"سياحة النواب" تصدر روشتة علاجية للقضاء على سماسرة الحج والعمرة    ارتفاع أسعار النفط 1% مع هبوط الدولار وتحول التركيز على بيانات اقتصادية    خبير علاقات دولية: انتشار الصراعات أحد أسباب تزايد معدلات الإنفاق العسكري عالميا    مباشر مباراة أرسنال ضد تشيلسي في دربي لندن - (0-0)    تطورات مثيرة في مستقبل تشافي مع برشلونة    فريق سيدات يد الأهلي يتأهل لنصف نهائي كأس الكؤوس الإفريقية    حسام حسن يستقر على ضم ثنائي جديد من الأهلي    الونش دهس السيارات.. حادث تصادم على طريق جسر السويس و3 مصابين (تفاصيل)    خالد الجندي عن مسجد السيدة زينب بعد تطويره: تحول إلى لوحة فنية (فيديو)    هالة خليل: أتناول مضادات اكتئاب في التصوير.. ولا أملك مهارات المخرج    دياب يكشف عن شخصيته بفيلم السرب»    عمرو نبيل مؤسس شُعبة المصورين يضع روشتة علاج لإنهاء أزمة تصوير جنازات المشاهير والشخصيات العامة    «الرقابة الصحية» توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنوفية لمنح شهادة «جهار _ إيجيكاب»    صحة كفرالشيخ في المركز الخامس على مستوى الجمهورية    بشرى سارة.. تعديل كردون مدينة أسوان وزيادة مساحته ل 3 أضعاف    يبقى أم يرحل؟ جوريتسكا يتحدث عن مستقبله مع بايرن ميونيخ    العميد يؤجل طلب إضافة عناصر لجهاز المنتخب لبعد مباراتي بوركينا فاسو وغينيا    صدمة في ليفربول| غياب نجم الفريق لمدة شهرين    البرلمان الأوروبي يوافق على القواعد الجديدة لأوضاع المالية العامة لدول الاتحاد الأوروبي    خرجت بإرادتها لخلافات عائلية.. إعادة فتاة الصف الثانية بعد 48 ساعة اختفاء.. صور    "تعليم البحيرة": تخصيص 125 مقرًا للمراجعة النهائية لطلاب الإعدادية والثانوية - صور    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    المشدد 15 عامًا ل4 مدانين بالشروع في قتل سائق وسرقته بكفر الشيخ    .. وبحث التعاون مع كوريا الجنوبية فى الصناعات البحرية    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    أوكرانيا: روسيا ستقصف أماكن غير متوقعة.. ونحن نستعد لصد أي هجوم    مصر رئيساً لاتحاد المعلمين العرب للدورة الثالثة على التوالي    بدء حفل فني على مسرح قصر ثقافة العريش بحضور وزيرة الثقافة    عمرو يوسف يكشف عن حقيقة وجود جزء ثاني من «شقو»    بالفيديو.. خالد الجندي يشيد بكلمة وزير الأوقاف عن غزة بمؤتمر رابطة العالم الإسلامي    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    "بقى فخم لدرجة مذهلة".. خالد الجندي يشيد بتطوير مسجد السيدة زينب |فيديو    بشرى لأهالي سيناء.. 36 ألف وحدة سكنية و200 فيلا برفح والشيخ زويد    تعديل رسوم التراخيص والغرامات للعائمات الصغيرة بقناة السويس    دراسة: الوجبات السريعة تسبب تلف الدماغ عند الأطفال    غدا.. تدشين مكتب إقليمي لصندوق النقد الدولي بالرياض    للحوامل.. نصائح ضرورية لتجنب المخاطر الصحية في ظل الموجة الحارة    حذر من تكرار مصيره.. من هو الإسرائيلي رون آراد الذي تحدث عنه أبو عبيدة؟    كشف ملابسات سير النقل الثقيل في حارات الملاكي بطريق السويس الصحراوي    التوقيت الصيفي 2024.. مواقيت الصلاة بعد تغيير الساعة    إبداعات فنية وحرفية في ورش ملتقى أهل مصر بمطروح    مؤشر الأسهم السعودية يغلق منخفضا    أبو عبيدة: الاحتلال الإسرائيلي عالق في غزة    مجرد إعجاب وليس حبا.. رانيا يوسف توضح حقيقة دخولها فى حب جديد    النسب غير كافية.. مفاجأة في شهادة مدير إدارة فرع المنوفية برشوة الري    محافظة الجيزة تزيل سوقا عشوائيا مقام بنهر الطريق بكفر طهرمس    100 قرية استفادت من مشروع الوصلات المنزلية بالدقهلية    رئيس الوزراء يحدد موعد إجازة شم النسيم    هل يحق للزوج التجسس على زوجته لو شك في سلوكها؟.. أمينة الفتوى تجيب    محافظ كفر الشيخ ونائبه يتفقدان مشروعات الرصف فى الشوارع | صور    نستورد 25 مليون علبة.. شعبة الأدوية تكشف تفاصيل أزمة نقص لبن الأطفال    السفير طلال المطيرى: مصر تمتلك منظومة حقوقية ملهمة وذات تجارب رائدة    «النواب» يبدأ الاستماع لبيان وزير المالية حول الموازنة العامة الجديدة    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    قطاع الدراسات العليا بجامعة القناة يعلن مواعيد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني    الرئيس السيسى يضع إكليلا من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول    توفيق السيد: غياب تقنية الفيديو أنقذ الأهلي أمام مازيمبي.. وأرفض إيقاف "عاشور"    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات فاروق حسنى
نشر في الأهرام اليومي يوم 31 - 05 - 2019

لم أكن أعرف فاروق حسنى المولود فى 8 يناير 1938 ولا قابلته عندما صدر قرار تعيينه وزيرًا للثقافة فى الثانى عشر من أكتوبر 1987، فقد كنتُ أعمل فى جامعة الكويت، عميدًا مُساعدًا للبحث العلمى. ولم يمر قرار تعيينه مرور الكرام كما هو معتاد، وكما حدث مع الوزراء السابقين عليه، فما صحب قرار تعيينه من ثورة كبار المثقفين أمثال عبدالرحمن الشرقاوى وثروت أباظة وغيرهما، كان لافتًا للانتباه وكان دافعًا لى عن السؤال عنه وعن أسباب هذا الرفض الذى ووجِه به رغم أنه كان وزير ثقافة لا تميزه ميزة عن غيره سوى أنه كان أصغر سنًّا من الوزراء العاديين الذين سبقوه والذين عاصروه والذين لحقوا به على السواء. فلم يكن الرجل قد أكمل الخمسين من عمره بعد. لكن حدة الهجوم عليه من أمثال عبدالرحمن الشرقاوى وأقرانه هو ما دفعنى إلى الالتفات إلى حضوره المؤثر وإلى الحدة فى الهجوم عليه.
..............................................
ومضت الأشهر وعدتُ إلى القاهرة بعد حوالى عام من تعيين فاروق حسنى، وكان ذلك فى شهر يونيو 1988، حيث عدت إلى القاهرة، وتوليتُ الإشراف على قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة بعد وفاة أستاذى المرحوم عبدالمحسن طه بدر، وفى الوقت نفسه عُدتُ إلى مجلة «فصول» التى أصبحتُ رئيسًا لتحريرها بالاشتراك مع الزميلة العزيزة هدى وصفى. ومرت الأشهر وفوجئتُ بدعوة من هدى وصفى على العشاء ولقاء الوزير الذى كان يثير العواصف وردود الفعل المتباينة أينما حل، وحرصت الدكتورة هدى وصفى على أن تجمع ما بيننا لكى نتحدث عن أوضاع الثقافة الحالية وعن إمكانات تطويرها فى آن. وأشهد أن الرجل كان مقنعًا وترك فى نفسى أثرًا لافتًا سواء من حيث ثقته بنفسه ومن حيث قدرته على مواجهة العواصف التى أثارها قرار تعيينه وزيرًا. فما إن أُعلِن حسنى وزيرًا للثقافة حتى وجد نفسه فى مرمى نيران فُتحت عليه من جميع الجهات وبدأها عبدالرحمن الشرقاوى فى صحيفة الوفد رافضًا قبوله قائلًا: «نحن لا نعرف من يكون؟»