حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    عيار 21 بكام بعد الارتفاع الجديد؟.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد 5 مايو 2024 بالصاغة    بعد معركة قضائية، والد جيجي وبيلا حديد يعلن إفلاسه    أسعار السمك اليوم الأحد 5-5-2024 بعد مبادرة «خليها تعفن»    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الأحد 5 مايو 2024 بعد الارتفاع    هل ينخفض الدولار إلى 40 جنيها الفترة المقبلة؟    حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تجمعان تبرعات تتجاوز 76 مليون دولار في أبريل    عاجل.. رعب في العالم.. فيضانات وحرارة شديدة ومئات القتلى بسبب تغير المناخ    تظاهر آلاف الإسرائيليين بتل أبيب للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة    علي معلول: تشرفت بارتداء شارة قيادة أعظم نادي في الكون    أحمد مصطفى: نُهدي لقب بطولة إفريقيا لجماهير الزمالك    العمايرة: لا توجد حالات مماثلة لحالة الشيبي والشحات.. والقضية هطول    الأرصاد: انخفاض مفاجئ في درجات الحرارة.. وشبورة مائية كثيفة صباحًا    تشييع جثمان شاب سقط من أعلي سقالة أثناء عمله (صور)    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    كريم فهمي: لم نتدخل أنا وزوجتي في طلاق أحمد فهمي وهنا الزاهد    تامر عاشور يغني "قلبك يا حول الله" لبهاء سلطان وتفاعل كبير من الجمهور الكويتي (صور)    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    مصطفى بكري: جريمة إبراهيم العرجاني هي دفاعه عن أمن بلاده    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    حسب نتائج الدور الأول.. حتحوت يكشف سيناريوهات التأهل للبطولات الأفريقية    مختار مختار ينصح كولر بهذا الأمر قبل نهائي إفريقيا أمام الترجي    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    محافظ الغربية يشهد قداس عيد القيامة بكنيسة مار جرجس في طنطا    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    عاجل.. مفاجأة كبرى عن هروب نجم الأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    رئيس جامعة دمنهور يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكاتدرائية السيدة العذراء    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    شديد الحرارة ورياح وأمطار .. "الأرصاد" تعلن تفاصيل طقس شم النسيم وعيد القيامة    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أديبات عالميات قاومن الإقصاء الأنثوى بأسماء الذكور (2 من 3).. أديبات قصيرات العمر
نشر في الأهرام العربي يوم 13 - 12 - 2015

أعمال شارلوت وإيملى وآن برونتى أحد أكبر أبجديات الأدب الإنجليزى

- أعينهن اعتادت شواهد القبور والموت كان رفيق حياتهن

- عبقريات اتخذن من الأسماء الذكورية «حصان طروادة» ليتجاوزن قسوة الأب ويقتحمن القلاع الفيكتورية

- أميرا الشعر البريطانى «سوثى» و«وردزورث» اعتبرا أن الكتابة لا يمكن ولا ينبغى أن تكون حرفة لامرأة!

كان منزلا كئيبا، منعزلا، منزلا هجرته الطيور والأزهار فسكنته أصوات الرياح تعربد فى جنباته كيفما اتفق لها، كان بيتا موحشا يحمل ضميرا عليلا يبحث عن من يفك أثر ما يؤرقه من خبايا وأثقال، سكنا يفتقر للحب فلا يرحب بالبشر للسكنى، بل يحذرهم من الاقتراب، سكنا جرى بناؤه بأحجار قاسية رمادية اللون، باتت مع مرور السنين أقرب إلى الأسود القاتم.. منزلا لا تحيط به أى من أمارات الحياة الآدمية، اللهم إلا من شواهد القبور التى تحيط بأركانه والأحراش القاسية التى كللها الجليد بلونه الأبيض، فبات هذا اللون هو المتنفس الوحيد ليهب هذا المنزل لونا آخر غير الرمادى والأسود، خصوصا أن أشعة الشمس الذهبية البهيجة هاجرت هى الأخرى من محيط هذا السكن معلنة استسلامها لجحيم إنجلترا الأبيض البارد..وهكذا بات الرابط الوحيد الذى يصل بين هذا المنزل والحياة هو الثلج والقبور والكنيسة.. نعم الكنيسة كما سيتضح من السطور المقبلة..
هذا المكان لم يكن ديكورا لفيلم رعب قوطي، وإنما هو المنزل الذى خرجت من بين جدرانه ثلاث سيدات تغلبن على قسوة الحياة، قهرن الألم وعذابات الاضطهاد وانتصرن على المرض وفقد الأعزاء، ليدخلن عالم الخلود وتصبح أعمالهن من أبجديات الأدب الإنجليزي..هن الأديبات الثلاث شارلوت برونتى صاحبة رواية “جين آير” التى تناولت فيها بقلم شديد الحساسية الانفعالات والأفكار الاجتماعية، فى وقت كانت تسود فيه الثقافة الذكورية حيث أوج قوة العصر الفيكتورى وهيمنة ثقافة حرمت المرأة من حق التفكير المستقل فكان أمنها ومستقبلها مرتبط بمهاراتها الزوجية واستعدادها لتقبل سلطة الرجل، وإيملى برونتى مؤلفة رائعة “مرتفعات ويذرينج” التى رسمت فيها بريشة الكلمات صورة بديعة لأدق تفاصيل المشاعر الإنسانية، فلم تكتب عن المرأة فقط بل عبرت عن وجدان الرجل أيضا، والشاعرة آن برونتى التى تكشف كلماتها النقاب عن نفس سيدة تعانى الألم والضعف..
سيدات آل برونتى سيكونن شخصيات الحديث هذه المرة عن الأديبات اللاتى اضطررن إلى التنكر بأسماء ذكورية حتى يتمكن من اقتحام قلاع “طروادة الذكورية”، التى حصن بها المجتمع الغربى فى بدايات القرن التاسع عشر عالم الأدب، لكن شارلوت وأختيها إيملى وآن نجحن فى اقتحام الحصن برغم كل المآسى التى عشنها من أب قاس عنيد، إضافة إلى الفقر وتابعه المرض، وتمكن من ترك بصماتهن فى عالم الرواية والشعر..ولنجاحهن قصة جميلة جمعت بين العبقرية والألم ومشيئة الأقدار، وهى القصة التى سترويها لنا سيدات آل برونتي..
البداية ترويها شارلوت
“لم أرد أن أكون أنا من يروى قصة سيدات آل برونتي، لكن يبدو أن هذا هو قدرى منذ البداية، فقد كنت الأخت الكبرى، ومن ثم تحملت المسئولية عن أشياء تفوق عمرى، حيث لم أكن حينها قد بلغت العاشرة بعد.. سأبدأ معكم من ذروة الأحداث فى حياة آل برونتى، ذلك عند وفاة والدتى العزيزة، كنت حينها فى السادسة من عمرى، وقد شاهدتها وهى تضعف وتفقد ابتسامتها الرقيقة التى أنارت حياة أطفالها، ذبلت أمى بعد أن فشل جسدها النحيل فى تحمل ظروف الحياة الصارمة التى فرضها علينا والدى القس، فكانت كشمعة وهبت النور لحياة زوجية لم يتجاوز عمرها العشر سنوات، منحته خلالها 6 أبناء.. كنت أود أن أصف حياة أمى بأنها كانت سعيدة أو على الأقل طبيعية، لكنها كانت أعوام 10 شهدت خلالها الكثير من الألم، والقليل من البسمات جاءت من نظرات أطفالها، ففارقتنا والدتى الجميلة بعد أن تحالف ضدها الجو قارس البرودة، وأعباؤنا نحن الأطفال وأعمال البيت، إضافة إلى صرامة والدى الذى فرض علينا جميعا العزلة والانغلاق عن الحياة والمجتمع..
لم أكن الابنة الكبرى لكن الموت كان رفيق حياتى منذ طفولتى المبكرة، ليحملنى مسئولية الجميع، فبعد أن اختبرته فى فراق والدتي، مررت به ثانية حين فقدت أختى الأكبر ماريا وإليزابيث، اللتين لم تتحملا كثيرا وطأة الفقر وجحيم البرد القاسى الذى أصابهما بمرض السل، فرأيت كيف ينطفئ نور الحياة فى عينى ماريا ثم إليزابيث، لكن فراق أختى لم يعرضنى لخبرة الموت فقط، لكنه أيضا أمدنى بتجربة لم أنسها ما حييت عن الكيفية التى يموت بها الأطفال فى المدارس الداخلية.. وهكذا وجدت نفسى وعمرى لم يتجاوز التاسعة مسئولة عن الجميع فى ظل ظروف شديدة الصعوبة حتى بالنسبة للكبار من الفقر وملاحقات المرض وصرامة والدى القسيس”.
ستكمل لنا شارلوت القصة بعد أن نسلط الضوء على بعض جوانب حياتها، فقد ولدت فى 21 إبريل عام 1816، لأب أيرلندى هو باتريك برونتى، وكانت الثالثة بين 6 أطفال خرجن للحياة فى جحيم بريطانيا قارس البرودة، حيث كانت العائلة برونتى دائما ما تعانى قسوة البرد، وذلك ليس بسبب فقر القس برونتى فحسب، وإنما أيضا بسبب تشدده واختياره لمنهج شديد الصرامة فى التعامل مع عائلته..
وبرغم أن الكاتب الجميل ألبير كامو رأى أن المرأة هى رائحة الجنة، لكن ما كان للقس باتريك أن يعلم بهذا الرأى، ليس فقط لأنه غادر الحياة قبل مولد كامو بعقود كثيرة، لكن أيضا لأنه اختار لزوجته وبناته حياة العزلة والانغلاق، فكان أول ما قام به الأب المحافظ هو تحذيرهن من أكل اللحم حتى لا يتعلقن بملذات الحياة! كما فرض عليهن العزلة فحرمهن أولا من التعليم حتى يقطع السبيل بينهم وبين ممارسة الحياة الاجتماعية..
أما عن المنزل فكان فى قرية “هاورث” ببرارى “يوركشير”، وهو بيت جرى بناؤه وسط المقابر التابعة للكنيسة التى يعمل بها القس باتريك، منزل لونه رمادى كئيب، تحول إلى الأسود مع مرور السنين، سكنا لعائلة غالبيتها من الأطفال لكنه لم ير الطلاء أو التجديد على مدار 30 عاما، هى سنوات عمر هؤلاء البنات اللائى كبرن ليصبحن نجوما خرجت من حضن عبائة سوداء كئيبة.. فى ظل هذه الأجواء كبر الأولاد وترعرعوا بين المقابر والبرارى الموحشة، فالمشهد الذى كان يطالع أعينهن عند النظر من نوافذ البيت هو شواهد القبور، وضمانا للحفاظ على نمط “الأسرة البابوية” كان القس باتريك يستغل أوقات حديثه النادر مع أسرته –حيث كان دائم الجلوس بمفرده مفضلا العزلة عنهن حتى أثناء الأكل- ليروى لهن قصصا عن العالم الآخر وعن الموت، ويعزز فى نفوسهن الخوف من الحياة.
إيملى تواصل السرد
“هل اجتمعتن لتسمعنني، أتدرين شيئا خلال عمرى القصير لم يسمع أحد صوتى إلا من خلال كلماتى فى روايتى الوحيدة “ويذرينج هايتس” التى لم يحبها الجمهور كثيرا عند بداية نشرها خلال حياتى فلم يروا ما فيها من حكى ومشاعر إلا بعد مغادرتى الحياة..لقد تحدثت عزيزتى شارلوت عن الموت ودوره المهم فى حياة آل برونتي، ومن هنا سأواصل الحكى فى البداية عن الموت أيضا، برغم أننى غادرت الحياة قبل رحيل شارلوت، فإننى سأحدثكم عن رحيلها قبل مواصلة السرد، فقد توفيت شارلوت قبل أن تتم عامها التاسع والثلاثين فى 21 مارس عام 1855 لتكون بذلك أكثر نساء آل برونتى عمرا، ولكنها كانت حياة قصيرة ومليئة بالشجن، ومزدحمة بالإبداع أيضا..
فرغم الحياة القاسية الجافة التى فرضها علينا والدي، فإننا نجحنا أنا وأختى فى تحويل هذه الوحدة الجبرية إلى منجم للإبداع ذاخر بشتى أنواع الفنون الأدبية، ومجددا برغم خوف أبى من اندماجنا فى الحياة الاجتماعية الصاخبة، فإنه بعد أن شاهد الموت تباعا وبعد أن بدأ يفقد بصره جزئيا، فقد استجاب لطلب شارلوت بأن يدخل أولاده إلى المدرسة، وهكذا أدخلنا إلى “كوان بريدج”، كانت مدرسة داخلية فى قرية “رادفورد” وهى خاصة بتعليم أبناء رجال الدين، وعن هذه المدرسة تحدثت شارلوت فى رائعتها “جين إير” حيث ذكرتها فى فصولها الأولى تحت اسم “لود”، وبسبب ما واجهته شارلوت ونحن معها فى هذه المدرسة، ظل حلمنا أن نفتتح مدرسة، نشرف فيها على تعليم الأطفال بعيدا عن التشدد، نعلمهم كيف يطلقون العنان لخيالهم حتى يبدعوا بأفكار جديدة ومختلفة.
