رغم سجله الجنائي، تعيين "حما إيفانكا" سفيرا للولايات المتحدة في باريس وموناكو    اجتماع مجلس إدارة النادي المصري مع محافظ بورسعيد لبحث استقالة كامل أبو علي    العريس جاهز وهتولع، مسلم يحتفل اليوم بزفافه على يارا تامر بعد عدة تأجيلات وانفصالات    رحيل "أم إبراهيم"... الدراما السورية تودّع فدوى محسن عن 84 عامًا    محافظ القليوبية يشهد حملة مكبرة لإزالة التراكمات أسفل محور الفريق العصار    اسعار الدواجن والبيض الثلاثاء 20 مايو 2025    انقلاب في البر والبحر والجو، تحذير شديد من الأرصاد بشأن طقس اليوم الثلاثاء    نماذج امتحانات الصف السادس الابتدائي PDF الترم الثاني 2025 (رابط مباشر)    سعر الذهب اليوم بالسودان وعيار 21 الان ب بداية تعاملات الثلاثاء 20 مايو 2025    سعر الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 20 مايو 2025    ياسمين صبري تكشف كواليس تعاونها مع كريم عبدالعزيز ب«المشروع X»    حماس ترحب ببيان بريطانيا وفرنسا وكندا وتطالب بترجمته لخطوات عملية تردع الاحتلال    جماعة الحوثي: فرض "حظر بحري" على ميناء حيفا الإسرائيلي    ارتفاع مفاجئ تجاوز 1400 جنيه.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 20-5-2025    «أبتاون 6 أكتوبر»: استثماراتنا تتجاوز 14 مليار جنيه وخطة لطرح 1200 وحدة سكنية    بعد ترشيح ميدو.. الزمالك يصرف النظر عن ضم نجم الأهلي السابق    ترامب يتساءل عن سبب عدم اكتشاف إصابة بايدن بالسرطان في وقت مبكر    «أكبر خطيئة وتستلزم الاستغفار».. سعد الهلالي عن وصف القرآن ب الدستور    شديدة العدوى.. البرازيل تُحقق في 6 بؤر تفش محتملة لإنفلونزا الطيور    فوائد البردقوش لصحة الطفل وتقوية المناعة والجهاز الهضمي    بينهم أم وأبنائها الستة.. استشهاد 12 فلسطيني في قصف إسرائيلي على غزة    ماذا تفعل المرأة في حال حدوث عذر شرعي أثناء أداء مناسك الحج؟    منذ فجر الاثنين.. 126 شهيدا حصيلة القصف الإسرائيلي على غزة    وزارة العمل تعلن توافر 5242 فُرص عمل في 8 محافظات    مدرب وادي دجلة السابق: الأهلي الأفضل في إفريقيا وشرف لي تدريب الزمالك    سفير مصر لدى الاتحاد الأوروبى يستعرض العلاقات المصرية- الأوروبية    5 أيام متواصلة.. موعد إجازة عيد الأضحى 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    حريق مزرعة دواجن بالفيوم.. ونفوق 5000 كتكوت    "تيك توكر" شهيرة تتهم صانع محتوى بالاعتداء عليها فى الطالبية    المحكمة العليا الأمريكية تؤيد قرار ترامب بشأن ترحيل 350 ألف مهاجر فنزويلي    محافظ كفرالشيخ: توريد 178 ألف طن من القمح وصرف مستحقات المزارعين بانتظام    مهرجان كان يعدل جدول أعماله بسبب دينزل واشنطن ويفاجئه بجائزة "السعفة الذهبية الفخرية" (فيديو)    عاجل| عرض خليجي خرافي لضم إمام عاشور.. وهكذا رد الأهلي    تكريم طالبين بجامعة عين شمس لحصولهما على جائزة بمسابقة عمرانية    أحدها لم يحدث منذ 2004.. أرقام من خسارة ليفربول أمام برايتون    صيام صلاح مرة أخرى.