تجمعنى ببريدك الشهير صداقة طويلة، فلقد جذبتنى روايات أبطاله منذ أن وعيت الحياة، وأدركت العالم من حولى، وكم فكرت فى كتابة حكايتنا إليك، لكنى فى كل مرة أتراجع، أحيانا لضيق الوقت، وأحيانا أخرى لأنى لا أرى فيما سأرويه سوى أنه الواجب الذى يتحتم على كل شخص أن يقدمه للآخرين، فما بالنا لو أن هذا الشخص هو أعز الناس، وأخيرا حسمت أمرى بالكتابة عن أبى، فهو بطل بكل المقاييس، وإنسان لا يعرف اليأس، واجه ظروفا شديدة القسوة، ومع ذلك لم يعرف الضيق طريقا إليه، وعاش راضيا بما قسمه الله له، وما أكثر التفاصيل والمواقف التى شهدتها حياتنا، ولكن سأذكر لك الخطوط العريضة لقصة أبى وأمى مع الحياة، فأنا سيدة فى الثلاثين من عمرى، وأنتمى إلى أسرة بإحدى مدن الأقاليم، وقد تلقى أبى تعليما متوسطا، وعمل بإحدى الشركات الحكومية، وأرادت أسرته أن تزوجه، وكان عمره وقتها ثمانية عشر عاما، ووقع الاختيار على أمى، وهى من قرية مجاورة لمدينتنا، وتصغره بعامين، وتزوجا وسط فرحة الأسرتين، ومرت سنواتهما الأولى معا هادئة مستقرة لا يعكّر صفوها شىء، فأبى هادئ بطبعه، وأمى «معجونة بالحنان»، إن صح التعبير، وكوّنا معا نموذجا كان ومازال مضرب الأمثال فى منطقتنا، وقد أنجبانا نحن ثلاث بنات، فأنا الكبرى، وتلينى شقيقتان أخريان خلال ثمانى سنوات، وفى سن السادسة والعشرين، عرف المرض طريقه إلى أبى، فكان يتعب من أقل مجهود، ويسقط على الأرض فجأة، ويحمله زملاؤه إلى البيت، ويطلبون من رئيسهم منحه إجازة عدة أيام حتى يستعيد حيويته، فيستجب الرجل، ويربت على كتفه قائلا له: «خلى بالك من نفسك»، ثم حوّله إلى المستشفى، وفيه خضع أبى لكل الفحوص الطبية، فأكدت جميعها أنه مصاب بضمور فى العضلات، وتلقى علاجا مكثفا، وللأسف لم تتحسن حالته، وبمرور الأيام صار قعيدا، لا يستطيع التحرك من مكانه، ولا يقدر على رفع يديه، وتحمّل هذه المتاعب بحالة من الرضا يتعجب المرء لها، أما أمى فهى «بطلة البطلات»، إذ لم تهرب من مسئوليتها كما تفعل الكثيرات، أو تتمنى الموت لأبى، كما تريد أخريات من باب أنه راحة له ولمن حوله، وإنما كرسّت كل وقتها لرعايته، ولم تقصّر فى طلباتنا، ووفرت لنا حياة مستقرة بمعاش أبى الذى تقرر له، بعد إصابته بعجز كلى. وجهّزت أمى لأبى «قعدة خاصة» بجوار النافذة، وأمامه التلفزيون، وإلى جواره الكرسى المتحرك لحمله عليه عندما يريد الانتقال من مكان لآخر، أو الذهاب إلى الحمام، وعندما أنظر إليه أجد أن وجهه يزداد جمالا، وأن الرضا والاطمئنان يزينان تقاسيمه، فأتعجب لصلابته، وأسأل الله فى نفسى: يا إلهى ماذا صنعت بأبى، ليكون على هذا المستوى من القناعة والهدوء والصبر؟، ثم أستغفره عزّ وجل وأجيب على نفسى، إنها إرادة الله لمن تحمّل، وصبر، ولم يعرف اليأس طريقا إليه، وهو دائما فى معيته سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات، وذكر الله فى السر والعلن، ومضت حياتنا برغم ظروف أبى الصحية وتخرجنا جميعا فى الجامعة، وتزوّجنا واحدة بعد الأخرى بشباب ممتازين، وهذا من فضل الله علينا، وبدلا من أن يكون لأبى وأمى، ثلاث بنات فقط، أصبح لهما أيضا ثلاثة أولاد، وكبرت الأسرة، فصارت عائلة، ونحن نقطن فى بيوت بنفس المدينة، ونزورهما يوميا، وذات يوم جمعتنا جلسة عائلية، فإذا بأبى يقول لنا: «نفسى أعمل عمرة»، وأسقط فى أيدينا كيف سيسافر وهو بهذه الحال؟، وإذا رافقته أمى هل ستستطيع أداء هذه المهمة، ومن أين لهما بالتكلفة، فإذا بزوجى يتحمس للفكرة، ويعلن أنه سيبدأ فى اتخاذ الإجراءات اللازمة، وسط ذهول الحاضرين، فانهالت عليه دعوات والدينا، واغرورقت عيناى بالدموع من هذا المشهد، وفى اليوم التالى، اصطحبهما زوجى إلى أكثر من جهة، واستخرج لهما جوازى سفر، وخلال أسبوعين تقريبا أديا العمرة، وبعد عودتهما رويا لنا الأيام الجميلة التى قضياها فى بيت الله الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعنا إليهما بإنصات بالغ، وصورهما الرائعة تتابع أمام أعيننا.. يا الله إننا لا نصدق أنفسنا أن أبانا سافر إلى الأراضى المقدسة، وحقق أمنيته، وأن أمنا تمكّنت من أداء مهمتها فى هذه الرحلة بنجاح، كما هى ناجحة فى مشوارها معه بالحياة. لقد زادتنا سعادتهما بهجة وسعادة، بل إن زوجى قال لى: والابتسامة تكسو وجهه: «ده أسعد يوم فى حياتى»، فعاودتنى دموع الفرحة التى تنساب رغما عنى، ولم يدر بخلدى الهزة العنيفة التى سوف نتعرّض لها بعد أيام، فلقد سقطت والدتى على الأرض مغشيا عليها، وكنت موجودة معها، واتصلت بزوجى، فجاء مسرعا، ونقلناها إلى المستشفى، وشاء الله أن ترحل عن الحياة، وهى فى كامل صحتها.. ولك أن تتخيل وقع الصدمة ليس علينا نحن بناتها فقط، وإنما أيضا على أبى الذى يرقد فى الفراش منذ أكثر من ربع قرن، إذ توقعنا رحيله عن الحياة أكثر من مرة، بل إننا كنا نتصل مرات عديدة فى اليوم الواحد للاطمئنان عليه، فإذا بوالدتنا هى التى تفارق الدنيا.. لقد لقيت وجه ربها راضية مرضية، بما قدمته لأبى وصبرها على مرضه، ورعايتها له ليل نهار، أما هو فلم يعد يتحدث معنا بنفس الإقبال على الحياة كما هى عادته، ولكن علامة الرضا لم تفارقه، وأصررنا جميعا على نقل معيشتنا إلى بيت أبينا، وانتهى الأمر إلى أن أكون أنا وزوجى وابنى الرضيع بصحبته، ومازال تجمُعنا حوله لقاء يوميا، ولكن تنقصه أمنا رحمها الله، وأرجو الدعاء لها بالرحمة، ولأبى بالصبر والشفاء، ولك منى التحية والسلام. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: نعلم جميعا أن الأمور كلها بيد الله عز وجل ومشيئته، ولكن هذا اليقين قد يضعُف عند وقوع البلايا والمحن، فإذا علم الإنسان أن الجزاء يعظُم بقدر حجم البلاء، وأن ذلك علامة على حب الله تعالى له، لن يتزعزع يقينه أبدا، فالبلاء السهل له أجر يسير، والبلاء الشديد له أجر كبير، كما أن نزول المصائب والبلايا بالإنسان دليل على حب الله له، فإذا رضى وصبر واحتسب، فله الرضا، ويقول الله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب» (الزمر: 10)، ويقول الشاعر: والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل فإذا علم العبد أن المرض أو البلاء سيكون سببا فى رفعة درجته وزيادة ثوابه، هان عليه ما يجده من مشقة وعناء وألم، وصار راضيا بقضاء الله تعالى وقدره، محتسبا أجره عنده عز وجل، وهذا هو ما أيقنه والدك، فعاش آمنا مطمئنا، تكسو وجهه علامة الرضا التى لم تفارقه حتى الآن، برغم المصاعب الجمة التى تعرّض لها، والمصيبة الكبرى بفقده زوجته التى نحتسبها عند الله فى جنات النعيم بعطائها الكبير وصبرها على مرض أبيك، منذ أن كان فى ريعان الشباب. وأذكر هنا قول الحسن