وحتى أكون صادقة فى روايتى كان الموت عاملا فاعلا فى حكمنا جميعا على هذه المدرسة، ليس فقط بسبب صرامة المسئولين عنها، وعدم اهتمامهم بنا كأطفال لنا احتياجات مختلفة خاصة مع شتاء لندن القاسي، فلم تكن لدينا قفازات تقى أيدينا الصقيع، ولم يكن لدينا ما يكفى من ملابس لتوفر لنا الدفء، ولم يكن لدينا ما يكفى من الأكل كى يقوى أجسادنا الضعيفة على تحمل البرد، وأسلوب التعليم الشاذ وشظف الحياة، وهكذا لم تلبث ماريا وإليزابيث أن رحلتا، زهرتان جميلتان لم يتمكنا من الصمود طويلا فى المدرسة التى اختارها لنا والدنا، الذى كان يرى أن مجرد اللعب البرىء بيننا نحن الإخوة شكل من أشكال الرفاهية التى لا تليق بنا، وهكذا كما ترون يا أعزائى فقد طبعت حياتنا بالكآبة والحزن والشعور الدائم بالمسئولية..
وكانت عزيزتى شارلوت هى من تحمل العبء الأكبر، حيث أصبحت أماً لنا تنظم شئون حياتنا وترعانا، وتهتم بتعليمنا، ثم باتت مسئولة عن والدى، كذلك بعد أن ضعف بصره، حيث كانت تقرأ له الصحيفة وما يريد أن يطالع من كتب.. وهكذا، كما ترون بين جدران البيت وقسوة المدرسة لم يبق لنا سوى الحلم نتنفس عبره، وكانت “قائدة الأحلام” هى شارلوت، فعبرها مررنا بمغامرات خيالية، وعشنا حياة لم نحيها فى الواقع وكان “للقائدة” موهبة مميزة فى الحكى ودفعتنا جميعا إلى صنع عالمنا الخاص.. وحتى لا أكون قاسية فى الحكم على مدرستنا، فالواقع أن دخول شارلوت هذه “القلعة” جعلها تحتك بتجارب جديدة، حيث ذاقت للمرة الأولى طعم اللحم الذى حرمنا جميعا منه،كما تجلت مواهبها بين زميلاتها بما كانت تحكيه لهن من قصص خيالية ساعدتها البرارى التى تحيط بمنزلنا فى إحكام أجوائها الأسطورية..

إبداع خرج من رحم الألم
كما اتضح من كلمات إيملى، فقد كان الخيال هو ملجأ الفتيات الثلاث للهروب من واقع شديد القسوة، لكنهن لم يكتفين بالحكى بعضهن لبعض فحسب، بل شرعن فى الكتابة وكانت شارلوت هى القائدة كما وصفتها إيملى فبدأت منذ صباها فى كتابة قصص للأطفال، وذلك مبررا حيث كانت تلعب دور الأم لأخواتها، فكانت أولى قصصها “القزم الأخضر”.. ومع اندماج شارلوت فى الحكى وموهبة إيملى وآن فى الإنصات، بدأت النساء الصغيرات فى التفكير معا بشكل مختلف، خاصة حين شعرن وكأن حاصد الأرواح قد أرسى خيامه بالقرب من منزلهن، وذلك بعد مشاهدتهن أختيهما ماريا وإليزابيث تغادران الحياة دون أن يسمع أحد صوت عذاباتهما.
وهكذا شرع الأخوات الثلاث فى البحث عن وسيلة لإنقاذ أنفسهن من براثن المرض، وكانت الكتابة هى وسيلتهن للتواصل مع العالم الذى فرض عليهن الأب الكثير من القيود لمنع تواصلهن معه.. وهكذا مدعومات بقصص شارلوت وخيالهن الخصب وموهبتهن فى صياغة أفكارهن، شرعن فى الكتابة معا، وكان الشعر هو أول ما خطته أيديهن فكتبن ديوانا شعريا مشتركا، واتفقن إرضاء للمجتمع وخوفا من الأب-على إصداره تحت أسماء ذكورية، فاختارت شارلوت اسم”كورير بيل”، واختارت إميلى اسم”إيليس بيل”، واختارت آن اسم”أكتون بيل”.
