فيما يتفق كثيرون على اعتباره ضربة البداية للمشروع الأمريكى للسلام فى الشرق الأوسط, صفقة القرن، دعت الولاياتالمتحدة لعقد مؤتمر اقتصادى فى المنامة بالبحرين فى نهاية الشهر القادم لتشجيع الاستثمار فى الأراضى الفلسطينية (الضفة وقطاع غزة) بعنوان: السلام من أجل الرخاء. وبينما أعلنت إسرائيل على الفور موافقتها على المشاركة فى المؤتمر، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية وفى إطار سياستها الرافضة لصفقة القرن منذ البداية أعلنت أنها لم تستشر فى عقد المؤتمر وأنها لن تشارك، وسعت عبر الكثير من التصريحات الصحفية لدفع رجال الأعمال الفلسطينيين نحو عدم الاستجابة للدعوات التى قد توجه لهم لحضور المؤتمر، معتبرة أن من سيشارك فى المؤتمر سيكون بمثابة متعامل مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وهو الموقف الذى تتوافق معه حماس إلى حد بعيد، واعتبره صائب عريقات الموقف الرسمى الفلسطينى ولكل الفلسطينيين، فصائل وشخصيات عامة، فالطرف الفلسطينى فى عمومه ينظر إلى صفقة القرن ومن ثم مؤتمر المنامة باعتباره تصفية للقضية الفلسطينية. واللافت للنظر فى ردود الفعل إزاء المؤتمر والمشاركة فيه أولا أن المؤتمر والدول المشاركة باتت تنظر إلى دعم الشعب الفلسطينى بأكثر مما تنظر إلى القضية الفلسطينية ودعم إقامة الدولة الفلسطينية، فجل التصريحات تؤكد الموقف الداعم للفلسطينيين وتخفيف معاناة الشعب الفلسطينى بينما غابت الدولة الفلسطينية عن مضمون الكثير من التصريحات والمواقف. وثانيا أن المؤتمر بعنوانه السلام من أجل الرخاء هو تعبير واضح عن إعلاء لفكرة السلام الاقتصادى مقابل عدم التركيز على الأبعاد السياسية لعملية التسوية السلمية للصراع الفلسطينى الإسرائيلي. وتعبير الرخاء فى عنوان المؤتمر يعيد صياغة المبدأ الذى صار معتمدا فى الحديث عن طبيعة الحل المقبول للصراع وهو الأرض مقابل السلام، والذى حاول الإسرائيليون فى فترات سابقة إعادة صياغته ليكون الأمن مقابل السلام، وهى الصياغة التى رفضها الفلسطينيون ولم تحز قبولا إقليميا أو حتى دوليا، بينما كان العرب فى المبادرة السعودية التى اعتمدوها فى قمة بيروت 2002 مبادرة عربية للسلام قد جعلوا من السلام مقابلا للتطبيع بين إسرائيل والدول العربية. لقد اعتمدت المبادرة العربية للسلام حلا إقليميا للصراع الفلسطينى الإسرائيلى ولكن فى بعده السياسي، وليس فى بعده الاقتصادى، كما يقترح الرئيس الأمريكى فى مبادرته لحل الصراع المعروفة باسم صفقة القرن. فالسلام فى المبادرة العربية يعنى إعادة الأرض المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية فى حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، أما السلام فى المبادرة الأمريكية فيعنى الرخاء الاقتصادى بصرف النظر عن الأرض، وعن إقامة الدولة الفلسطينية التى ينظر إليها نيتانياهو باعتبارها خطرا مميتا لإسرائيل. فترامب يتصور أن الرخاء الاقتصادى يمكن أن يكون بديلا عن الأرض وعن الدولة الفلسطينية، وهو التصور الذى يعد الدافع الرئيس للرفض الفلسطينى للمبادرة الأمريكية منذ البداية ولاحقا لرفض المشاركة فى مؤتمر المنامة الاقتصادي. وفى الواقع، فإن فكرة السلام الاقتصادى وإحلاله محل السلام السياسى تراود مخيلة الإسرائيليين منذ بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي. إذ كانت البداية مع الطرح الذى تبناه شيمون بيريز فى محاولة لاستلهام التجربة الأوروبية ودور البعد الاقتصادى فيما وصلت إليه بعد مآسى الحرب العالمية الثانية، وهو الطرح الذى كان عنوانه الشرق الأوسط الجديد، إذ كان يرى أن السلام ممكنا من خلال عملية اقتصادية واسعة تشارك فيها دول الإقليم العربية تحقق فائدة متبادلة للاقتصاد الإسرائيلى وللفلسطينيين. ثم عاد نيتانياهو وبلور ذلك الطرح بشكل أكثر وضوحا فى كتابة مكان تحت الشمس مختصرا القضية الفلسطينية فى بعده الإنسانى والاقتصادى من خلال مشروعات اقتصادية تحقق مستوى أفضل لمعيشة الفلسطينيين وتسهيل تواصلهم اقتصاديا مع إسرائيل. والمتابع للسياسة الإسرائيلية خلال العقود الثلاثة الماضية يلحظ بوضوح كيف أن إسرائيل اعتمدت ذلك النهج الاقتصادى مع الدول العربية، سواء تلك التى وقعت معها اتفاقيات سلام، أو تلك التى لم تكن بحاجة لتوقيع مثل هكذا اتفاقيات معها. فإسرائيل تدرك جيدا أن طريق العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية أسهل أو أقل وعورة من طريق العلاقات السياسية، والاثنان أسهل بكثير من طريق العلاقات الثقافية ومحاولة فرض إسرائيل وقبولها لدى الشعوب العربية. وبهذا المعنى، فإن المبادرة الأمريكية تتماهى تماما مع تلك الرؤية الإسرائيلية ورؤية نيتانياهو تحديدا. ومن الواضح أن تلك الرؤية المنطلقة من البعد الاقتصادى تجد فى الظروف الإقليمية والدولية فرصة مواتية كما لم يحدث من قبل لوضعها موضع التنفيذ. وهنا تجدر الإشارة إلى أن حكومة سلام فياض قبل نحو عقد من الزمن كانت قريبة من أفكار السلام الاقتصادي، إذ ركز فياض على ضرورة التنمية الاقتصادية من خلال مشروعات مشتركة كبيرة بدأ بأريحا وجنين هدفها إحداث تنمية اقتصادية فعلية فى الاراضى المحتلة، وتخفيض مستوى البطالة بين الفلسطينيين، وتوفير فرص عمل لهم، بل وهناك من يرى أن تبنى نيتانياهو، لفكرة السلام الاقتصادى قد جاء بناء على تفاهم ما مع سلام فياض، وهو التفاهم الذى ربما انعكس أيضا فى تبنى الولاياتالمتحدة للفكرة منذ عدة سنوات. ففى منتدى دافوس فى عام 2013، أعلن وزير الخارجية الأمريكية جون كيرى خطة للسلام الاقتصادى جاءت مغلفة بدعم الفلسطينيين تعتمد على ضخ استثمارات تقدر بنحو أربعة مليارات دولار، لتعزيز الاقتصاد الفلسطينى وخفض نسبة البطالة بنحو ثلثين، ورفع الرواتب بنسبة 40%.. باختصار فإن فكرة السلام الاقتصادى ليست جديدة أمريكيا أو إسرائيليا أو حتى فلسطينيا حتى وإن جاءت فى طبعة ترامب فى صورة صفقة يخشى أن تكون بداية تغييب البعد السياسى للقضية وتحويلها لمجرد قضية إنسانية/اقتصادية. وتبقى المشكلة الأساسية أمام الفلسطينيين فى ظل تلك الظروف أن الرفض المطلق ليس طريقا سهلا أو مأمون العواقب، دون أن يعنى ذلك أن القبول بما تطرحه المبادرة أمر ميسور هو الآخر، فالفلسطينيون أمام خيارين أحلاهما مر بل شديد المرارة، ولن تجدى معه تلك السياسات التى تتبعها أجيال اعتادت على التمسك أو بالأحرى التذرع بالثوابت حتى لو كان الثمن ضياع الكثير من تلك الثوابت نفسها. لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة