لم تنقطع علاقتى بفاروق حسنى حتى بعد أن ترك كلانا وزارة الثقافة وأصبح حرًّا يمارس عمله الذى يحبه وهو النقد الأدبى فى حالتى، والرسم فى حالته. وظللنا على حالنا من الود القديم الذى لم تنقطع روابطه إلى الآن، وأرجو الله أن يمتد إلى ما بقى من عمرينا. وأذكر أننا فى شهر مارس 2018 احتفلنا بمرور ثمانين عامًا على ميلاد الصديق صلاح فضل، وشارك فى الاحتفال عمرو موسى ومصطفى الفقى وأحمد درويش وكاتب المقال وعدد آخر من الأصدقاء. ................................. وقد دعانى الاحتفال إلى التفكير فى فاروق حسنى، وتصادف أن كنت مدعوًّا على الغذاء فى بيته مع مجموعة من الأصدقاء، وسألته لماذا لا نحتفل بعيد ميلادك (ولم أنطق الثمانين) فى المجلس الأعلى للثقافة؟ وقد كنتُ أريد أن أتصل بالدكتورة إيناس عبد الدايم وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة لكى نقيم له احتفالًا كبيرًا بعيد ميلاده الثمانين، يكون بمثابة تكريم له من المثقفين الذين يعرفون قدره، وما أكثرهم فى تقديرى. وقد كنت أعرف أن السابع من يناير سنة 2018 سيكون هو الموافق لعيد ميلاده الثمانين، ولكنه رفض فكرة الاحتفال على نحو حاسم، وحدثنى عن كراهيته للاحتفال بأعياد الميلاد. ولم أحرص على الاختلاف معه إلى النهاية، وقد كنت أريد أن أُدبر له احتفالًا يليق به ويكون فى الوقت نفسه تكريمًا له، سواء على مستوى شبه رسمى أو على مستوى أصدقائه الذين يعرفون قدره، خصوصًا بعد أن بعد عن المناصب ولم يعد فيه مطمعً للطامعين الذين ظلوا يتقربون منه، طلبًا لمغنم أو طمعًا فى منصب. ومرت الأيام ويبدو أن ذاكرتى قد خدعها مر الأيام وكر الأشهر، فلم أتذكر إلا اليوم أن عيد ميلاده كان يجب أن يكون فى مطلع هذا العام أو أوائل شهر يناير، فخجلت من نفسى ولُمت ذاكرتى التى شغلتها الأحداث العائلية عن أن أقوم بواجبى إزاء فاروق حسنى الذى لا أعتبره صديقًا فحسب وإنما أخًا عزيزًا أعتز بقُربى منه، واحترامى له، خصوصًا بعد أن عرفته لسنوات طويلة، وعملت تحت إشرافه، لما يقرب من عشرين عامًا، فلم يكن وزيرًا أو رئيسًا وإنما كان أخًا وصديقًا يحترم الصداقة والمودة والأخوة وغيرهما من القيم التى تعلو فوق المناصب وتسمو عليها. وأعتقد أننى من هذه الزاوية أدين له بالكثير، فلا أزال أذكر موقفه معى عندما أصابتنى جلطة فى المخ أرقدتنى أسابيع فى أحد أسِرَّة مشفى القصر العينى الفرنسى، وظل يداوم على السؤال والاطمئنان علىَّ والرعاية المُقدمة لى، بل وصل به الأمر إلى مخاطبة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك الذى أصدر قرارًا بسفرى إلى فرنسا لاستكمال علاجى، وقد قضيتُ عدة أسابيع من شهر أغسطس 2006 بالفعل فى باريس بالمستشفى الأمريكى على وجه التحديد مستكملًا علاجى، حتى عودتى سالمًا إلى القاهرة، ممتنًا للرئيس مبارك - جزاه الله خيرًا - وكانت معى ابنتى الدكتورة سهير عصفور عليها رحمة الله. ومن المفارقات أننى قد برئتُ من الجلطة التى لم تترك سوى آثار طفيفة على حركة الجزء الأيسر من جسدى، وعدتُ إلى المجلس الأعلى للثقافة لأعمل بكامل النشاط والعافية. ولم يتوقف الأمر على ذلك، فقد طالب بمد خدمتى بعد وصولى السن القانونى، وبالفعل امتد عملى فى المجلس بعد