إلا أن اتحاد نساء آل برونتى فى الكتابة معا كان أمرا شديد الصعوبة، خصوصا أن كلا منهن لها مذاقها الخاص فى الكتابة وتجربتها المتفردة بالحياة، وذلك ما اتضح فى أعمالهن الروائية.. فخرجت للنور رائعة إيملى “مرتفعات ويذرينج” التى لم يحسن المجتمع الإنجليزى المحافظ استقبالها كثيرا، برغم ما فيها من إبداع جاءت به إيملى ولم ينجح أحد بعدها فى تكراره، فإيملى كانت ربة بيتِ تتسم بالخجل والرقة الشديدة فى مشاعرها، وقد انعكس حبها لمحيطها برغم ما به من كآبة فى روايتها الوحيدة، فكانت عملا فريدا من نوعه، صادما لقرائه -فى البداية- لما يحتويه من عواطف متأججة، عواطف متحررة من فساد الطبيعة البشرية التى أرهقتها قيود المجتمع الفيكتوري. وعلى عكس أختها شارلوت، فإن إيملى فضلت خصوصية حياتها، فلم تستخدمها كعنصر تلجأ له فى أعمالها سواء أكان شعرا أم أدبا، فخرجت أعمالها تعبر عن مشاعر بدائية عميقة غارقة فى الخيال، بكر لم تتلوث بالتجارب الحياتية.

حكم قاس وقصة حب فاشلة
وفى وقت متزامن مع خروج رواية أختها إيملى إلى النور، كانت شارلوت قد أبدعت هى الأخرى رائعتها الخالدة “جين آير”، التى لاقت رضا الجمهور الفيكتورى المتحفظ، وهو الأمر الذى دفعها إلى أن تتحرر من القناع الذكورى “كورير بيل” وتكشف للناشر عن هويتها، متحدية بذلك قواعد المجتمع وخشيتها من والدها، فواصلت الكتابة فكانت رواية “شيرلي”، ثم “فيليب”، ف”البروفيسور”.
وبرغم غزارة إنتاج شارلوت فإن عملها لم يكن أبدا سهلا، فبعد أن أنهت دراستها فى المدرسة الداخلية، عملت بها مدرسة، وكانت تجربة قاسية حيث رفضت الأسلوب الصارم والتشدد فى التعليم، فقررت اللجوء إلى الكتابة للهروب من واقع ترفضه، فأرسلت بعض أشعارها إلى الشاعر الرومانسى “روبرت سوثي” -صاحب لقب “أمير الشعراء” البريطانيين لمدة 30 عاما- تطلب منه تقييم أشعارها ومساعدتها فى اقتحام “الحصون الذكورية للأدب”، لكنه رد على رسالتها قائلا: “ليس من الممكن للأدب أن يكون حرفة امرأة .. ولا ينبغي!”..
كان ردا قاسيا لكنه لم يكن صادما، وكانت بطلتنا تتصف بالمثابرة والعناد فكتبت إلى الشاعر الرومانسى الكبير “ويليام وردزورث “ الذى ترك بصمته فى الشعر الإنجليزى وورث لقب أمير الشعراء عن سلفه “سوثي”، وبعثت له بجزء من روايتها الأولى، لكن الشاعر الكبير لم يختلف موقفه عن قرينه “سوثي” حيث رد عليها -ويرجع ذلك إلى نشأته فى كنف أب ينتمى لعالم المحاماة فكان الأب جون وردزورث محاميا مهتما بالدراسة-قائلا: “لم أستطع أن أتبين ما إذا كانت المؤلفة كاتبة لدى موثق للعقود، أو حائكة ناقصة عقل”!
وبرغم ما تتصف به شارلوت من عناد، فإن رأى الشاعرين الكبيرين كان كطعنة نجلاء وجهت إلى قلبها الصغير، فقبلت الكاتبة المبدعة العمل كمربية لدى أسرة من الطبقة الوسطى، لكنها لم تستمر فى هذه الوظيفة طويلا، حيث كرهت الطريقة التى كان يعاملها بها رب الأسرة، وكانت معاملة أقرب إلى معاملة الخدم. ومرة أخرى تلجأ إلى الحلم، وكان الحلم الذى داعب خيالها هى وأختيها هو تأسيس مدرسة، فسافرت إلى بروكسل وهناك ستتعرض لطعنة أخرى، حيث ستقع فى الحب لكنه حب محكوم عليه بالفشل..
كانت شارلوت حين ذاك فى السادسة والعشرين من عمرها، وقد التحقت بمدرسة يديرها زوجان مستر ومسز”هيجر”، لتتعلم كيف تدار المدارس، إلا أنها سرعان ما تعلقت بصاحب المدرسة مستر “هيجر” وذلك على الرغم من أنه كان زوجا مستقيما وأبا لخمسة من الأبناء. والواقع أن بطل قصة حب شارلوت لم يكن الفارس الوسيم الذى تحلم به بنات جيلها أو الفتيات بشكل عام، فقد كان دميما، أقرب إلى القصر، ولكنه –وهنا يكمن مربط الفرس- كان أول رجل حاد الذكاء، رقيق المشاعر، يتبنى نهجا مختلفا فى التعليم، كان أول رجل تصادفه يثير إعجابها بعقله، وقد استشعر مستر “هيجر” ذكاء شارلوت فاصطفاها من بين تلميذاته ليؤثرها بدروس خاصة، مما أسهم فى إحكام قبضة الحب على قلب الفتاة الصغيرة، لكنها قصة لم يكن ليكتب القدر لها النجاح، فبطلها محب لأسرته، وبطلتها مرتبطة بعائلتها وكان عليها العودة إلى إنجلترا..
لم تكن شارلوت ترغب من مستر “هيجر” سوى فى التواصل معها كتابة، فقد راسلته كثيرا، مستجدية إياه أن يجيب عن رسائلها لكن الصمت هو من كان يجيبها، وهكذا صهرت كل ما شعرت به من أحاسيس رقيقة فى إبداعها المميز “جين آير” و”البروفيسور”.
آن تكشف المزيد من الأسرار.
“آه يا أختى العزيزتين، لقد تحدثتم بقسوة عن والدنا، ولم تنتبه إلى ما قد يكون مر به من إحباط تجاه فشله فى نشر كتابيه، ألا تتذكران، فقد كان هو أيضا كاتبا لكنه لم يلق النجاح فى عصر كان لا يرى فى القسيس إلا صورة رجل الدين فقط.. نعم يا من تنصتون إلى قصتنا اليوم بعد عقود كثيرة من مغادرتنا هذه الحياة القاسية، كان والدي، القسيس الأيرلندى الوقور موهوبا هو أيضا، حيث ألف قصتين لم يكتب لهما النجاح، فكان هو – من وجهة نظرى – الجندى المجهول الذى وجهنا إلى عالم الأدب حتى لو لم يدرك ذلك..
“آه حبيبتى شارلوت، كم عانيت، أعلم أنك تزوجت فى آخر أيام حياتك..ربما لم يكن لديك خيار آخر سوى الزواج من القس “آرثر نيكولس”.. قبلت الزواج به رغم عدم حبك له لأنه أبدى حبه لك، وأعرب عن تقديره واحترامه لموهبتك، ربما وددت أن تكونى أما لطفل من أحشائك، ربما شعرت أنه قد يساعدك فى تحقيق حلمنا القديم - وهو افتتاح مدرسة تلقنين فيها الأطفال تعليما أفضل مما تعرضنا نحن له - تسهمين به فى تأسيس جيل لديه القدرة على الحلم والخيال والإبداع بعيدا عن التشدد والتفكير الصارم المنغلق، لكن يا حبيبتى لم يكتب القدر لك النجاح فى هذين الحلمين، فلم يطل بك العمر لتفتتحى مدرستك، ولم يكتب لك القدر أن تكونى أما إلا لنا نحن إخوتك، فكان “السل” يتربص بك وبجنينك الذى لم ير النور..
“تحدثت كثيرا يا أعزائى عن شارلوت، سامحونى فقد كانت لى أماٌ بعد فقدنا والدتنا العزيزة، لكن لا يمكننى أبدا أن أغفل الجميلة إيملى –فقد كانت إيملى أجملنا- التى كانت كقصر يحتوى على الجواهر المختلفة، لكنه مغلق بآلاف من الأبواب ومحصنا بالمئات من الأسوار العالية.. لقد مرت جميلتنا إيملى بتجربة قاسية أثناء طفولتها، فبعد فقد الأم أصيبت الطفلة الصغيرة بنوبة عصبية جرّاء احتجازها فى غرفة مغلقة- لذلك يا أعزائى فإن صور الموت وخيالات الأشباح وفكرة الاحتجاز كانت تتضح كثيرا فى قصائدها الأولى، كما نجحت حبيبتى شارلوت بقلمها الحساس فى رسم صورة أكثر عمقا لهذه التجربة فى رائعتها “جين إير”.