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز بعد خسارة ليفربول    أحمد دياب: إيقاف النشاط أمر غير وارد    4 قرارات عاجلة من النيابة بشأن بلاغ سرقة فيلا نوال الدجوي    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    فضل حج بيت الله الحرام وما هو الحج المبرور؟.. الأزهر للفتوى يوضح    حبس شاب متهم بالشروع في قتل آخر بالعياط    إصابة 3 أشخاص في مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل ويشدد على سرعة الإنجاز (صور)    سيلان الأنف المزمن.. 5 أسباب علمية وراء المشكلة المزعجة وحلول فعالة للتخفيف    منافس الزمالك في ربع نهائي كأس الكؤوس الأفريقية لليد    «ليست النسخة النهائية».. أول تعليق من «الأعلى للإعلام» على إعلان الأهلي (فيديو)    إغلاق 7 منشآت طبية مخالفة و7 محال تجارية فى حملة بقنا    جامعة حلوان تنظم ندوة التداخل البيني لمواجهة تحديات الحياة الأسرية    وفد قبطي من الكنيسة الأرثوذكسية يلتقي بابا الڤاتيكان الجديد    سامي شاهين أمينا للحماية الاجتماعية بالجبهة الوطنية - (تفاصيل)    شعبة المواد الغذائية تكشف 4 أسباب لعدم انخفاض أسعار اللحوم مقارنة بالسلع التموينية (خاص)    عليك إعادة تقييم أسلوبك.. برج الجدي اليوم 20 مايو    تامر أمين ينتقد وزير الثقافة لإغلاق 120 وحدة ثقافية: «ده إحنا في عرض مكتبة متر وكتاب»    أستاذ علاقات دولية: الاتفاق بين الهند وباكستان محفوف بالمخاطر    ما مصير إعلان اتصالات بعد شكوى الزمالك؟.. رئيس المجلس الأعلى للإعلام يوضح    سرعة الانتهاء من الأعمال.. محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل    وزير العمل: قريباً توقيع اتفاقية توظيف للعمالة المصرية في صربيا    خالد الجندي: الحجاب لم يُفرض إلا لحماية المرأة وتكريمها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية..
دوائر الثقافة المصرية
نشر في الأهرام اليومي يوم 31 - 08 - 2018

عندما اتفق معى صديقى العزيز الأستاذ فاروق حسنى، وزير الثقافة الأسبق أن أتولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة فى 24/1/1993، خلوتُ إلى نفسى فى منزلى وجلستُ أفكر فى إستراتيچية جديدة تُعيد الحياة إلى المجلس الأعلى للثقافة، وتفتح أمامه أبوابًا جديدة من الحركة والنشاط والحيوية التى كان قد افتقدها تمامًا، وظللتُ أفكر وقادتنى تداعيات التفكير إلى ما كتبه جمال عبد الناصر فى كتابه «فلسفة الثورة» سنة 1954، وذلك عن الدوائر الثلاث التى تتفاعل معها مصر سياسيًّا واقتصاديًّا بوصفها نقطة الابتداء.
........................
وكان المنطلق هو مصر التى ينبغى أن يُعادَ بناؤها على أساس من مبادئ الثورة الستة، صعودًا بها إلى ما يحقق لمواطنيها الحرية والعدالة الاجتماعية بالوعى بانتمائها إلى الدائرة الكبرى، وهى الدائرة العربية التى تحرك فيها جمال عبد الناصر مؤكدًا الحضور القومى لمصر، وكانت الدائرة الثانية هى الدائرة الإفريقية التى كنا نشترك وإياها فى محاربة الاستعمار الاستيطانى، وهو الأمر الذى جعل من مصر رائدًا وعَوْنًا ونصيرًا لحركات التحرر من الاستعمار فى إفريقيا. أما الدائرة الثالثة والأخيرة، فكانت الدائرة الإسلامية التى رأى عبد الناصر أن مصر طرف فيها بالضرورة على مستويات الفعل والتأثير والتأثر فى آن، خصوصًا أن مصر يستقر الأزهر فى عاصمتها بوصفه منارة إسلامية تشع على العالم الإسلامى كله. وهو الأمر الذى أدى إلى إنشاء ما سُمِّى المؤتمر الإسلامى الذى أصبحنا أعضاء بارزين فيه، جنبًا إلى جنب إيران والسعودية وبقية الشعوب الإسلامية العربية.
وأذكر أننى قد أُعجِبت بهذه الدوائر الثلاث التى قرأتُها فى كتاب «فلسفة الثورة»، الذى اطَّلعتُ عليه بعد انتصارنا القومى المدوِّى فى 1956 على العدوان الثلاثى على مصر، وهو الانتصار الذى رافق تطور الوعى السياسى عندى وبداية تفكيرى على نحو جديد، كان يعنى الوصول إلى مرحلة التدبر العقلى، وحاولتُ استرجاع هذه الدوائر الثلاث، وقلتُ لنفسى: «ماذا لو جعلتُ إستراتيچية المجلس الأعلى للثقافة تنبنى على مثل هذه الدوائر الثلاث، لكن بطريقة مختلفة تتناسب مع الوضع الذى كانت عليه مصر والعالم العربى سنة 1993». وهنا أخذتُ فى التفكير فى دوائر ثلاث موازية أو متقاربة. كانت الدائرة الأولى هى الدائرة المصرية التى ينتسب إليها المجلس الأعلى للثقافة، والتى يرتبط فيها بكل التيارات الثقافية والفكرية المتعددة والمتنوعة والمتصارعة فى آن. وقلتُ لنفسى: «فلتكن المهمة الأساسية الأولى للمجلس الأعلى للثقافة فى الوطن – مصر- هى الإسهام فى إتاحة وإمكان القيام بأكثر من حوار خلّاق على المستوى الثقافى بين التيارات الثقافية والاجتماعية المختلفة، والخروج من هذا الحوار والإفادة منه فى استعادة الحيوية اللازمة للثقافة المصرية وازدهارها وتواصل نموها». فالبداية الناجحة لكل عمل ثقافى هى الإيمان بالديموقراطية الثقافية التى تنبنى على التعددية والتنوع وحق الاختلاف وقبول المغاير فى آن. وكان الظرف السياسى فى ذلك الوقت ينطوى على هامش يسمح لنا بحرية الحركة والانطلاق فى هذا الاتجاه، وكانت التيارات الغالبة على المجتمع المصرى فى ذلك الوقت، هى: التيارات الدينية الإسلامية إلى جانب التيارات اليسارية، والتيارات الليبرالية، والتيارات القومية الناصرية. وقررتُ التفكير فى مجموعة من الندوات التى تهدف إلى إنعاش الحركة الثقافية المصرية وبث الحيوية فيها، وفى الوقت نفسه الإضافة إلى اللجان القائمة فعلًا والتى يضمها المجلس الأعلى للثقافة، لجنة جديدة هى لجنة الثقافة العلمية التى أصبحت ضرورية بعد أن دخلنا فى عصر ما بعد الحداثة. وقررتُ بينى وبين نفسى أن يكون الحوار الثقافى بين كل الاتجاهات الثقافية الموجودة، حرًّا ومفتوحًا إلى أبعد حد دون وضع قيود سياسية أو دينية تَحول دون حيوية الحوار أو توجهاته الخلّاقة ما دام الأمر فى النهاية يصب فى المصلحة العامة. وقد اجتمعتُ مع مُقرِّرى اللجان فى ذلك الوقت، وشرحتُ لهم الإستراتيچية الجديدة التى سنمضى فى العمل عليها، ووجدتُ منهم كل الترحيب. وبالفعل بدأنا التنفيذ، وواجهتنا بعض العقبات الموضوعية، وبعض الأمراض الذاتية النفسية، ولكن النتيجة العامة كانت مُبَشِّرة.