الستين لثلاثة أعوام إلى أن تركتُ المجلس للمرحوم على أبو شادى وانتقلت إلى المركز القومى للترجمة الذى قمتُ بتأسيسه تحت إشرافه. ولا أزال أذكر بداية تأسيس المركز القومى للترجمة وصدور العدد الأول مما أطلقنا عليه اسم «المشروع القومى للترجمة»، وقد تولى الطباعة والتكاليف المالية لنشر العددين الأول والثانى صندوق التنمية الثقافية. وكنتُ أتصور - أو هذا هو المفترض- أننى المسؤول مع اللجنة العلمية التى كانت تساعدنى، ومنها أستاذتى المرحومة الدكتورة فاطمة موسى ومن يماثلها قدرًا وقامة فى العلم وليس غيرنا، فإذا بالأستاذ سمير غريب – سامحه الله- مدير صندوق التنمية الثقافية يشترط علىَّ، أو يفاجئنى، بأن الصندوق لن يسمح بطباعة كتاب بعد ذلك إلا بعد أن يراجعها هو ويجيزها شخصيًّا. فتوقفتُ رافضًا هذا التدخل فى عمل لجنة أصغر من فيها يجاوز أساتذة سمير غريب فى الوزن والمقام والقامة والقيمة، وطلبتُ من فاروق حسنى أن ينقل التمويل من صندوق التنمية الثقافية إلى الإدارة المالية للوزارة. وبالفعل تم ذلك، لكن حدثت مفارقة أخرى، فقد كنا نرغب فى ترجمة الديوان الشعرى الأكبر لجلال الدين الرومى المعروف باسم «المثنوى»، وذلك فى ستة أجزاء، واتفقتُ مع المرحوم الدكتور إبراهيم شتا على أن يترجم الأجزاء الستة بكاملها، ولكن إبراهيم شتا اشترط أن يأخذ مكافأة للترجمة عشرة الآف جنيه مصرى على كل جزء، فوافقت على ذلك لأننى كنتُ – ولا أزال- على يقين بأن ترجمة هذا العمل الاستثنائى أعلى فى قيمتها المعنوية والعلمية من هذا المبلغ، فترجمة «المثنوى» إلى اللغة العربية مفخرة للغتنا من ناحية، وإضافة لقيمة المشروع القومى للترجمة من ناحية موازية. وبالفعل مضى الدكتور إبراهيم شتا فى الترجمة إلى أن أنجزها وطالبنا بمكافأته، وهنا حدثت المشكلة الأولى فى التاريخ البيروقراطى الإدارى للمشروع القومى للترجمة، فقد اعترض المسؤول المالى على ضخامة المبلغ المقصود للترجمة فى وقت كانت فيه المكافأة الرسمية للترجمة هى أربع مليمات للكلمة، يستوى فى ذلك أن يكون الكتاب ترجمة لرواية من روايات أرسين لوبين أو عملًا من أعمال أينشتاين. ولم يكن هناك مفر من اللجوء إلى الوزير فاروق حسنى الذى حسم الخلاف وأفهم المسؤول المالى أهمية الترجمة وضرورة الصرف بسخاء عليها. ولا أعرف هل اقتنع المسؤول المالى فى ذلك الوقت بما أفهمه إياه الوزير أو لم يقتنع؟ المهم أنه قام بصرف مكافأة المرحوم الدكتور إبراهيم شتا طوعًا أو كرهًا. وكانت هذه هى المرة الأولى فى تاريخ وزارة الثقافة التى تدفع مثل هذا المبلغ فى مقابل ترجمة، وهو الأمر الذى أدى إلى ارتفاع معدلات الترجمة والارتقاء بقيمتها، ومن ثم الانتقال من مبلغ أربعة مليمات للكلمة إلى ما يقارب الخمسين قرشًا فى ذلك الوقت، وكان لهذا القرار الحاسم والعون الحقيقى من فاروق حسنى أكبر الأثر فى تحرير المشروع القومى للترجمة من سطوة البيروقراطية الوظيفية، والتحرر تمامًا من جمود العقليات البيروقراطية أو حتى تدخل من لا يعلم فيما يدعى به العلم. وبمثل هذه المواقف كان فاروق حسنى يدعمنى فى عملى قولًا وفعلًا على السواء، ولا يتوقف فى أكثر من مجال بل لا يتردد فى أن يبرز على أكثر من مستوى تقديره لما أقوم به، ودعمه لعملى على كل المستويات. وفى ثنايا ذلك كنتُ أشعر بأن العلاقة بيننا تجاوز حدود العلاقة بين وزير وأحد قياداته الثقافية إلى علاقة بين صديق وصديقه. وما أكثر ما كان الجانب الإنسانى يطغى على الجانب العملى فى علاقتنا، فيتحول الوزير إلى صديق، وينقلب أمين عام المجلس الأعلى للثقافة إلى مُقترِح ومُشير. وهكذا استمر الأمر إلى أن فوجعتُ فى7/7/ 2007، بوفاة ابنتى الدكتورة سهير عصفور مدرس الأدب الإسبانى فى جامعة حلوان. وكانت الوفاة مفاجئة وغير متوقعة ومأساوية، أطاحت بما فى عقلى من توازن وما فى روحى ونفسى من تماسك، فانهرتُ مفجوعًا غير مُصدِّق، خصوصًا أن الوفاة جاءت نتيجة تعقيدات فى ولادة متعسرة أدت إلى حدوث أزمة قلبية لم يستطع الأطباء علاجها، فصعدت روح ابنتى إلى بارئها، وانهرت كالمجنون الذى لم يعد يعرف ما يفعل فى حياته. وللحق كان لفاروق حسنى وأصدقائى المقربين أطيب الأثر وأكرمه فى تجاوزى لهذه المحنة. ولم يتوقف فاروق حسنى عن انتشالى من دوامة الحزن والزج بى فى مهام وأعمال تخرجنى من الحال الذى كنت فيه بعد مأساة فَقْد ابنتى.. وكان لا بد أن تمضى الحياة إلى طبائعها وتمضى كالمياه التى تجرى فى مجاريها بعد أن توقفها قليلًا عقبة من العقبات. ولكن الحياة لا بد أن تستمر والأحزان لا بد أن تُطوى، ولولا الموت، وهو الحقيقة الوحيدة المؤكدة التى لا شك فيها ما كان للحياة معنى، وما امتلأت حياتنا نفسها بذكرى الراحلين الذين يتحولون إلى دافع لنا على الحياة من ناحية، واستكمال الرسالة التى بدأوها من ناحية موازية. ومرة أخرى عادت جلطة المخ نتيجة الانغماس المحموم فى العمل، وكان لا بد من السفر إلى فرنسا وإلى مركز كهرباء القلب فى بوردو على وجه التحديد، وكان ذلك بفضل تدخل فاروق حسنى ورعاية السيدة سوزان مبارك التى أدين لها وللرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك بكل الفضل والتقدير والعرفان. وعدت من فرنسا لأستأنف الحياة من جديد فى المجلس الأعلى للثقافة، ثم أنتقل منه إلى تأسيس المركز القومى للترجمة الذى أشهد بأنه لولا تدخل السيدة سوزان مبارك شخصيًّا ما كنا قد حققنا هذا الحلم الذى كاد يبدو مستحيلًا فى ذلك الوقت، فما ذا الذى كان يفكر فى أهمية الترجمة وفى تخصيص الملايين من ميزانية دولة فقيرة للترجمة فى مشروع طموح يهدف إلى الترجمة عن كل لغات العالم، وبالفعل نجحنا فى الترجمة عن أكثر من ثلاثين لغة من لغات العالم على نحو غير مسبوق، وتجاوزنا كل التوقعات والعقبات، وأعدنا المكانة إلى مصر التى استعادت موقعها التاريخى بوصفها رائدة الترجمة فى العالم العربى كله مرة أخرى، ولا تزال، بفضل المركز القومى للترجمة الذى أصبح مفخرة مصرية عربية. ولم يعد المركز القومى للترجمة يعانى مشاكل فى التمويل، ولم يعد لأحد عليه من سلطان سوى مجلس الأمناء الذى يرأسه الوزير ويضم إليه أعلاما مختارين من العارفين بفضل الترجمة وأهميتها من مصر وغيرها. ولا أنسى فى هذا الجزء من الذكريات ما فعله المرحوم محمد حسنين هيكل الذى تبرع لنا فى أول المشروع القومى للترجمة بعشرين ألف جنيه دعمًا للمشروع، والذى عاد مرة أخرى بعد تأسيس المركز القومى للترجمة، فتبرع بثلاثين ألف جنيه لميزانية المركز تحية منه لفكرة المركز ودعمًا