أكتب إليك حكايتى عسى أن يجد فيها قراؤك بعض العبر والدروس التى لا تنتهى فى الحياة، فأنا فتاة فى الثانية والثلاثين من عمرى، نشأت فى أسرة متوسطة لأبوين لم يحصلا إلا على قدر بسيط من التعليم بما يمكنهما من القراءة والكتابة، ويملك كلاهما أرضا زراعية، وأدار أبى أملاك أمى مع أملاكه، ومن عائد الأرض عشنا حياة مادية مستريحة، ولى ثلاث شقيقات، وقد تفوقنا جميعا فى الدراسة، وحصلنا على مؤهلات عليا، وتزوجت شقيقاتى واحدة بعد الأخرى، من شباب عائلات فى نفس مستوانا المادى، وكان هذا هو الشرط الأساسى الذى بدونه لا يوافق أبى على الزواج، إيمانا منه بأن المشكلات الزوجية تنحصر غالبا فى المسائل المالية، وأن الشاب الذى لا يستطيع أن يوفر الإمكانات المادية لزوجته بالقدر الذى كان متاحا لها فى بيت أبيها سيواجه حتما متاعب عديدة، وربما يصل الأمر إلى الانفصال، وكم ردد على مسامعى ذلك، وهو مؤمن بما يراه ويعجز أى واحد عن إثنائه عن موقفه فلديه قناعات خاصة به لا يتزحزح عنها قيد أنملة. على هذا النمط سارت حياتنا، وحصلت على البكالوريوس فى التربية ثم الماجستير، وحققت بعض أحلامى، وذات مرة التقيت شابا فى الجامعة جاء لدراسة دبلوم فى تخصصه بما يساعده على الارتقاء فى عمله بأحد البنوك، وأحسست من اللقاء الأول بارتياح له، فهو يتمتع بوجه بشوش ومريح، وبدت لى طيبته الشديدة، وأخلاقه العالية، ووجدته مختلفا تماما عن غيره من الشباب الذين تعرفت عليهم طوال دراستى الجامعية، وبعد لقاءات عابرة، جاءتنا الفرصة للجلوس مدة أطول، وتحدث كل منا عن نفسه وظروفه وحياته ورؤيته للحياة والمستقبل، ووجدته زوجا مناسبا لى، وتمنيت أن يفاتحنى فى الارتباط بى، وكان المبعث الوحيد لقلقى هو نظرة والدى المادية وأنه يرى دائما أن «البنت الثرية» تكون مطمعا للشباب.. ولم يمض وقت طويل حتى صارحنى فتاى بحبه لى، وبادلته مشاعره النبيلة، ولمست صدقه وإخلاصه، وقررت أن أواجه كل المتاعب والعراقيل، وألا أسمح لأحد بأن يفسد علىّ حياتى، ولم أخبره بموقف أبى العام من هذه المسألة، وعندما ابتسمت له تعبيرا عن موافقتى على الارتباط به، طلب منى أن أحدد موعدا مع أبى، وأمهلت طلبه بعض الوقت لدراسة الأمر مع أسرتى فوافق وهو على يقين من موقفى، وتحدثت مع والدتى، لكنها لم تشر علىّ برأيها إيجابا أو سلبا، تحسبا لموقف أبى، ومع ذلك لمست علامة الرضا عن اختيارى، وحزمت أمرى واستجمعت قواى، وأحطت أبى بتفاصيل علاقتى بهذا الشاب الذى سأرتاح معه فى حياتى الزوجية، وليس مع أحد سواه، فأيدنى فيما ذهبت إليه بشرط واحد هو أن أتحمل مسئولية قرارى وأنه لن يساعدنى بأى أموال، كما ساعد شقيقاتى قائلا: إذا كان هذا الشاب صادقا معك سيعتمد على نفسه فى تدبير أموره، فحمدت الله أنه لم يرفضه، وحددت موعدا له لزيارة أبى، وجاءنا ومعه والده، وقرأنا الفاتحة، ثم أقمنا حفل خطبة بسيطا، وتبعه حفل زفاف بعد ذلك بشهور، ووجدت فى أسرة زوجى مثالا للطيبة والعطاء.. صحيح أنها أسرة بسيطة، ومستواها المادى عادى، لكن كنزها الذى لا يقدر بثمن هو حبيبى الذى ملأ حياتى وأحسست معه بسعادة لم أشعر بها من قبل، ويكفينى أنه اتفق مع محل زهور مجاور لبيتنا على أن يرسل إليه صباح كل يوم وردة لكى يهدينى إياها قبل خروجه إلى البنك الذى يعمل به، وصارت «وردة الصباح» هى الملمح البارز فى حياتى، ويا له من إحساس رائع أن يشعرك نصفك الآخر بحبه لك وأهميتك لديه. وذات يوم كنا فى جلسة ودية صافية، فأفضى إلىّ برغبته فى أن أتفرغ لرعاية الأسرة والأولاد فيما بعد، وبرغم قسوة هذا الطلب على نفسى فإننى رأيت أن أدع الأمور تصرف نفسها، وإذا اقتضت ظروفنا أن أعمل فلن يمانع لأننا «كيان واحد» وروح واحدة فى جسدين، وكنت أردد على مسامعه ذلك منذ اللحظة التى تزوجنا فيها. وتأتى الرياح دائما بما هو قاس وصعب، حيث تعرض زوجى لحادث بترت فيه قدماه، وجاءنى الخبر المشئوم من هاتفه المحمول حيث نقله المارة إلى المستشفى وظل به ثلاثة أسابيع، بينما كانت «وردة الصباح» تأتينى كل يوم فى موعدها من محل الزهور حاملة إسم «حبيبى» فانخرطت فى بكاء مرير، ليس حزنا على ما فعلته بنا الأقدار، فهى أمور يعلمها الله، وإنما شفقة على حال زوجى، الذى ازددت حبا له، وقررت ألا أتخلى عنه وأن أبذل كل ما فى وسعى لانتشاله من حالة الكآبة التى سيطرت عليه، وحصلت على عقد عمل بمبلغ كبير كما حصل هو الآخر على مبلغ من البنك لمساعدته فى تكاليف العلاج، واشترينا له كرسيا كهربائيا لكى يتحرك به إلى عمله، ثم لجأنا إلى الأجهزة التعويضية، والآن بدأ فى التعافى النفسى، وارتفعت روحه المعنوية، ونستعيد سعادتنا شيئا فشيئا، وقد حملت فى طفلى الأول، ومازالت «وردة الصباح» تأتينى فى موعدها، وهى أغلى عندى من كل كنوز الدنيا.. فيا أيها الآباء والأمهات لا تغركم الماديات، فهى إلى زوال وتجربتى فى الحياة أكبر درس وأعظم عبرة، ولك منى التحية والسلام.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول: إن الحب الكبير الذى جمعك بزوجك، والروح المعنوية العالية، والسعادة الزوجية التى ظللت حياتكما برغم المتاعب والأوجاع الجسدية، ما كانت لتتحقق لو أنكما ارتبطتما على أساس مادى، وفقا للسائد عند الكثيرين، ومنهم أبوك الذى لم يتحرك لمساعدتك فى الظروف التى ألمت بك، ولن يتعلم الدرس إلا بعد أن يتعرض لما يزلزل كيانه، ويدرك أن أموال الدنيا كلها لا تساوى لحظة أمان وطمأنينة. وأحسب أن زوجك يدرك ذلك تماما، فبرغم الألم الذى يعانيه، والظروف الصعبة التى أصبح عليها، مازال كما هو هادئا مطمئنا، ويحاول أن يتجاوز هذه المحنة، وسوف يجتازها، بحسن ظنه بالله، فالله حكيم، وفعل الحكيم كله حِكَمٌ وأسرار، وربما يدرك الإنسان بعضها ويخفى عليه البعض الآخر، ومن حلَّ بساحته البلاء فرضى بالقضاء، وصبر على البلاء، وأحسن الظن بالله، وأسلم أمره إليه، فإنه يفوز بإحدى الحسنيين، إما أن ينال مطلوبه ويتحقق مراده بكشف البلوى، وإما أن ينال الأجر والإحسان فى الآخرة» «وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى» [الأعلى: 17]، «وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» [النحل: 41]، ومن يدرى؟ فكم من فوائد تكمن فى الشدائد، قال الله تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَل اللهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيْرًا) [النساء: 19]، وقال تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوْا شَيئًا وَهْوَ خَيْرٌ لَكُم» [البقرة: 216] ولا يعنى ذلك أن يستسلم المرء إذا أصابه مرض، فيدع الدواء والتداوى، وإذا اعتدى معتدٍ على نفسه أو ولده أو ماله أو أهله أو على أية حرمة من حرماته يرضى ويصبر ويستسلم فلا يخاصمه ويدافعه بكل ما فى الإمكان من وسائل الدفاع المشروعة، وإنما عليه أن يصبر، فالصبر الإيمانى قوة صامتة تمكِّنه من التحكم فى نفسه والسيطرة على نوازع الهوى ومغريات الدنيا.. إنه سمو بمشاعر النفس؛ لترتبط بتوجيه الله تعالى وتستجيب لأمره، وطاقة إيمانية تُخَلِّصُه من دوافع الانتقام والانكباب وراء الصيت والشهرة، ولنا خير أسوة وأفضل قدوة فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان لا يغضب لنفسه قط، وإنما كان يغضب إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، وقد يكون الصبر طاقة فى التحمل، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ»، وطاقة لنيل العلا وتحقيق الطموحات، حيث يقول الله تعالى: «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 32)، ومن هنا يظهر لنا أن الصبر فضيلة لا يتأتى لضعفاء النفوس إدراكها؛ لأنهم ملكتهم أنفسهم، وسيطرت عليهم أهواؤهم، فأصبحت تصرفاتهم ردود فعل حمقاء ليس لها ضابط إلا إرضاء نفوسهم وغرورهم، أما المؤمنون الصادقون فإنهم يثبتون أمام المحن والكوارث دون سخط أو ضجر. ويا له من درس عظيم، يجب أن نتعلم عبرا وعظات كثيرة، ومنها التعامل مع بعضهما، بتقدير ظروف الآخر، والمعاملة الطيبة, وليعلم كل منهما أنه من الصعب أن يجتمع فى قلبِ شخص واحد حبُّه لآخر وصبرٌ على أذى هذا الآخر له، فواصلى مشوارك مع زوجك، بنفس الإقبال والحب، وأرجو أن يخرج مولودكما الأول إلى الدنيا، وقد اكتملت لكما أركان السعادة، فى البيت والعمل والحياة، وأجدنى هنا أردد قول الله عز وجل فى حديثه القدسى: عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله : يقول تعالى: «أنا عند ظن عبدى بى ، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسي، وإن ذكرنى فى ملإ ذكرته فى ملإ خير منه، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتانى يمشى أتيته هرولة» (رواه البخارى ومسلم) وكلما كان العبد حسن الظن بالله، حسن الرجاء فيما عنده، فإن الله لا يخيب أمله ولا يضيع عمله، فإذا دعا الله عز وجل ظن أنه سيجيب دعاءه، وإذا أذنب وتاب واستغفر ظن أن الله سيقبل توبته ويقيل عثرته ويغفر ذنبه، وإذا عمل صالحاً ظن أن الله سيقبل عمله ويجازيه عليه أحسن الجزاء.. كل ذلك من إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام» : «ادعوا الله تعالى وأنتم موقنون بالإجابة»، وهكذا يظل العبد متعلقا بجميل الظن بربه، وحسن الرجاء فيما عنده، كما قالوا قديما. وإنى لأدعو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن ما الله صانع وعلى الإنسان أن يكون قريبا من ربه، «وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون» (البقرة: 186)، فعليكما بالدعاء والأخذ بالأسباب، وسوف تنقشع هذه الظلمة عنكم، وليت أباك يدرك أن الوردة التى يهديها لك زوجك كل صباح أهم وأغلى وأفضل من أمواله، وكنوز الدنيا كلها، وفقكما الله وكتب لكما السعادة والاطمئنان، وهو وحده المستعان.