البصرى رحمه الله : «لا تكرهوا البلايا الواقعة والنقمات الحادثة، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطبك» أى: هلاكك، وقال الفضل بن سهل»:إن فى العلل نعَماً ينبغى للعاقل ألا يجهلها، فهى تمحيص للذنوب، وتعرّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وتذكير بالنعمة فى حال الصحة، ويستوقفنى كثيرا حديث رسول الله: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) «رواه مسلم). والحق أن والدتك رحمها الله قد وهبها الله العقل والحكمة، فأيقنت أن هذه الدنيا مهما أسرّتنا فلابد أن تحزنا، ومهما أسعدتنا فلابد أن تشجينا، وأنه لا سعادة تامة إلا بلقاء الله تعالى فى جنته، فهناك تكمل الفرحة، وتتم البهجة، ولذلك صبرت على مرض أبيك، وأيقنت أن مرضه نوع من البلاء، وأنها بصبرها عليه، تشاركه فى الأجر، ولها نصيب طيب منه يقدره الله بحكمته ورحمته، فالمرض ليس اختيارا، أى ان الشخص المصاب لم يختر بإرادته أن يكون مريضا، وبذلك لا يكون مدعاة لترك شريك الحياة، وإذا تخلى أحد الزوجين عن الآخر المريض، فإن ذلك يزيد ألمه وحزنه ومعاناته بلا شك، فليسأل المعافى منهما نفسه: أما كان يمكن أن أكون أنا المبتلى بهذا البلاء؟ أفكنت أرضى أن يتركنى شريك عمرى؟.. كل ذلك أدركته أمك برجاحة عقلها، وعاشت حياة مطمئنة، فلقيت وجه ربها راضية مرضية، فالطمأنينة إلى الله حقيقة، ترد منه على قلب عبده، فتجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه؛ فتسرى فى نفسه، وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالله وبذكره: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد 28). وما أكثر دروس رسول الله عن الصبر، فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِي.. قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي! فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رسول الله، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى». إن «علامة الرضا» التى لا تفارق وجه أبيك، تؤكد أنه رجل يسبح فى القضاء والقدر، أينما ينزل به القضاء والقدر، فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة أو أصيب بضدها، فالكل عنده سواء، لا لأن قلبه ميت، بل لتمام رضاه، فهو ينظر إلى المصائب والابتلاءات باعتبارها قضاء لربه، وهذا الفرق بين الرضا والصبر، بل إن أباك بلغ مرحلة الشكر، وهو أعلى المراتب، فلسان حاله يقول: أنه شكر الله على ما أصابه من مصيبة، وصار من عباد الله الشاكرين، من منطلق أن مصائب الدنيا عنده أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، فشكر الله على ذلك، وقد قال رسول الله: «ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها، حتى الشوكة يشاكها» (رواه البخارى ومسلم). إن كل إنسانٍ يحب ويريد طريق الله إلا ويَسر سبحانه وتعالى له ذلك وأعانه، فتنزع من قلبه الغموم والشوائب وتطهُر روحه ويسمو ويرقى فكره ويتغلب على الشكوك والأفكار الهدامة فالله سبحانه يعين العبد الذى يبغى التقرب منه فيوما بعد يوم يرفع درجاته ويريح نفسيته ويمُنُ عليه بالصحة والبركة والرزق والعزة، فعليكم برعاية والدك، وأسأل الله له الشفاء، ولوالدتك الرحمة والجنة، وشكرا لرسالتك القيمة بكل ما فيها من دروس وعبر، والله المستعان.