فوز مصر على جنوب أفريقيا    أحمد سامى: كان هيجيلى القلب لو استمريت فى تدريب الاتحاد    لافروف: نظام زيلينسكي لا يبدي أي استعداد لمفاوضات بناءة    حادثان متتاليان بالجيزة والصحراوي.. مصرع شخص وإصابة 7 آخرين وتعطّل مؤقت للحركة المرورية    وزارة الداخلية تكشف تفاصيل مصرع شخص قفزا فى النيل    داليا عبد الرحيم تهنيء الزميل روبير الفارس لحصوله علي جائزة التفوق الصحفي فرع الصحافة الثقافية    نيلي كريم تكشف لأول مرة عن دورها في «جنازة ولا جوازة»    مها الصغير تتصدر التريند بعد حكم حبسها شهرًا وتغريمها 10 آلاف جنيهًا    آسر ياسين ودينا الشربيني على موعد مع مفاجآت رمضان في "اتنين غيرنا"    «زاهي حواس» يحسم الجدل حول وجود «وادي الملوك الثاني»    بعد القلب، اكتشاف مذهل لتأثير القهوة والشاي على الجهاز التنفسي    محمد معيط: المواطن سيشعر بفروق حقيقية في دخله عندما يصل التضخم ل 5% وتزيد الأجور 13%    الأرصاد تحذر من أمطار ليلة رأس السنة ومنخفض جوي يضرب السواحل الشمالية    حمو بيكا خارج محبسه.. أول صور بعد الإفراج عنه ونهاية أزمة السلاح الأبيض    إيداع أسباب طعن هدير عبدالرازق في قضية التعدي على القيم الأسرية    عمرو أديب يتحدث عن حياته الشخصية بعد انفصاله عن لميس ويسأل خبيرة تاروت: أنا معمولي سحر ولا لأ (فيديو)    خبير اقتصادي يكشف توقعاته لأسعار الدولار والذهب والفائدة في 2026    كيف يؤثر التمر على الهضم والسكر ؟    وزير الصحة يكرم مسئولة الملف الصحي ب"فيتو" خلال احتفالية يوم الوفاء بأبطال الصحة    طه إسماعيل: هناك لاعبون انتهت صلاحيتهم فى الأهلى وعفا عليهم الزمن    محافظ قنا يوقف تنفيذ قرار إزالة ويُحيل المتورطين للنيابة الإدارية    رابطة تجار السيارات عن إغلاق معارض بمدينة نصر: رئيس الحي خد دور البطولة وشمّع المرخص وغير المرخص    سوريا تدين بشدة الاعتراف الإسرائيلي ب«أرض الصومال»    القوات الروسية ترفع العلم الروسي فوق دميتروف في دونيتسك الشعبية    حرب تكسير العظام في جولة الحسم بقنا| صراع بين أنصار المرشحين على فيسبوك    نجوم الفن ينعون المخرج داوود عبد السيد بكلمات مؤثرة    صحف الشركة المتحدة تحصد 13 جائزة فى الصحافة المصرية 2025.. اليوم السابع فى الصدارة بجوائز عدة.. الوطن تفوز بالقصة الإنسانية والتحقيق.. الدستور تفوز بجوائز الإخراج والبروفايل والمقال الاقتصادى.. صور    الإفتاء توضح حكم التعويض عند الخطأ الطبي    سيف زاهر: هناك عقوبات مالية كبيرة على لاعبى الأهلى عقب توديع كأس مصر    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهم في واقعة أطفال اللبيني    أخبار × 24 ساعة.. التموين: تخفيض زمن أداء الخدمة بالمكاتب بعد التحول الرقمى    المكسرات.. كنز غذائي لصحة أفضل    محافظ الجيزة يتابع أعمال غلق لجان انتخابات مجلس النواب في اليوم الأول لجولة الإعادة    حزم بالجمارك والضرائب العقارية قريبًا لتخفيف الأعباء على المستثمرين والمواطنين    آية عبدالرحمن: كلية القرآن الكريم بطنطا محراب علم ونور    كواليس الاجتماعات السرية قبل النكسة.. قنديل: عبد الناصر حدد موعد الضربة وعامر رد بهو كان نبي؟    معهد بحوث البترول وجامعة بورسعيد يوقعان اتفاقية تعاون استراتيجية لدعم التنمية والابتكار    وزير الطاقة بجيبوتي: محطة الطاقة الشمسية في عرتا شهادة على عمق الشراكة مع مصر    هل يجوز المسح على الخُفِّ خشية برد الشتاء؟ وما كيفية ذلك ومدته؟.. الإفتاء تجيب    بعزيمته قبل خطواته.. العم بهي الدين يتحدى العجز ويشارك في الانتخابات البرلمانية بدشنا في قنا    افتتاح مشروعات تعليمية وخدمية في جامعة بورسعيد بتكلفة 436 مليون جنيه    اسعار الحديد اليوم السبت 27ديسمبر 2025 فى المنيا    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    المستشفيات الجامعية تقدم خدمات طبية ل 32 مليون مواطن خلال 2025    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العرض المسرحي «مشاعر»: الأندلس بين الأوبرا والفلامنكو
نشر في صوت البلد يوم 27 - 06 - 2017

عبارة «أوبرا فلامنكو» في إعلان العرض المسرحي «مشاعر»، لا تفشي إلا بعضاً من السر، فليس التزاوج بين رقص الفلامنكو والأوبرا وحده، ما يجعل هذا العرض استثنائياً.
البداية كانت من صدفة جمعت راقصة الفلامنكو أماليا مخيسا مع مغنية الأوبرا إيزابيل كانيادا لونا في مدينة دبي، فولدت فكرة هذا العمل كمزيج من المرأتين وشغفهما.
إيزابيل مغنية الأوبرا القادمة من الأندلس، التي نضج صوتها تحت شمس «مالقة» واختمر في شكله الأوبرالي النهائي، ولكن ليس بعيداً عن تأثير موسيقى الفلامنكو الحاضرة دائماً في جنوب إسبانيا، ثم عمل الزوج كطيار حط بها في دبي أخيراً، من دون أن يمنعها هذا من متابعة الغناء، فالمغني إن غاب صوته اختنق.
كمديرة فنية شاركت إيزابيل في هذا العمل المسرحي، وساهمت في تطويع الموسيقى الكلاسيكية لتتماشى مع عازفي الفلامنكو، كما شاركت العازفين الكلاسيكيين متعة اكتشافهم لعوالم الموسيقى الأندلسية الغجرية، حيث الأقدام والأكف وحناجر المغنيين عناصر موسيقية أساسية تضبط الإيقاع وتمنح اللحن بعداً إضافياً.
الدور الأهم لإيزابيل في العرض هو صوتها الساحر الذي دفع بالعرض نحو مستويات مبهرة حقاً، ومنح خشبة المسرح المتواضعة فخامة الأوبرا وأناقتها. أما أماليا القادمة من مدينة «منسي» الإسبانية التي تدين للعرب باسمها، فقد عادت إلى الشرق الأوسط، لا بدافع الحنين ولكن بدافع الأزمة الاقتصادية التي شهدتها إسبانيا، فقدمت إلى دبي كراقصة للفلامنكو، وهناك تعرفت على زوجها المصري، وتحول ما كان مجرد محطة عبور إلى مكان إقامة دائم، ثم أسست فرقتها ومدرسة الرقص الخاصة بها. ولكن وراء حكاية «الراقصة» تلك، هناك حكاية مهندسة، تحدت عائلتها وأنهت دراسة الهندسة «حلمهم» كي تمضي نحو «حلمها» بالرقص حتى النهاية، ولتتمكن في ما بعد من أن تجمع دقة الهندسة وشغف الرقص والتمثيل وتجد المكان الذي يختصر كل هذا: «خشبة المسرح» ومن خلال عرض راقص تكون هي مخرجته. وقد تجنبت المبالغة في الإخراج بإحساسها كراقصة، فلم تفسد عفوية أداء الراقصين، والحوار الغائب عوضته أجساد الراقصين، وإشارات الجسد التقطها العازفون مباشرة وحولوها بدورهم إلى موسيقى.
موسيقى كلاسيكية كانت أو فلامنكو، لكنها إسبانية بامتياز، حيث حضور المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين الإسبان كان لافتاً من أمثال: تورينا… «turina» ، « فايا Falla» أو من خلال موسيقى وأجواء إسبانية كما في: من أوبرا كارمن لجورج بيزيت Habanera.
الفلامكنو كان حاضراً بقوة أيضاً من خلال الرقص والموسيقى التي يعزفها الغيتار، فينطق خشب الآلة، لا لغة خشبية، بل موسيقى عذبة وكأنها بوح الشجر للبشر، أما أقدام الراقصين فتلامس خشبة المسرح بنعومة تارة، وبقوة وعنفوان تارة أخرى، وكأن الحوار بين خشب الغيتار وخشب المسرح يمر عبر جسد الراقص وانفعالاته. ولأن الفلامنكو أكثر من مجرد رقص، بل تكثيف لأحاسيس الفرح والحزن والشجن، وغالباً ما تدور مواضيعه حول الحب ومتعه وآلامه، لهذا تتنوع أغانيه وموازينه الموسيقية، من أكثرها عمقاً «الغناء العميق» الذي يلامس أعمق منابع الألم في الإنسان إلى الغناء المرتبط بالأعياد والاحتفالات مثل: Alegria ألغريا Tangosتانغو Buleriaبوليريا sevillanas سيفلياناس.
أما الأدوار الرئيسية في العرض فقد أداها راقصون إسبان محترفون، نقلوا الأحاسيس بأجسادهم وإيماءات وجوههم، فتحاورت عيونهم لا ألسنتهم، وحل الرقص محل الكلام، مع حالات محدودة استخدمت فيها المخرجة تقنية التعليق الصوتي، للإشارة إلى تغير ما في الزمان أو المكان Voice over. وقد انقسم العرض إلى أربعة فصول: الفصل الأول (مدرسة الرقص): في مدرسة الرقص نجحت المخرجة التي تعمل مدرسة رقص أيضاٌ في استحضار أجواء المدرسة، من تأخر الطالبات إلى المناشف الملقاة على الأرض، وقوارير الماء الموزعة في كل مكان، والأهم أنها نجحت في استحضار الطالبات أنفسهن، فقد استعانت بطالباتها فعلياً للعب أدوارهن على الخشبة. وبينما تكون الطالبات منهمكات في التدريب على رقصة فلامنكو من نوع «أليغريا»، تدخل المديرة المسنة بعكازها وتجلس على كرسيها، وتتحلق الطالبات من حولها، وكأنها تروي حكاية «حكايتها». ثم نرى من وراء ستارة بيضاء ظل المديرة بعكازها يظهر ثم يختفي، ليظهر مكانه ظل طفلة صغيرة تتعثر في مشيتها، وكأننا في فلاش باك مع الزمن. ولا تلبث الستارة البيضاء أن ترتفع لنكتشف خلفها فرقة موسيقية كاملة من عازفي الغيتار والكمان والبيانو والإيقاع، ويتحول ظل الطفلة إلى راقصة صغيرة تبدأ خطواتها المتعثرة رويداً رويداً بالانتظام، ثم نراها تلتقط تنورة الفلامنكو والحذاء الملقيين على الأرض، وتبدأ الرقص تصاحبها موسيقى العازفين، وصوت مغنية الأوبرا، التي تتقمص روح والدتها المتوفية. وينتهي المشهد بأصدقاء الطفلة يربطون حزاماً أبيض حول خصرها، وهو يمهد للمشهد المقبل بعد عشر سنوات كما نسمع في التعليق الصوتي.
المشهد الثاني يأخذنا إلى القرية الإسبانية، حيث تظهر الصبية لورينا، قامت بدورها الراقصة لورينا دياز، بصحبة صديقاتها، وهن يلفنّ الشريط الأبيض حول خصرها، في إشارة إلى أنها الطفلة الصغيرة غدت صبية. وبما أن الرقص هو لغة الحوار الوحيد في العرض، يرقص الجميع معاً رقصة الفلامنكو المليئة بالفرح من نوع «التانغو»، ويظهر على الخشبة الراقصون المحترفون مع طالبات مدرسة الرقص، والجميع يرتدون ملابس الفلامنكو الملونة، وكأننا حقاً في أجواء احتفالية في قرية إسبانية.
الفصل الثاني (في الحانة): القليل من الديكور: طاولة خشبية وكراس ٍ وكؤوس شراب، عازفون، غناء، أيادٍ تصفق، وأقدام تدق الأرض أو ترقص فوق الطاولة، وتتحول خشبة المسرح إلى حانة إسبانية أو «تافيرنا». أجواء من الاحتفال والبهجة ورقصة الفلامنكو الأكثر شعبية «بوليريا»، التي تتميز بسرعة إيقاعها ولا يخلو احتفال أندلسي منها. ويظهر خطيب لورينا (قام بدوره الراقص فرانشيسكو مارتينز) ويراقصها رقصة «خاليوس»، وهي رقصة فلامنكو ترقص عادة بشكل ثنائي، وعندما يراقص فتاة أخرى تدب الغيرة في قلب «لورينا». فتحاول إثارة غيرته في رقصة ساحرة من «أوبرا كارمن»، على أنغام الكمان وفي غزل جميل بين الكمان وجسد الراقصة. وعندما تتشاجر المرأتان وتقع لورينا على الأرض، تظهر روح أمها في «مغنية الأوبرا» التي تهدهدها بقطعة موسيقية «نانا» للمؤلف الموسيقي «فايا»، تغنى للأطفال عادة ليغفوا. وينتهي المشهد بصديقة لورينا تعرض عليها إعلاناً عن مسابقة للرقص.
الفصل الثالث (مسابقة الرقص): طاولة الحانة تتحول إلى طاولة للمحلفين.. وراقصات أربع يقفن في مواجهة الجمهور، الإضاءة تتحرك من واحدة إلى أخرى، وهن يؤدين رقصتهن على أنغام أغنية باللغة الأولى لغجر اسبانيا «كانو».. Orobroy وترقص لورينا على صوت أمها تغني لها ل»فايا» أيضاً «الحمام الأندلسي» وتربح المسابقة. ثم تقرر السفر للالتحاق بمدرسة الرقص العليا، والابتعاد عن خطيبها الذي يضعها أمام خيارين إما هو أو الرقص. ويبقى الخطيب وحيداً على خشبة المسرح ليؤدي رقصة «الفاروكا» رقصة الفلامكنو الشديدة الرجولة، التي يرقصها الراقصون الذكور عادة وينتهي الفصل الثالث.
الفصل الرابع (المسرح الملكي): الرقصة الأخيرة تظهر فيها الراقصة لورينا بأبهى حلتها، وهي مرتدية ثوب الفلامنكو بالذيل الطويل، وكأنها تراقص ظلها، يطير الذيل ثم يلامس الأرض من دون أن تتعثر الراقصة به، ثوب أحمر ترقص به ومعه على أنغام إسبانية وكأنها تصارع قلبها لا ثيران الحلبة. المقطوعة الأخيرة اختارتها الراقصة لورينا دياز بنفسها، فهي المقطوعة التي رقصتها هي أيضاً في حفل تخرجها، فلامنكو، وهي ما يرقص كثيراُ في مقاطعة «مالقة»، مسقط رأس لورينا Fandangos abandolaos.