، وتوالت الطلقات من كُتّاب آخرين صُدِموا على ما يبدو من تعيين فنان تشكيلى وزيرًا للثقافة، وكان المنصب عادة من نصيب الأدباء مثل يوسف السباعى وعبدالمنعم الصاوى، أو من نصيب شخصيات عامة مثل ثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم ومنصور حسن. يُضاف إلى ذلك أن فاروق حسنى كان مجهولًا بالنسبة للأوساط الثقافية لغيابه عن مصر وعزلته عنها، بجانب أنه لم يكن قد وصل إلى سن الخمسين عندما أصبح وزيرًا. ولكن على الجانب الآخر تشكلت جبهة للدفاع عن حسنى قادها موسى صبرى وساندها منصور حسن وتوسط كرم مطاوع بينه وبين الشرقاوى. وكان مطاوع قد أخرج أكثر من مسرحية للشرقاوى وتكونت بينهما صداقة متينة. وقد ذهب فاروق حسنى إلى عبدالرحمن الشرقاوى فى بيته بصحبة كرم مطاوع واستمع منه لرؤيته الثقافية، وطال الحديث الذى أداره فاروق حسنى ببراعة كاشفًا عن خبرات حصدها فى الخارج يمكن الاستفادة منها فى تنمية الثقافة فى مصر، وأنصت الشرقاوى طويلًا حتى اقتنع. وحسب ما ذكره فاروق حسنى فى حواره مع انتصار دردير فإن الشرقاوى قام وقبَّله مرتين، وأقام بعد ذلك وليمة عشاء تكريمًا له دعا إليها عددًا من الكُتّاب والفنانين وقال جملته الشهيرة: «لقد غرر بى». وفى اليوم التالى اقترح الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، عقد لقاء موسَّع مع المثقفين بمكتبه حضره مائة وعشرون مدعوًا ولم يحضره ثروت أباظة الذى ظل رافضًا لوجود فاروق حسنى فى منصبه، وكتب مقالًا بعنوان «وجوم» عبَّر فيه بتلك الكلمة عن مشاعره بعد تلقى نبأ تعيين فاروق حسنى وزيرًا للثقافة. وبفروسية الشرقاوى كتب مقالًا آخر فى الوفد صحَّح فيه موقفه من حسنى مؤكدًا أنه نال الكثير من التشهير ممن كانوا ينتظرون منصب وزير الثقافة لأنفسهم.
وكنتُ أتوقع أن يحكى لى فاروق حسنى عن هذه المعارك التى لم أكن شاهدًا عليها، لكنه أخذ يحدِّثنى عن أشياء أخرى وعن أفكاره الخاصة بتطوير العمل فى وزارة الثقافة. وانتهى الحوار بيننا دون وعد بلقاء آخر. ويبدو أن فاروق حسنى الوزير أخذ يسأل عنى من يعرفوننى من كبار المثقفين وعلى رأسهم المرحوم لطفى الخولى الذى كنتُ أعمل معه أمينًا مساعدًا للشعبة المصرية لكُتّاب آسيا وأفريقيا. وكانت شعبة نشطة تقوم بتزويد اتحاد كُتّاب آسيا وإفريقيا بالحيوية والنشاط والحماسة فى العمل، وهو الأمر الذى دعم علاقاتى الشخصية بلطفى الخولى وغيره من كبار كُتّاب اليسار المصرى الذين كنتُ أعرفهم معرفة وثيقة بحكم انتسابى أو إيمانى بعدد من أفكارهم فى ذلك الوقت.
ومرت الأيام وإذا بى أتلقى مكالمة هاتفية من المرحوم لطفى الخولى يحدثنى فيها حديث الإعجاب عن فاروق حسنى، ويطلب منى الموافقة على الذهاب لمقابلته، وعدم التردد فى قبول العمل معه. وبالفعل فوجئتُ باتصال تليفونى من مكتب فاروق حسنى ودعوة للقائه، فذهبتُ إلى اللقاء وقابلتُه فى المكتب الذى لا يزال قائمًا إلى اليوم. وأخذ يحدثنى عن المجلس الأعلى للثقافة وتصوره للأدوار التى يمكن أن يقوم بها. وفى الوقت نفسه أخذ يحدثنى عن أحلامه لوزارة الثقافة والإنجازات التى يمكن أن تحققها لو سارت فى الطريق الذى كان يحلم به فى ذلك الوقت.
والحق أن كلامه أعجبنى ورأيتُ فيه خيالًا جَسورًا طموحًا للانتقال من وهاد الضرورة الثقافية إلى آفاق الحرية. فبقدر ما أعجبتنى النزعة الليبرالية المُنفتحة التى كانت تنطوى عليها أحلامه، أعجبنى أنه وزير يمتلك رؤية واضحة عن الوزارة التى يقع فيها موقع المايسترو. وكان هذا يؤكد لى أنه وزير يمتلك رؤية ثقافية شمولية عميقة، ولم أجد فى ذلك غرابة لأنه حدثنى عن تلمذته على ثروت عكاشة، وكيف أن ثروت عكاشة فتح له طريق البداية عندما عيَّنه وهو شاب يافع إلى أبعد حد مديرًا لقصر ثقافة الأنفوشى الذى لا يزال فاروق حسنى يذكر إنجازاته فيه بكل المحبة والعرفان والامتنان. والحق أننى كنتُ ولا أزال أعتبر نفسى من تلامذة ثروت عكاشة فى العمل الثقافى العام، وعلى مستوى الإنجاز العلمى الخاص. وقد عرفتُ ثروت عكاشة قبل أن أعرف فاروق حسنى بسنوات عديدة ترجع إلى الخمسينيات الباكرة حين كتب كتابه «إعصار من الشرق: جنكيز خان» الذى نشره سنة 1951، وترجمته رواية «سروال القس» ل ثورن سميث سنة 1952، تلك الرواية التى لا أزال أذكر ظرفها وإحساسها الفكه بالحياة والأحياء.
ولم أملك فى النهاية سوى الموافقة على طلبه أن أتولى الإشراف على المجلس الأعلى للثقافة، مُشترطًا أولًا أن أعمل معه لمدة زمنية محدودة أعود بعدها إلى الجامعة، وثانيًا أن تُترك لى حرية العمل دون تدخل من أحد غيره، وثالثًا أن يدعمنى ماليًّا لتحقيق رؤيتى التى تطابقت مع رؤيته فى تصور مستقبلى مختلف لآفاق العمل فى المجلس الأعلى للثقافة. والحق أن فاروق حسنى وافق على كل ما قلتُ وكانت الحماسة بادية على وجهه بما قارب بيننا فى الحلم بمستقبل ثقافى لا حدود له فى المجلس الأعلى للثقافة. وبعد أيام قليلة صدر القرار الوزارى بتعيينى أمينًا عامًّا للمجلس الأعلى للثقافة فى 24 يناير سنة 1993. وأعترف بأن الرجل لم يُقصِّر قط فيما كنتُ أطلبه منه من دعم مالى. وبدأ عمل المجلس ينشط وتمتد فعالياته وأنشطته فى دوائر ثلاث. الدائرة الوطنية والدائرة القومية والدائرة العالمية. وقد شرحتُ تصورى للعلاقة بين هذه الدوائر فى أحد المقالات التى نشرتُها بهذه الجريدة. (راجع الأهرام «دوائر الثقافة المصرية» 31/8/2018 ).
ولم يبخل عليَّ فاروق حسنى بالدعم المالى أو المعنوى. وهنا أدركتُ الصفة الأولى التى قاربت بينى وبينه على المستوى الشخصى، فهو رجل معتد بشخصيته، قوى برؤيته الشاملة التى تحدد أساسيات العمل فى وزارته. ولذلك لم يخشَ الأقوياء أو يخاف منهم، بل كان يملك القدرة على جمعهم من حوله وإعطائهم كل الصلاحيات والقدرات التى تُمكِّنهم من النجاح فى أعمالهم، ولذلك كان يردد كثيرًا مقولة «إن كل القيادات الثقافية العاملة معى هى وزراء للثقافة». وهذا بالفعل ما كان يؤمن به كل الإيمان، وما كان يظهر فى تعامله معنا جميعًا، ومعى على وجه الخصوص. ولا أذكر أنه قد تدخل فى اختيارات اسم من الأسماء العربية أو الأجنبية التى كنتُ أدعوها إلى حضور مؤتمرات المجلس، فقد كان يقول لى دائما «أنت أعرف منى بهذه الأسماء وأكثر خبرة بالمثقفين العرب وأقدارهم». وبقدر ما كنتُ أقدِّم له قوائم المثقفين المدعوين إلى أنشطة المجلس كان يوافق عليها فورًا ودون مراجعة.
