منذ سنوات طويلة جاء إليّ رجل فى الأربعين من عمره يطلب أن أذهب معه إلى منزله بسرعة لأن ابنته حاولت الانتحار وأنقذوها فى آخر لحظة وهى فى حالة سيئة ورافضة أن تكلم أحداً. فذهبت معه ودخلت إلى الفتاة التى كانت لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، وبعد حديث طويل كان أغلبه حكايات عن قساوة الأب بكل الطرق خرجت وجلست مع الأب، وقلت له: متى كانت آخر مرة أخذت ابنتك فى أحضانك؟، فنظر لى باستغراب وقال لي: ولا مرة، فقلت له: هل تحب ابنتك؟ فقال لي: طبعا فقلت له: ولماذا لا تحضنها؟ فقال لي: لم أجد سبباً لهذا، فقلت له: ابنتك مرهفة الإحساس وهى فى مرحلة تحتاج إلى أحضانك، فقال لي: تعلمنا أن نكسر للبنت ضلعا فيطلع لها أربعة وعشرون. فقلت له: الحقيقة هذا المثل خاطئ فكسر الضلع جعل ابنتك تكره الحياة. والحقيقة أنها ليست القصة الوحيدة لقساوة البشر، فإذا نظرت فى وجوه الناس قد تجد قسوة الحياة وقد رسمت فى الملامح خطوط الجروح العميقة من أحداث الأمس، والدموع قد تحجرت فى العيون وأبت أن تنزل استسلاماً لقساوة الحياة، وملامح الوجوه ما هى إلا خطوط لجروح ولطمات قاسية من أياد قد تكون من أقرب الأشخاص أو أصحاب السلطة أو قساوة الجحود. والقساوة قد تكون حالة شعب أو قصصا فردية، فتاريخ البشرية ما هو إلا سجل لقساوة البشر بعضهم لبعض، فمن الذى وضع نظام العبودية القاسية بقوانين تحفظ للأسياد حقوقهم فى استخدام البشر كقطيع الحيوانات، أليس هم من يسمون أنفسهم البشر، بل ومن يدعون أنفسهم أنهم أصحاب الضمائر الآن. فأمريكاوإنجلترا وفرنسا وروما سجلاتهم فى تاريخ العبودية مخزية وقاسية جداً. فمثلاً إنجلترا باعت نصف شعب إيرلندا عبيداً فى الفترة ما بين (1550-1700م) وكانوا يُباعون كالحيوانات حتى أنهم كانوا ينقلون ويتجمعون فى حجرات ضيقة، حتى أنهم يقضون حاجاتهم وهم واقفون لأيام كثيرة فتنتشر بينهم الأمراض ويموت البعض. وفى عام 1845م فسد محصول البطاطس فى إيرلندا الذى كان الغذاء الرئيسى للشعب الفقير ورفضت إنجلترا إغاثة الشعب الإيرلندى من الجوع فمات ما يقرب من مليون إيرلندى من الجوع. هذه صورة عابرة للقساوة مروراً بقساوة قنبلة هيروشيما التى صنعتها أمريكا للانتصار فى الحرب وإخضاع اليابان وتركعيها للقوى العظمى. وأحياناً تكون القساوة فى معاملاتنا مع بعض وإننا لا ندرك أن للكلمات مخالب تجرح وأحياناً تقتل تلك النفوس التى تنزف جرحا دائما من فرط مشاعرها المرهفة. ففى قصة كتبها المؤلف النمساوى استيفان زفاييج الذى عاش متنقلاً من بلد إلى أخرى وبعد أن أخذ الجنسية الإنجليزية انتحر عام 1942م لأنه رأى قساوة البشر قبل الحرب العالمية الثانية بصعود النازية على مسرح الجرائم العالمية. وكتب قصة مبدعة اسمها حذار من الشفقة تحكى عن ضابط اسمه هوفليمر كان شاباً من عائلة فقيرة تعرف على عائلة غنية ودخل قصرهم الفخم فى ليلة مدعواً على العشاء. وفى تلك الليلة دعى ابنة الرجل الغنى للرقص اسمها اديث وكان ردها على هذه الدعوة البكاء الشديد والانهيار، وأخذته إحدى أقارب الفتاة الغنية وقالت له: أنها مقعدة لا تستطيع المشى، ولم يلحظ هذا الضابط لأنها كانت جالسة وسط الفتيات الأخريات. وشعر الضابط بفداحة جرمه وانصرف وأخذ طوال الليل يفكر كيف يعتذر عن هذا الخطأ، وفى الصباح أرسل باقة من الورد مع كلمات رقيقة للاعتذار، وردت أديث على هذا بخطاب رقيق فيه دعوة على الحضور. وتوالت زيارة الضابط الذى كان يصر أن يقدم كلمات رقيقة ولا يدرك أن هذه المشاعر ستدخل إلى قلب الفتاة كمثل المياه على الأرض العطشى والتى تحمل قساوة الزمن والشعور باليأس، وتعلقت الفتاة بالضابط لأنها كلما كانت تفصح عن عجزها وحالها يرد الضابط بكلمات الأمل والثناء. وبعد فترة أفصحت الفتاة عن حبها للضابط الذى وجد نفسه أمام حقيقة أنه إما أن يستمر فى هذا العطاء أو الفرار. وقد قرر الفرار ولكنه قد تراجع بعد مقابلة مع طبيبها المعالج الذى نصحه بأن هذا سيصيبها بحالة قد تؤدى إلى انتحارها. واستمر رغم الصراع الذى بداخله، ولكن انتشرت فى البلدة قصة الضابط وأديث فقابله والد الفتاة الغنى وعرض عليه الزواج إنقاذاً للفتاة فقد أصبحت تحبه جداً. وعرض عليه أى مقابل فوافق وانتشر الخبر فى البلدة عن خطبته، ولكنه قد شعر بالخزى من هذه القصة أمام أهله وزملائه الضباط لأنها مقعدة فنفى تلك القصة، مؤكدا لم يتقدم لخطبتها. ووصل كلام الضابط للفتاة التى اتخذت قراراها بالانتحار، وماتت. ووصل الخبر للضابط الذى لم يستطع أن يعيش بعد هذا من وخز الضمير فدخل الحروب بكل جراءة طلبا فى الموت ولكنه كان ينتصر ويخرج من الحروب ويجمع الأوسمة، وفى داخله كان يرى أنه ليس بطلا بل كانت هالة المجد بالنسبة له لا تطاق ويقول: كانت الحرب بالنسبة لى مخرجاً وباباً للفرار كما يفر المجرم الأثيم. وكان يدرك أنه كان قاسيا على فتاة كانت مرهفة المشاعر ولم يدرك أنه يقتلها بأنانيته وذاتيته. وتتكرر تلك المآسى يومياً فهناك من يعيش لنفسه ورغباته وذاته دون أن يرى أنه يجرح آخرين. فالحياة قاسية جدا على هؤلاء الذين يحملون قلوباً تشعر ومشاعر رقيقة. لذلك حذار من القسوة لكل من هم حولك حتى لا تكون سبباً فى جرح أو تعاسة للآخرين، فقتلى المشاعر والكلمات قد يكونوا فى الحياة ولكنهم ليسوا أحياء. وقد يكون كل شيء طبيعيا ولكن القلب متألما، بالرغم من أن الشمس تسطع، والنهر يجرى، والطيور تغرد، ولكن يظل القلب متألما. فخلف كل شيء ستار ثقيل مؤلم، وطبيعة الأشياء لم تخف وجه الإنسان المظلم، والقسوة تغتال الأمس، وما تبقى من الحياة أشلاء على جدران الزمن. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس