تتحول النظم التعليمية فى العالم كله الآن تحولا جذريا من النظام القديم (الحالى فى مصر) القائم على تخريج (توريد) مئات الآلاف من الطلاب سنويا من التعليم الفنى ومن الجامعات الحكومية دون التنسيق الجيد مع احتياجات سوق العمل وجهات التشغيل، وهو النظام المعروف بالإنجليزية بالنظام المبنى على التوريد، أى المبنى على تخريج وتوريد الخريجين وفق رؤية وخطط جهات التعليم فقط دون الربط الحقيقى باحتياجات سوق العمل، أقول إن نظم التعليم تحولت وتتحول الآن إلى نظم جديدة مبنية بالكامل على ما تطلبه سوق العمل حاليا، او سوف تطلبه فى السنوات العشر او العشرين المقبلة، وفق دراسات إحصائية متخصصة تجرى للتنبوء بكل ذلك أخذا فى الاعتبار جميع التحديات التى ستفرضها علينا الثورة الصناعية الرابعة، هذا النظام التعليمى يعرف بالإنجليزية انه النظام المبنى على الطلب، أى أنه النظام التعليمى المبنى بالكامل على ما تطلبه سوق العمل من أعداد للخريجين فى كل التخصصات، وفق فرص العمل المتاحة او التى سوف تصبح متاحة فى العقود المقبلة، ووفق ما توفره منظومة معلومات سوق العمل التى بات إنشاؤها فى مصر حتميا للتنبؤ باحتياجات أرباب العمل الحالية والمستقبلية من العمالة أعدادا وتأهيلا وتوقيتا وتخصصات، وذلك من خلال دراسات إحصائية مدققة يقودها الجهاز المركزى للإحصاء وتشارك فيها كل الجهات ذات الصلة، وهى المعلومات التى يلزم توافرها مسبقا لكى تتمكن جهات التعليم من التخطيط لتلبية احتياجات سوق العمل الحالية والمستقبلية. ولم يكن هناك أسلوب أنسب لبناء منظومة المناهج التعليمية لتحقيق ذلك من أسلوب المناهج الدراسية المبنية وفق مرجعية الجدارات المهنية، وهى ليست مجرد مناهج او مقررات دراسية لتخصص ما، وانما هى أسلوب تعليمى متكامل للانتقال من نمط التعليم الى نمط التعلم، ومن أسلوب العرض الى أسلوب الطلب، بل هى أسلوب حديث لبناء منظومات التعليم بالشراكة الكاملة فى كل أجزائها بين جهات التعليم وجهات التوظيف والتشغيل، اذ الأخيرة هى المستفيد، وصاحب المصلحة الأولى فى أن يجد فى الخريجين ضالته الحالية والمستقبلية، إلى جانب مصلحة المجتمع والاقتصاد الوطنى بطبيعة الحال فى سد الفجوة بين مهارات الخريجين وما jطلبه سوق العمل، ومن ثم تقليل معدلات البطالة. هذا يعنى ألا يتم إنشاء أو استمرار أى برنامج تعليمى أو دراسى سواء فى التعليم الفنى أو فى الجامعات دون ان يكون هناك طلب حقيقى حالى او مستقبلى على خريجيه، على ان يكون كل ذلك معروفا سلفا كما وكيفا وتوقيتا وتخصصات، يشمل ذلك كل الخريجين من الجامعات مثل الأطباء والمهندسين والمحامين والمدرسين وكل التخصصات، ويشمل أيضا جميع خريجى التعليم الفنى على اختلاف تخصصاتهم، فان كان اقتصادنا والمؤسسات الحكومية ومؤسسات العمل والخدمات لا تستوعب إلا نصف أعداد الخريجين مثلا، فعلى برامجنا التعليمية وفق ذات الآلية أن تعد النصف الآخر من خريجينا لبدء مشروعاتهم الخاصة، وتدريبهم على ريادة الأعمال لكى يوفروا لأنفسهم فرص عمل حقيقية خارج نطاق المؤسسات الحكومية والعامة وسوق العمل النمطي، على ان تمد لهم الدولة يد العون (وقد بدأت ذلك بالفعل) لتذليل كل العقبات فى سبيل ذلك، سواء كانت تمويلية أو تسويقية أو تدريبية او تهيئة المناخ العام، وان كانت فرص العمل فى المجال الصناعى ستشغلها الآلة والإنسان الآلى فى المستقبل القريب وفق ما تتبناه الثورة الصناعية الرابعة، وهو ما بات يعرف بأتمتة الوظائف او ميكنتها، فعلى نظم التعليم ان تعد الطلاب لوظائف اقتصاد الخدمات، والمجالات الإبداعية الأخرى التى يمتلك الإنسان فيها ملكات إبداعية إنسانية لا يمكن للآلة ان تنافسه فيها، وهو ما بات يعرف بأنسنة الوظائف. الخلاصة أن نظم التعليم فى العالم تتحول هذا التحول الجذرى نحو ربط أعداد الخريجين ومستوى تأهيلهم من مختلف التخصصات سواء من التعليم الفنى او التعليم الجامعى بالاحتياجات الفعلية لسوق العمل الحالية والمستقبلية كما وكيفا وتوقيتا، بما فى ذلك اكتسابهم مهارات ريادة الأعمال لاستيعاب ما يعجز عن استيعابه قطاع سوق العمل النمطى منهم. ومن هنا على الجميع ان يدرك ان ذلك التحول فى النظم التعليمية لم يعد اختيارا، وإنما بات ضرورة استقرار مجتمعى واقتصادى وتنموي، وعلى من بيدهم الأمر العمل على تغيير نظم التعليم الجامعي، وبالذات فى الجامعات الحكومية ونظم التعليم الفنى فى المدارس الحكومية بطول البلاد وعرضها، لكى تصبح مرتبطة ارتباطا حقيقيا كما وكيفا وتوقيتا وتخصصات باحتياجات سوق العمل، وفق منظومة معلومات سوق العمل LMIS التى لابد أن تنشأ لهذا الغرض كما أسلفت، وان يتم هذا التحول الجذرى عن طريق الشراكة الكاملة بين جهات التعليم وبين سوق العمل ومؤسساته فى بناء المناهج الدراسية ذات الصلة لتعكس متطلباتهم الفعلية وفق أسلوب الجدارات المهنية المرجعية، فضلا عن مشاركة سوق العمل ومؤسساته فى تقديم الخدمة التعليمية فى بيئة العمل لكى يكتسب الخريجون المهارات الحقيقية، الجدارة المهنية، لكل التخصصات والمهن فى ارض الواقع وفق المعايير القياسية ذات الصلة، ومن ثم يمكن تنظيم منح وإصدار ترخيص مزاولة المهنة بعد ذلك. إن ذلك الأسلوب هو ثورة نظم التعليم التى تجتاح العالم الآن، وواجب علينا ألا نتأخر فى اللحاق بها لمعالجة الآثار الاجتماعية السلبية للثورة الصناعية الرابعة، وهذا لن يتحقق للأعداد المليونية لخريجينا إلا بتبنى ذلك التحول الجذرى فى أسلوب التعليم فى مدارسنا الحكومية للتعليم الفنى وفى كل جامعاتنا الحكومية اولا وقبل أى مشروع آخر، وليستغرق ذلك ما يستغرقه من وقت، فهذه هى طبيعة تغيير نظم التعليم، وعلينا جميعا تفهم ذلك، لكنه تحول حتمى لابد أن نمضى فيه قدما دون أى تأخير مهما تكن التحديات. لمزيد من مقالات د. أحمد الجيوشى