وهكذا تتداخل الحقيقة مع الخيال، وتصبح خشبة المسرح انعكاسا للحياة، وهو ما يحدث في النهاية أيضاُ عندما يظهر الراقص «خطيب لورينا» بين الجمهور، ويكون هو من يمنحها باقة الورود، ويرقصان معاً رقصتهما الأخيرة. لنعود في مشهد أخير إلى مدرسة الرقص، والمديرة مازالت تجلس على كرسيها تروي حكايتها، وترفع ذراعيها لتهبط الستارة معلنة نهاية العرض. لا تنتهي الحكاية حقاً، فهي حكاية كل راقصة تتحدى ضعفها وحزنها وحبها وتمضي نحو «الرقص» حتى النهاية، فالرقص التزام وعمل وشغف وحياة، لا ترقص الراقصة على هامش الحياة، بل تراقص الحياة حتى وهي بعيدة عن الخشبة. والعرض في النهاية فسيفساء من حكايات الراقصين الذين شاركوا فيه، قلق البدايات، والنجاح الذي يبنى خطوة خطوة، أو رقصة وراء أخرى، واليد الأخيرة التي تضمنا ولا تشبه سواها، اليد التي نراها في عتمة الصالة مهما امتلأت الصالة بالمتفرجين.
هي حكاية حب ورقص وحياة، نجحت المخرجة في نقلها على الخشبة، من دون كلمة حوار واحدة، فقط من خلال الموسيقى والأجساد الراقصة وإيماءات الوجوه، بالإضافة إلى ملابس زاهية منحت العرض ضربات لونية حارة، وحولت المسرح إلى لوحة فنية بديعة. ونجح العرض في إعطاء بعد آخر للفلامنكو، من على خشبة مسرح ومصاحباً للأوبرا، من دون أن يفقد روح الغجر وصرخات المنبوذين حيث جذوره.
فلامنكو في «دبي»، ولكنه الفن العابر للأزمنة والأمكنة والمسافات، والقادر على سرقة الجمهور إلى حانات الأندلس ومغارات الغجر، وهم في مقاعدهم مثبتين من هول المتعة، وسيهتفون جميعاُ «أولي» في نهاية العرض:
Ole بمعنى «الله»، وربما هو هذا الإحساس، أو هي تلك المشاعر التي أرادت المخرجة إخراجها، فكان اختيار عنوان العرض «مشاعر»، فكان الراقصون والمتفرجون بعد نهاية العرض كتلة من «المشاعر».
عبارة «أوبرا فلامنكو» في إعلان العرض المسرحي «مشاعر»، لا تفشي إلا بعضاً من السر، فليس التزاوج بين رقص الفلامنكو والأوبرا وحده، ما يجعل هذا العرض استثنائياً.
البداية كانت من صدفة جمعت راقصة الفلامنكو أماليا مخيسا مع مغنية الأوبرا إيزابيل كانيادا لونا في مدينة دبي، فولدت فكرة هذا العمل كمزيج من المرأتين وشغفهما.
إيزابيل مغنية الأوبرا القادمة من الأندلس، التي نضج صوتها تحت شمس «مالقة» واختمر في شكله الأوبرالي النهائي، ولكن ليس بعيداً عن تأثير موسيقى الفلامنكو الحاضرة دائماً في جنوب إسبانيا، ثم عمل الزوج كطيار حط بها في دبي أخيراً، من دون أن يمنعها هذا من متابعة الغناء، فالمغني إن غاب صوته اختنق.
كمديرة فنية شاركت إيزابيل في هذا العمل المسرحي، وساهمت في تطويع الموسيقى الكلاسيكية لتتماشى مع عازفي الفلامنكو، كما شاركت العازفين الكلاسيكيين متعة اكتشافهم لعوالم الموسيقى الأندلسية الغجرية، حيث الأقدام والأكف وحناجر المغنيين عناصر موسيقية أساسية تضبط الإيقاع وتمنح اللحن بعداً إضافياً.