أما الدائرة الثانية، فكانت الدائرة الكبرى التى تحتوى الدائرة الصغرى للوطن، وترتبط بالدائرة القومية التى تؤكد الوحدة الثقافية القومية للعرب جميعًا، وأن هذه الوحدة وحدة تثرى بالتعدد والتنوع، وذلك بالقدر الذى تتطور بالحوار والاختلاف. وكان هذا الأمر يتناسب كل التناسب مع التفكير القومى الذى ورثته عن المرحلة الناصرية من ناحية، والذى كُنّا فى أَمسِّ الحاجة إليه، خصوصًا أن آثار القطيعة العربية لمصر بعد كامب ديڤيد والسادات كانت لا تزال ماثلة، وكانت آثار هذه القطيعة تُلقِى ببصماتها الثقيلة على العلاقات المصرية العربية. وهكذا بدأتُ فى التواصل مع المثقفين العرب فى كل مكان. ولحسن الحظ أفادتنى العلاقات الثقافية التى كوَّنتُها مع المثقفين العرب على امتداد سنوات طويلة سبقت قَبولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة. ولذلك عندما بدأتُ أول مؤتمر على المستوى القومى أفرحتنى جدًّا الاستجابات العربية الإيجابية التى وجدتُها من مثقفين عرب على امتداد الوطن العربى من المحيط إلى الخليج، ومن شخصيات كنتُ ولا أزال أُكِنُّ لها كل التقدير والاحترام وأدين لها ولحضورها فى مصر بنجاحى التام فى هذه الدائرة. وكانت صداقاتى مع المثقفين اللبنانيين لا تقل أهمية عن صداقاتى مع مثقفى الخليج إذ قضيتُ خمس سنوات أستاذًا مُعارًا فى جامعة الكويت التى أتاحت لى الانتقال السهل بين الأقطار العربية فى الدائرة الخليجية والمقاربة للخليج، خصوصًا اليمن التى كان بها صديقى العزيز عبد العزيز المقالح الشاعر العربى العظيم. فضلًا عن علاقتى بالمثقفين فى السعودية ابتداء من تُركى الحَمَد وليس انتهاء بعبد الله الغذامى أو سعيد السريحى أو أقرانهما، وقُل الأمر نفسه على مثقفى الكويت الذين عشت بين ظهرانيهم خمس سنوات، وقِس على ذلك لبنان التى كنتُ أعرف فيه عشرات المثقفين، وأكتب مقالات دائمة فى جريدة «الحياة اللندنية» التى جعلتنى مقروءًا ومعروفًا فى كل لبنان، ومن ثم عارفًا لأهم مثقفيه. ولم يكن الوضع يختلف عن ذلك بعلاقاتى بمثقفى الأردن أو سوريا أو العراق أو حتى على الناحية الأخرى حيث يوجد الأصدقاء من المثقفين فى ليبيا وتونس التى سبق لى زيارتها مرات، فضلًا عن المغرب التى تربطنى بمثقفيها روابط وثيقة ابتداء من محمد برادة وليس انتهاء بِعَلىِّ أومليل وأقرانه وتلامذته. ولن أنسى الجزائر أو غيرها من البلدان التى لم أذكرها على سبيل السهو أو النسيان.
وقد كنتُ على علاقة وثيقة مع عدد كبير من المثقفين العرب فى كل أنحاء الوطن العربى، وهى علاقة ساعدتنى فى الاستعانة بهم لِنسفِ الجليد المصطنع الذى بقى فى عصر الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك من آثار كامب ديفيد التى كانت قد بدأت تخف حِدتها وتوابعها. وشيئًا فشيئًا ذاب الجليد بالفعل، وتكاثرت المؤتمرات القومية، خصوصًا عندما فكرتُ سنة 1995 فى احتفالية من مثل «مرور ألف عام على أبى حيان التوحيدى» فى مؤتمر حضره من المثقفين العرب ما ضاقت بهم قاعة المسرح الصغير فى الأوبرا، بل ما ضاقت بهم القاعة الكبرى للأوبرا نفسها، خصوصًا عندما وافقنى فاروق حسنى على أن نقيم «ملتقى القاهرة الدولى للإبداع الروائى» سنويًّا، وأن يكون هذا الملتقى - فعليًّا - لكل الروائيين العرب والمهتمين بالرواية العربية. وللمرة الأولى تشهد قاعات المجلس الأعلى للثقافة فى مبناه القديم فى شارع حسن صبرى - والذى أضفنا إليه مكتبة القاهرة الكبرى فى شارع حسن مظهر، التى اعتبرناها مُلحقًا للمجلس الأعلى للثقافة فى قاعاتها المختلفة - كل الروائيين العرب. وكان لا بد فى أن نفكر فى مكان جديد نستوعب به تصاعد النشاط الثقافى على المستوى المَحلى والقومى، وننجح فى استكمال المبنى الجديد للمجلس الأعلى للثقافة الباقى إلى اليوم فى ساحة الأوبرا، وهو المبنى الذى أتاح لنا التوسع فى هذه المؤتمرات. ولا أزال أذكر إلى اليوم الملتقى الثانى للرواية العربية الذى عقدناه سنة 2003 فى المبنى الجديد، والذى كنتُ أشعر فيه بالفرح وأنا أجد فى كل مكان حولى المثقفين العرب فى وطنهم الأم «مصر»، وهم يتحدثون فى حرية وصراحة ودون أدنى قيد سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الاجتماعية أو الناحية الدينية، وقد كان الجميع على قدر المسؤولية القومية، فلم ينطقوا إلا بكل ما يؤكد ثراء الثقافة العربية والتنوع الخلّاق لتياراتها ومجالاتها الغنية بثراء الحوار والخلاف فى آن.