له فى مسيرته. وبمثل هذا العون من الأستاذ محمد حسنين هيكل وغيره من المثقفين، اندفع المركز فى العمل، وأشهد أننى لم أجد تقصيرًا أو تكاسلًا من أحد سألناه العون، وهذا هو الوقت الذى ينبغى أن أشكر فيه الأستاذ نجيب ساويرس الذى دعم المركز بمبلغ مائتى ألف جنيه لاستكمال طبعة فاخرة من كتاب عن «الكنائس فى مصر» بالاشتراك مع الجامعة الأمريكية. ولكن للأسف حدث ما عرقل المشروع وخرجتُ من المركز والمبلغ الذى تبرع به نجيب ساويرس مودعًا فى خزانة الإدارة المالية إلى أن جاء الدكتور أنور مغيث وقام بطبع الكتاب فى طبعة مُرضية، ولكن ليس بالشكل الذى كنتُ أتخيله، لكن الأهم أن المركز لا يزال مستمرًّا وناجحًا، وقد حصل على جائزة الملك فيصل فى الإنجاز العلمى بعد أشهر من تَركى له. ولم يكن هذا المركز إنجازًا لى وحدى، وإنما كان إنجازًا يظل الفضل فيه إلى اثنين أولهما السيدة سوزان مبارك، وثانيهما الوزير فاروق حسنى الذى أعاننى حتى على اختيار النحات طارق الكومى الذى صنع لنا تمثالًا متخيلًا لرفاعة رافع الطهطاوى مؤسس حركة الترجمة فى مصر، ولا يزال التمثال قائمًا إلى اليوم فى مدخل المركز كما لو كان – ولا يزال- علامة على التراث المصرى والإنجاز المصرى الرائد فى مجال الترجمة. الغريب أننى عندما أتذكر هذه السنوات التى قضيتها فى صحبة فاروق حسنى، أشهد أنها كانت من أكثر سنوات العمر حيوية ونشاطًا وإنجازًا على السواء. لقد أصابتنى عدوى الحماسة منه فى العمل، والتصور الخلاق لما ينبغى أن يكون عليه مسار العمل فى المستقبل. وربما كانت هذه هى الصفة التى تتبادر إلى ذهنى على الفور قبل أن أختم هذا المقطع من ذكرياتى عن فاروق حسنى، وهى النظرة المستقبلية والعمل فى مشروعات ضخمة يتأسس بها مستقبل متجدد لوزارة الثقافة. ولن أتحدث هنا عن الكثرة الكاثرة من المتاحف التى أنشأها أو الإنجازات التى أنجزها، والمجالات التى فتح آفاقها المغلقة، والجوائز الدولية الكبرى التى حصدتها هيئات وزارة الثقافة، وإنما حسبى أن أُشير إلى ما انشغل به فى السنوات العشر الأخيرة من عمله فى الوزارة، وهو إنشاء متحف الحضارة فى موازاة إنشاء المتحف الكبير. أما متحف الحضارة فإنه متحف فريد يتحدث عن الحضارة المصرية – بالمعنى الواسع لكلمة الحضارة- ابتداء من فجرها الأول الذى يوازى فجر الإنسانية إلى استمرارها الحديث، وهو متحف لا يضم الآثار بمعناها الضيق فحسب، بل يشمل إلى جانبها كل ما يتصل بهذه الحضارة. ويضم إلى تصوره المعمارى إعادة تخطيط المنطقة كلها بما فيها حى عين الصيرة وبحيرته. أما المتحف الفرعونى الكبير، فقد شهدنا الافتتاح التجريبى لمرحلته الأولى. ومن المؤكد أن هذين المتحفين سيصبحان مفخرة بكل معنى الكلمة لمصر عندما ينتهى العمل فيهما بالشروط التى وضعها فاروق حسنى وتخيلها ورسم أُفقها. وكم أتمنى من المسؤولين عن المتحف الكبير ألا ينسوا دعوته وتكريمه عندما يتم افتتاح المتحف والانتهاء منه بالشروط التى تخيلها والقواعد التى وضعها. ومن المؤكد أن هذا النوع من التكريم سيكون أقل ما ينبغى فعله للرجل الذى خطط لهذا المتحف وظل يسعى من أجل إنجازه بكل طاقاته وخبراته وقدراته المصرة على النجاح والإنجاز. (وللمقال بقية) لمزيد من مقالات د.جابر عصفور