الدور الأهم لإيزابيل في العرض هو صوتها الساحر الذي دفع بالعرض نحو مستويات مبهرة حقاً، ومنح خشبة المسرح المتواضعة فخامة الأوبرا وأناقتها. أما أماليا القادمة من مدينة «منسي» الإسبانية التي تدين للعرب باسمها، فقد عادت إلى الشرق الأوسط، لا بدافع الحنين ولكن بدافع الأزمة الاقتصادية التي شهدتها إسبانيا، فقدمت إلى دبي كراقصة للفلامنكو، وهناك تعرفت على زوجها المصري، وتحول ما كان مجرد محطة عبور إلى مكان إقامة دائم، ثم أسست فرقتها ومدرسة الرقص الخاصة بها. ولكن وراء حكاية «الراقصة» تلك، هناك حكاية مهندسة، تحدت عائلتها وأنهت دراسة الهندسة «حلمهم» كي تمضي نحو «حلمها» بالرقص حتى النهاية، ولتتمكن في ما بعد من أن تجمع دقة الهندسة وشغف الرقص والتمثيل وتجد المكان الذي يختصر كل هذا: «خشبة المسرح» ومن خلال عرض راقص تكون هي مخرجته. وقد تجنبت المبالغة في الإخراج بإحساسها كراقصة، فلم تفسد عفوية أداء الراقصين، والحوار الغائب عوضته أجساد الراقصين، وإشارات الجسد التقطها العازفون مباشرة وحولوها بدورهم إلى موسيقى.
موسيقى كلاسيكية كانت أو فلامنكو، لكنها إسبانية بامتياز، حيث حضور المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين الإسبان كان لافتاً من أمثال: تورينا… «turina» ، « فايا Falla» أو من خلال موسيقى وأجواء إسبانية كما في: من أوبرا كارمن لجورج بيزيت Habanera.
الفلامكنو كان حاضراً بقوة أيضاً من خلال الرقص والموسيقى التي يعزفها الغيتار، فينطق خشب الآلة، لا لغة خشبية، بل موسيقى عذبة وكأنها بوح الشجر للبشر، أما أقدام الراقصين فتلامس خشبة المسرح بنعومة تارة، وبقوة وعنفوان تارة أخرى، وكأن الحوار بين خشب الغيتار وخشب المسرح يمر عبر جسد الراقص وانفعالاته. ولأن الفلامنكو أكثر من مجرد رقص، بل تكثيف لأحاسيس الفرح والحزن والشجن، وغالباً ما تدور مواضيعه حول الحب ومتعه وآلامه، لهذا تتنوع أغانيه وموازينه الموسيقية، من أكثرها عمقاً «الغناء العميق» الذي يلامس أعمق منابع الألم في الإنسان إلى الغناء المرتبط بالأعياد والاحتفالات مثل: Alegria ألغريا Tangosتانغو Buleriaبوليريا sevillanas سيفلياناس.