هكذا أكد فى داخلى معنى الثقة المتبادلة واحترامها إلى أبعد حد. ولا أظننى خذلته فى اختيار ألمع الأسماء على مستوى الثقافة العربية أو حتى الثقافات غير العربية. وتنامت بيننا الثقة المتبادلة، وذلك على النحو الذى جعله يوافق على الفور وبدون تردد على ضرورة أن ننتقل من مبنى المجلس القديم فى شارع حسن صبرى بالزمالك إلى حيث مبنى المجلس الجديد الذى لا يزال قائمًا شامخًا، هو نفسه بمثابة متحف لكل التيارات الفنية الحديثة، ابتداء من محمود سعيد وليس انتهاء بأعمال ما بعد الحداثة وغيرها من تيارات الفن التشكيلى.
وأذكر أننى عندما عرضتُ عليه فكرة إنشاء المشروع القومى للترجمة، قد تحمَّس للمشروع كل الحماسة بعد أن شرحتُهُ له، وطلب بالبدء على الفور وبذل أقصى الاستطاعة لإنجاح المشروع. وبالفعل بدأتُ العمل فى هذا المشروع الذى ما إن طبع ما يقرب من ألف كتاب حتى وافق فاروق حسنى على إنشاء مؤتمر دولى للترجمة، نعلن فيه إنشاء المركز القومى للترجمة الذى طالبنى بأن أبقى فيه بعد أن وصلتُ إلى سن المعاش فى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة. وهذا ما تم بالفعل، وكان ذلك بفضل السيدة سوزان مبارك التى ينبغى أن نعترف بما فعلته للثقافة المصرية إذا أردنا أن نصدق الشهادة الحقة للتاريخ الذى سوف يحصى علينا إيجابياتنا وسلبياتنا.
أما الوجه الآخر الذى كان يقارب ما بينى وبين فاروق حسنى فى الأفكار، فهو أنه كان يؤمن دائمًا بأن الثقافة المصرية هى ثقافة دولة عظمى وليست ثقافة دولة عادية. ومن المؤكد أنه قد قرأ كتاب جمال حمدان «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان»، عن عبقرية مصر من حيث تعامدها على المكان الذى لا ينفصل عن زمان ممتد من التقدم. ولم يكن الأمر يقتصر فى ذلك على معرفة عميقة بالآثار المصرية، ولا على معرفة قريبة بالإبداع المصرى فى هذا الجانب التشكيلى أو ذاك الجانب الأدبى، وإنما كان يجاوز ذلك إلى معرفة كلية متكاملة لا ينفصل فيها الزمان عن المكان ولا جهد الإنسان بقابلية الطبيعة على التشكل حسب إرادة هذا الإنسان، وكانت معرفته الثقافية بالغة العمق بالتاريخ الفرعونى والإسلامى بالشكل العام جنبًا إلى جنب المعرفة الموازية بالمنجزات الفكرية والإبداعية للمثقفين المصريين عبر العصور الممتدة لمصر فى تاريخها الممتد.. وكنتُ أوافقه ولا أزال على هذه النظرة كل الموافقة، كما لا أزال أوافقه على أن مصر دولة عظمى ثقافيًّا وحضاريًّا، وأن حكوماتها المتعاقبة لم تصل إلى مستوى التحديات التى تفرضها هذه الرؤية الثقافية التى تسعى إلى التحقق فى الوجود وعلى أرض الواقع.
وكان يتفرع عن هذه الصفة، صفة أخرى هى الحلم الذى ينطلق فيه الخيال طليقًا حرًّا لتخيل مستقبل لا يقل أصالة أو إبداعًا عن أقدم عصور الحضارة والثقافة المصرية. ولذلك كان ولا يزال ينظر إلى الثقافة المصرية نظرة كلية لا تفصل بين المادى والمعنوى، وإنما كان ينظر إلى التاريخ المصرى الحضارى بوصفه تاريخًا متجاوب الأجزاء، متفاعل العلاقات، فكان ولا يزال ضد التمييز بين الآثار المادية والآثار المعنوية. كان يسمى هذه وتلك بالثقافة المصرية المتحدة فى قدمها وحداثتها على السواء، وأن كل الفارق بين ما نسميه «الآثار» وما نسميه «الثقافة»، ليس سوى الفارق بين وجهين لعملة واحدة، ينتسب وجهها الأول إلى الثقافة المعنوية، بينما ينتسب وجهها الثانى إلى الثقافة المادية.
ولا أظن أن هناك أحدًا شعر بالحزن كما شعر فاروق حسنى عندما رأى هذا الفصل التعسفى لوزارة الثقافة عن وزارة الآثار. وكيف تحول الاثنان إلى وجهين منفصلين لعملة واحدة لا يمكن الفصل بين وجهيها. ولا أزال مثله أشعر بخطر هذا الفصل ونتائجه السلبية على الوعى الوطنى المصرى فى تكامله وتفاعل أجزائه وعلاقاته داخل الرؤية الوطنية التى تتأسس بها معانى الحضور الخلاق للثقافة المصرية. أعنى الحضور الذى يجعل من مصر فعلًا دولة من الدول العظمى ثقافيًّا وماديًّا ومعنويًّا. فآثارنا القديمة تجاوز ما يقرب من ثلثى آثار العالم كله، وعقولنا الحديثة تباهى بما أنجزه طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعلى مصطفى مشرفة وسميرة موسى، كما تباهى بما أنجزه أحمد زويل ومحمد غنيم ومجدى يعقوب وغيرهم بما يجعل منها مصر الحضارة التى لا تنقسم أو تتجزأ إلا فى أعين وأذهان أصحاب العقول الضيقة الساعية وراء المنافع الدنيوية الزائلة.
هذا الوعى الثقافى العميق كان وراء مواقف فاروق حسنى وطرائق تعامله مع العاملين معه، خصوصًا من الأكاديميين الذين كان يعى ضرورة تطوير معارفهم وضرورة إبقاء الصلة بينهم ومصادر المعرفة فى العالم المتقدم. وقد اختبرت ذلك عندما دعتنى جامعة هارڤاد للمرة الأولى لكى أكون أستاذًا زائرًا للنقد العربى بجامعتها عام 1995، ورغم صعوبة الموافقة على غيابى عن المجلس الأعلى للثقافة لما يزيد على ثلاثة أشهر تقريبًا، فقد أدرك ضرورة ذهابى إلى هذه المهمة اللازمة لتطوير معارفى الأكاديمية والثقافية فى آن. وهكذا سمح لى بأن أترك المجلس، على أن يحل محلى أخى الدكتور فوزى فهمى الذى قَبِل هذا العبء برحابة صدر وسماحة نفس لا أنساهما له. ولم يقتصر الأمر على هذه المرة، بل جاءت الدعوة الثانية إلى هارڤارد فى عام 2001 لكى أكون أستاذًا زائرا للأدب العربى الحديث، وقَبِل للمرة الثانية وسمح لى بأن أذهب لأكمل ما بدأته فى المرة الأولى. وأظن أن هاتين الإجازتين قد سمحتا لى بأن أُحصِّل من المعارف الجديدة التى لم أكن أعرفها والاطلاع على مصادر المعرفة الأجد، ما كان له الأثر الإيجابى فى إنشاء المركز القومى للترجمة فى سنة 2007، ووضعه على الطريق السليم لإيقاع عصرنا الذى كان قد تعولم منذ سنوات غير قليلة.
والحق أن هذا الأفق الثقافى الشامل والعميق الذى كان يتميز به فاروق حسنى لا ينفصل عن خيال خلاق كان يجعله يبصر ما لا يبصره الآخرون، ويرى أبعد بكثير مما كان يعجز عنه أقرانه الذين لم يكن لديهم ملكاته الخيالية أو قدراته على تحويل الأحلام غير الملموسة إلى واقع ملموس.
(وللمقال بقية)
لمزيد من مقالات جابر عصفور;


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.