“أتدرون، سأكشف لكم سرا، فرغم ما شيدته إيملى من حواجز كثيرة أثناء تعاملها مع الغرباء، الأمر الذى جعل من حياتها لغزا، فإننى واثقة أنه في مكان ما،كان هناك رجل يحب إيملي، ويحترمها..محب وقف خاشعا أمام صمتها، رافضا وكارها لغربتها والعزلة التى اختارتها كنهج لحياتها، حائرا يبحث عن مفتاح اللغز، عن الوسيلة التى يصل بها إلى قلب القصر الجميل..صدقونى يا أعزائي، يا من اهتممتم بقصة آل برونتى بعد كل هذه العقود من رحيلنا، هذا المحب عاش مع مشاعره لإيملى قصة حب جميلة أشبه بتلك التى سطرتها جميلتنا فى إبداعها “مرتفعات ويذرينج”، فكان حبه لإيملى مثل حب كاثرين لهيثكليف، حبا عميقا ولكنه ظل سرا مدفونا فى غياهب الدهر..”.

قبل النهاية
عن شارلوت قالت الأديبة الإنجليزية الشهيرة فيرجينيا وولف إنها فتاة حرمت من حقها فى التجربة، حيث فرضت عليها حياة راكدة فى بيت كاهن، ترتق الجوارب فى وقت كانت تتوق فيه إلى أن تجوب العالم حرة”. إن خلود أعمال صاحبة “جين إير” لا يكمن فحسب فى تمكنها من رسم صورة دقيقة ومؤثرة لساعات الألم، عن وحشة العزلة، عن قسوة الفراق، لكن أيضا فى خروجها بصورة بطلاتها عن الصورة المعتادة لبطلات الروايات حيث قالت: “إن الكتاب يخطئون إذ يصرون على أن يجعلوا من بطلاتهم جميلات، ويتخذون من هذا قاعدة ولسوف أثبت أنهم مخطئون، سأقدم بطلة خالية من الجمال ضئيلة الجسم مثلى تماما”. وقد كان، فلم يمر وقت حتى أصبحت روايتها الأولى حديث الصالونات الأدبية عند نشرها للمرة الأولى، بل وأعيدت طباعتها ثلاث مرات فى سنة واحدة.
كانت شارلوت أديبة متفردة فى عصرها جمعت بينها وبين شقيقتيها إيملى وآن العديد من العناصر المشتركة، فتشابهن فى ضعف جسدهن، فى قصر أعمارهن، فى رحيلهن بنفس المرض السل، وفى عبقريتهن الأدبية، فتركن بعد وفاتهن أعمال بقيت، لكلماتها رنين موسيقى، المبدع الروسى بيتر تشايكوفسكى فى عقول الإنسان على مدى الزمان.

السطور الأخيرة
فى الحلقة المقبلة سيكون الحديث عن قصص لنساء شاركن فى الحرب وكن بطلات على جبهة القتال.. سيكون الحديث عن دورثى لورانس وكريستيان كافانا ومارى أندرسون.. عن سيدات سطرن أسماءهن فى صفحات الأدب وأوراق القتال..وستأخذنا أديبة فرنسية من أجواء الحرب إلى آفاق الحياة، أديبة جمعتها ببطلة الحلقة الأولى الأديبة الإنجليزية جورج إليوت نفس الظروف ونفس الاسم المستعار لكنها فرنسية، وهى أمانتين أورو لوسيل دوبين، حيث اتفقت الأديبتان - الإنجليزية والفرنسية - فى العديد من النقاط فكل منهما امرأة جذابة وذكية وعاشت حياة حافلة، وكلتاهما اختارت أن تجعل لنفسها اسم رجل، هو فى الحالتين: جورج. الأولى الإنجليزية جورج إليوت والثانية الفرنسية جورج ساند. ولئن كانت حياة مارى حافلة بالقلق الفكرى، فإن أمانتين عاشت حياة صاخبة، مليئة بالغراميات والقلق والأحزان التى ظهرت كثيرا فى كتاباتها.. لكن لندع ذلك للحلقة المقبلة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.