أما الأدوار الرئيسية في العرض فقد أداها راقصون إسبان محترفون، نقلوا الأحاسيس بأجسادهم وإيماءات وجوههم، فتحاورت عيونهم لا ألسنتهم، وحل الرقص محل الكلام، مع حالات محدودة استخدمت فيها المخرجة تقنية التعليق الصوتي، للإشارة إلى تغير ما في الزمان أو المكان Voice over. وقد انقسم العرض إلى أربعة فصول: الفصل الأول (مدرسة الرقص): في مدرسة الرقص نجحت المخرجة التي تعمل مدرسة رقص أيضاٌ في استحضار أجواء المدرسة، من تأخر الطالبات إلى المناشف الملقاة على الأرض، وقوارير الماء الموزعة في كل مكان، والأهم أنها نجحت في استحضار الطالبات أنفسهن، فقد استعانت بطالباتها فعلياً للعب أدوارهن على الخشبة. وبينما تكون الطالبات منهمكات في التدريب على رقصة فلامنكو من نوع «أليغريا»، تدخل المديرة المسنة بعكازها وتجلس على كرسيها، وتتحلق الطالبات من حولها، وكأنها تروي حكاية «حكايتها». ثم نرى من وراء ستارة بيضاء ظل المديرة بعكازها يظهر ثم يختفي، ليظهر مكانه ظل طفلة صغيرة تتعثر في مشيتها، وكأننا في فلاش باك مع الزمن. ولا تلبث الستارة البيضاء أن ترتفع لنكتشف خلفها فرقة موسيقية كاملة من عازفي الغيتار والكمان والبيانو والإيقاع، ويتحول ظل الطفلة إلى راقصة صغيرة تبدأ خطواتها المتعثرة رويداً رويداً بالانتظام، ثم نراها تلتقط تنورة الفلامنكو والحذاء الملقيين على الأرض، وتبدأ الرقص تصاحبها موسيقى العازفين، وصوت مغنية الأوبرا، التي تتقمص روح والدتها المتوفية. وينتهي المشهد بأصدقاء الطفلة يربطون حزاماً أبيض حول خصرها، وهو يمهد للمشهد المقبل بعد عشر سنوات كما نسمع في التعليق الصوتي.
المشهد الثاني يأخذنا إلى القرية الإسبانية، حيث تظهر الصبية لورينا، قامت بدورها الراقصة لورينا دياز، بصحبة صديقاتها، وهن يلفنّ الشريط الأبيض حول خصرها، في إشارة إلى أنها الطفلة الصغيرة غدت صبية. وبما أن الرقص هو لغة الحوار الوحيد في العرض، يرقص الجميع معاً رقصة الفلامنكو المليئة بالفرح من نوع «التانغو»، ويظهر على الخشبة الراقصون المحترفون مع طالبات مدرسة الرقص، والجميع يرتدون ملابس الفلامنكو الملونة، وكأننا حقاً في أجواء احتفالية في قرية إسبانية.
الفصل الثاني (في الحانة): القليل من الديكور: طاولة خشبية وكراس ٍ وكؤوس شراب، عازفون، غناء، أيادٍ تصفق، وأقدام تدق الأرض أو ترقص فوق الطاولة، وتتحول خشبة المسرح إلى حانة إسبانية أو «تافيرنا». أجواء من الاحتفال والبهجة ورقصة الفلامنكو الأكثر شعبية «بوليريا»، التي تتميز بسرعة إيقاعها ولا يخلو احتفال أندلسي منها. ويظهر خطيب لورينا (قام بدوره الراقص فرانشيسكو مارتينز) ويراقصها رقصة «خاليوس»، وهي رقصة فلامنكو ترقص عادة بشكل ثنائي، وعندما يراقص فتاة أخرى تدب الغيرة في قلب «لورينا». فتحاول إثارة غيرته في رقصة ساحرة من «أوبرا كارمن»، على أنغام الكمان وفي غزل جميل بين الكمان وجسد الراقصة. وعندما تتشاجر المرأتان وتقع لورينا على الأرض، تظهر روح أمها في «مغنية الأوبرا» التي تهدهدها بقطعة موسيقية «نانا» للمؤلف الموسيقي «فايا»، تغنى للأطفال عادة ليغفوا. وينتهي المشهد بصديقة لورينا تعرض عليها إعلاناً عن مسابقة للرقص.
الفصل الثالث (مسابقة الرقص): طاولة الحانة تتحول إلى طاولة للمحلفين.. وراقصات أربع يقفن في مواجهة الجمهور، الإضاءة تتحرك من واحدة إلى أخرى، وهن يؤدين رقصتهن على أنغام أغنية باللغة الأولى لغجر اسبانيا «كانو».. Orobroy وترقص لورينا على صوت أمها تغني لها ل»فايا» أيضاً «الحمام الأندلسي» وتربح المسابقة. ثم تقرر السفر للالتحاق بمدرسة الرقص العليا، والابتعاد عن خطيبها الذي يضعها أمام خيارين إما هو أو الرقص. ويبقى الخطيب وحيداً على خشبة المسرح ليؤدي رقصة «الفاروكا» رقصة الفلامكنو الشديدة الرجولة، التي يرقصها الراقصون الذكور عادة وينتهي الفصل الثالث.
الفصل الرابع (المسرح الملكي): الرقصة الأخيرة تظهر فيها الراقصة لورينا بأبهى حلتها، وهي مرتدية ثوب الفلامنكو بالذيل الطويل، وكأنها تراقص ظلها، يطير الذيل ثم يلامس الأرض من دون أن تتعثر الراقصة به، ثوب أحمر ترقص به ومعه على أنغام إسبانية وكأنها تصارع قلبها لا ثيران الحلبة. المقطوعة الأخيرة اختارتها الراقصة لورينا دياز بنفسها، فهي المقطوعة التي رقصتها هي أيضاً في حفل تخرجها، فلامنكو، وهي ما يرقص كثيراُ في مقاطعة «مالقة»، مسقط رأس لورينا Fandangos abandolaos.
وهكذا تتداخل الحقيقة مع الخيال، وتصبح خشبة المسرح انعكاسا للحياة، وهو ما يحدث في النهاية أيضاُ عندما يظهر الراقص «خطيب لورينا» بين الجمهور، ويكون هو من يمنحها باقة الورود، ويرقصان معاً رقصتهما الأخيرة. لنعود في مشهد أخير إلى مدرسة الرقص، والمديرة مازالت تجلس على كرسيها تروي حكايتها، وترفع ذراعيها لتهبط الستارة معلنة نهاية العرض. لا تنتهي الحكاية حقاً، فهي حكاية كل راقصة تتحدى ضعفها وحزنها وحبها وتمضي نحو «الرقص» حتى النهاية، فالرقص التزام وعمل وشغف وحياة، لا ترقص الراقصة على هامش الحياة، بل تراقص الحياة حتى وهي بعيدة عن الخشبة. والعرض في النهاية فسيفساء من حكايات الراقصين الذين شاركوا فيه، قلق البدايات، والنجاح الذي يبنى خطوة خطوة، أو رقصة وراء أخرى، واليد الأخيرة التي تضمنا ولا تشبه سواها، اليد التي نراها في عتمة الصالة مهما امتلأت الصالة بالمتفرجين.
هي حكاية حب ورقص وحياة، نجحت المخرجة في نقلها على الخشبة، من دون كلمة حوار واحدة، فقط من خلال الموسيقى والأجساد الراقصة وإيماءات الوجوه، بالإضافة إلى ملابس زاهية منحت العرض ضربات لونية حارة، وحولت المسرح إلى لوحة فنية بديعة. ونجح العرض في إعطاء بعد آخر للفلامنكو، من على خشبة مسرح ومصاحباً للأوبرا، من دون أن يفقد روح الغجر وصرخات المنبوذين حيث جذوره.
فلامنكو في «دبي»، ولكنه الفن العابر للأزمنة والأمكنة والمسافات، والقادر على سرقة الجمهور إلى حانات الأندلس ومغارات الغجر، وهم في مقاعدهم مثبتين من هول المتعة، وسيهتفون جميعاُ «أولي» في نهاية العرض:
Ole بمعنى «الله»، وربما هو هذا الإحساس، أو هي تلك المشاعر التي أرادت المخرجة إخراجها، فكان اختيار عنوان العرض «مشاعر»، فكان الراقصون والمتفرجون بعد نهاية العرض كتلة من «المشاعر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.