ولحسن الحظ كانت القيادة السياسية فى ذلك الوقت - وهذه شهادة للتاريخ - مُدركة أهمية الدور القومى الذى كنا نقوم به، فلم نجد أى نوع من الاستجابة إلا الترحيب والتشجيع، وذلك إلى الدرجة التى كانت تسمح للمجلس بأن يَضمن أفراد الدول التى كان مواطنوها ممنوعين من دخول مصر فى ذلك الوقت، وهو الأمر الذى ساعدنا على أن نستضيف الجميع، مُحطِّمين الأرقام القياسية لعدد الضيوف المَدعوِّين. وكانت الظاهرة التى لا أزال أراها مفرحة أن كل مؤتمر كان يطلب حضوره عدد كبير من الذين لم توجَّه إليهم الدعوات. وحتى عندما قام صنع الله إبراهيم سنة 2003 برفض جائزة الرواية العربية، وألقى خطابًا معاديًا للدولة على منصة الاحتفال أمام آلاف مؤلَّفة من الحضور وعلى مسمع من الجميع، انتهى الأمر دون أن يقع له أى شىء، وذهب الرجل إلى بيته مُعزَّزًا مُكرَّمًا، كما بقينا نحن فى مناصبنا دون أى ملاحظة - من جهات عُليا - أو حتى لَوْم. وهذا أمر يُحسب – للحق- بالإيجاب لزمن الرئيس الأسبق حسنى مبارك، فى ذلك الوقت البعيد، كما يحسب – فى الوقت نفسه- لفاروق حسنى الذى كان يرى فى نجاحى إضافة له بكل معنى إيجابى.
وتتابعت المؤتمرات القومية سواء فى الشِّعر أو الرواية. ولعل أهمها – فى تقديرى- مؤتمر «مائة عام على تحرير المرأة العربية». وكان سنة 1999 بمناسبة مرور مائة عام على صدور كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» سنة 1899. وكان المؤتمر حدثًا قوميًّا استثنائيًّا، بكل معنى الكلمة، فقد قمنا بدعوة مثقفات عربيات من كل الأقطار العربية بلا استثناء، وجعلنا المؤتمر كله تحت إشراف السيدة الأولى فى ذلك الوقت. وقد قَبلتْ الدعوة بفرح أسَعَدها وتشجيعٍ دَعَمَنَا، وأضاف لدورها الثقافى الذى لا ينكره إلا جاحد. وتجمعت ممثلات أقطار الوطن العربى جميعهن، فى حشد لم يشهده المسرح الكبير لدار الأوبرا، وطُرحت كل قضايا المرأة العربية التى تصل وتفصل بين زمننا وزمن قاسم أمين، مؤكدة ما تحقق للمرأة العربية، وما لم تستطع أن تحققه بسبب العوائق السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية على السواء. وقد تبارت المُشارِكات فى التنافس على المصارحة وتحليل أسباب التخلف التى حالت دون وصول المرأة العربية - إلى اليوم - إلى ما حلم به قاسم أمين وكل من آمن بدعوته إلى تحرير المرأة. وقد دفعنى نجاح هذا المؤتمر إلى نشر ما كتبتُه حول قضايا المرأة فى كتاب بعنوان «دفاعًا عن المرأة». وقد فاجأتنى السيدة بهية الحريرى فى خطاب ألقته فى أحد احتفالات «منظمة المرأة العربية» بأن إنشاء «المجلس القومى للمرأة» فى مصر كان من النتائج التى ترتبت على مؤتمر «تحرير المرأة العربية». وهو الأمر نفسه الذى يمكن أن يقال عن «منظمة المرأة العربية» التابع لجامعة الدول العربية إلى اليوم.
وهذا ما يقودنى إلى الدائرة الثالثة، وهى الدائرة الأكثر اتساعًا والتى تضم الدائرة الوطنية والقومية على السواء حيث يقع العالم كله على امتداد الكرة الأرضية. ولحسن الحظ بدأ التفكير العملى فى الدائرة العالمية بالتنفيذ الفعلى للمشروع القومى للترجمة، فى المجلس الأعلى للثقافة وهو المشروع الذى تحمَّس له فاروق حسنى كل الحماسة، والذى واجه كل العوائق البيروقراطية التقليدية، ونجح فى اجتيازها إلى أن أكمل العدد الألف من إصداراته، وقد أقمنا بهذه المناسبة مؤتمرًا عالميًّا دَعَوْنا فيه كل المهتمين بالترجمة وكبار المترجمين، وخصوصًا الذين ترجموا الأدب العربى إلى لغات أجنبية. وكان المؤتمر ذاته حدثًا بهيجًا لم تشهد مصر مثيلًا له من قبل. وقد شهدت قاعات المجلس الأعلى للثقافة - فى مكانه الحالى - عشرات المترجمين وعشرات الجنسيات من المهتمين بالترجمة من العربية وإليها، وقد كرَّمنا فى هذا المؤتمر أعلام المترجمين للأدب العربى إلى اللغات الأجنبية، وعلى رأسها الإنجليزية والألمانية والصينية. ولعل الإشارة إلى اللغة الصينية، هى إشارة تؤكد وعينا بأهمية الخروج من دائرة المركزية الأوربية الأمريكية، فقد كنتُ أدرك ويدرك العاملون معى أننا قد فارقنا زمن المركز الأوربى الأمريكى، وأصبحنا نعيش فى عالم من التنوع البشرى الخلّاق، صعدت فيه نمور آسيوية، فأصبح فيه نصف عالم آسيوى جديد، وتعددت المراكز الثقافية العالمية وتنوَّعت بعد أن كانت محصورة فى مَركز واحد، وهو الأمر الذى كان يعنى ضرورة توسيع آفاقنا والتطلع إلى كل ثقافات العالم، وليس الاقتصار على ثقافة واحدة ومَركز واحد.
وكان المشروع القومى للترجمة يوازيه – على المستوى العالمى- تحويل المؤتمرات المهمة إلى مؤتمرات دولية تضم دارسينَ من أهم بلدان العالم التى أسهمت إسهامًا إيجابيًّا فى موضوع المؤتمر. وكما ترجمنا فى العام الأول للمشروع القومى للترجمة عن ثلاث وثلاثين لغة عالمية، توجهنا بدعواتنا إلى عدد كبير من الشخصيات العالمية المؤثرة فى مجالات الفكر والإبداع، فدَعَوْنا مبدعينَ ومُفكرين من أمثال: ماريو بارجاس يوسا، ومارتن برنال، وفيدريكو كورنيتى، وروچيه جارودى، وميشال فيفوركا، وعالِم الموسيقى الإسبانى رافائيل بيريث، والكاتب الألمانى مارتين موسباخ، والكاتب السلوڤينى إيفالد فليسار، كما دَعَوْنا مفكرين من أمثال چاك دريدا الفرنسى صاحب فلسفة التفكيك التى أقامت الدنيا ولم تُقعدها فى ذلك الوقت، كما دعونا من المؤرخين أندريه ريمون، صاحب أهم كتاب عن تاريخ مصر «الحِرَفيّون والتجار فى القاهرة فى القرن الثامن عشر».
والحق أننى عندما أسترجع هذه السنوات التى شغلت فيها منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، أشعر بنوع من الفخر بما لم أستطع أن أنجزه وحدى، فقد ساعدنى فى هذا الإنجاز مجموعة من المثقفين العاملين معى الذين آمنوا بما كنتُ أؤمن به من الدور الأساسى والريادى لمصر على المستوى الثقافى ليس المحلى فحسب، وإنما القومى والعالمى فى الوقت نفسه. فقد كنا نعمل ليل نهار لتحويل المجلس الأعلى للثقافة إلى شعلة من النشاط الخلّاق: تصدر كُتبًا مؤلَّفة ومترجمة، وتقيم أنشطة ثقافية محلية ودولية وعربية وتدعو شخصيات بارزة من كل أنحاء الدنيا، وتصل بين المثقف المصرى ومن كان يقرأ لهم أو يسمع عنهم فى كل مكان من أقصى الغرب الأمريكى إلى أقصى الشرق الصينى، واضعين فى اعتبارنا أن ثقافة التنوع الخلّاق التى تعترف بالهويات الوطنية كما تعترف بحوار الحضارات وتفاعلها هى الثقافة التى ننتمى إليها، وذلك من منطلق وطنى واعٍ بمصالحه الوطنية بالدرجة الأولى، وحريص على تأكيد حضوره فى دائرته الوطنية المحلية، وفى دائرته العربية القومية، وفى دائرته العالمية الكوكبية. ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن نترجم عددًا ضخمًا يصل إلى العشرين كتابًا عن العولمة سلبًا وإيجابًا، واضعين أمام القارئ العربى والمثقف المصرى بالدرجة الأولى كل الآراء التى قيلت مع العولمة أو ضدها، تاركين لهذا المثقف حرية الاختيار واتخاذ موقفه الفكرى الخاص، إيمانًا بضرورة دعم الوعى النقدى عند هذا المثقف وعدم قبول كل ما يُعرض عليه إلا بعد أن يضعه موضع المساءلة أو النقد والتمحيص. وهكذا جعلنا من المجلس الأعلى للثقافة ساحة نشاط ثقافى حيوى مستمر، لم يتوقف أو يهدأ من سنة 1993 إلى 2007 حيث تركتُ المجلس الأعلى بعد أن أفلحت فى استصدار قرار جمهورى بتأسيس المركز القومى للترجمة الذى كنتُ أول مدير له بعد أن بذلتُ جهدى لكى أُسهم فى إنشائه. ولا يزال هذا المركز يعمل بالتوازى والتفاعل مع المجلس الأعلى للثقافة، لكن للأسف بعد أن فرغ المجلس الأعلى للثقافة من الوهج وروح الحماسة التى كانت تحركه بوعى وطنى قومى خلال سنوات إنجازه التى أسهم فيها بعدى المرحوم على أبو شادى، والعزيز عماد أبو غازى الذى تُوِّج عمله بتعيينه وزيرًا للثقافة.
وعندما أتطلَّعُ إلى الوراء وأستعيدُ الإستراتيچية التى انبنى عليها نشاط المجلس الأعلى للثقافة فى هذه الفترة الهامة من تاريخ مصر، أتذكر بالفخر والاعتزاز أنى عملت مع كوكبة من الشباب استطعنا أن نذيب الجليد تمامًا، فعادت مصر إلى دائرتها القومية، وأكدتْ علاقاتها الثقافية بالعالم كله. ولولا مجموعة من المثقفين المصريين الكبار ورعايتهم وحماستهم التى جعلتهم يحتضنون المشروع الثقافى القائم على تفاعل هذه الدوائر الثلاث للثقافة المصرية، ما كنا قد حققنا ما حققناه. ولا أزال أذكر المُساعَدة بالرأى والمشورة لكل الذين رحلوا: يونان لبيب رزق، وفاطمة موسى، ولطيفة الزيات، وأنور عبد الملك، وعلى الراعى، وميلاد حنا، وسمير حنا، ومصطفى سويف، وحسين نصار، وفاروق شوشة، وأحمد مستجير، وسهير القلماوى، ومحمود أمين العالِم، وفتحى غانم، وسليمان حزين، وأنيس منصور، وإبراهيم مدكور، وإسماعيل صبرى عبد الله، وعبد الملك عودة، وحامد عمار، فهؤلاء جميعًا وغيرهم من الراحلين قد تحمَّسوا حماسى للعمل فى سياق هذه الدوائر المتداخلة التى نقلتُها عن كتاب «فلسفة الثورة» لجمال عبد الناصر، وسعيتُ بها إلى أن أفيد من الإستراتيچية التى وضعها عمالقة الثقافة المصرية لإستراتيچية موازية فى عهد ثروت عكاشة، وذلك بتشجيع من فاروق حسنى الذى كان تلميذًا لهم وداعمًا لى فى حلمى بأن يكون المجلس الأعلى للثقافة المصرية هو المجلس الأعلى للثقافة العربية والعالمية. وقد تحقق هذا الحلم بفضله وتشجيع القيادة السياسية فى زمن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك الذى أشهدُ بأنه كان متحمسًا كل الحماسة لما أنجزناه من أجل وطننا وضمن العالم الذى ننتمى إلى أجمل وأنبل ما فيه من قيم الإنسانية.
تُرى هل يستعيد المجلس الأعلى للثقافة الوعى، فيُعيدُ النظر والإفادة من هذه التجربة العظيمة التى قامت على أكتاف أعظم العقول المصرية وأنبلها من الأسماء التى أشرتُ إليها والتى ذكرتُها بالفضل والعرفان؟!
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.