نسمع كثيرا عن بعض الآراء والدعوات التى تطالب بما يسمى الاستثمار الثقافى وهذه الدعوات تحاول أن تسقط عن مؤسسات الدولة مسئولياتها الثقافية تجاه الملايين من أبناء الشعب وأمام المبالغة الشديدة فى هذا الطرح انسحبت مؤسسات الدولة من الأنشطة الثقافية التى تمثل خدمة ضرورية لا يمكن إهمالها أو التغاضى عنها.. إن صحوة مصر الثقافية فى الستينيات قامت بها مؤسسات الدولة من خلال وزير صنع تاريخا هو ثروت عكاشة ابتداء بإنشاء أكاديمية الفنون وانتهاء بالمهرجانات والمناسبات الثقافية والمجالس والمؤسسات التى وضعت الثقافة ضمن الاهتمامات الأساسية للدولة.. لم يكن من أخطاء الدولة أن تبيع المكتبة الثقافية بأسعار رمزية فى عهد يوسف السباعى أو عبد القادر حاتم, وكانت هناك سلاسل كاملة تباع ببضع قروش وكانت مؤسسة برئاسة نجيب محفوظ تقوم بتمويل إنتاج عشرات الأفلام سنويا وكانت هناك أعياد للعلم والثقافة وجوائز مالية تدفعها الدولة ولم تطلب من المواطنين التبرع لكل هذه الأنشطة لأنها كانت تشعر أن الثقافة جزء أصيل من مسئوليات الدولة فى كل المجالات.. وحين أنشأ طلعت حرب استوديو مصر والمسرح القومى لم يكن ذلك استثمارا ماليا ولكنه كان استثمارا حضاريا بشريا لأن بناء العقول أهم من بناء الجدران.. إن الدعوة لإسقاط دور الدولة فى العمل الثقافى بحيث يترك كل شيء لأعمال استثمارية وأنشطة غريبة دعوة مغرضة ولنا أن نتصور ما حدث الآن فى الاستثمار السينمائى وعشرات الأفلام الهابطة التى أفسدت السينما المصرية ومازلنا نواجه هذا الإنتاج الرديء فى المسلسلات حيث العنف والقتل والإرهاب .. إن الأخطر من ذلك هو المستوى الذى نشاهده على الشاشات فى الإعلام المصرى وكلها مشروعات استثمارية لا تملك الدولة أمامها اى شيء على الإطلاق والأخطر من ذلك كان بيع أصول أفلام السينما المصرية تحت دعاوى الاستثمار.. أنا لا أجد تجربة ثقافية واحدة كانت استثمارا هادفا وناجحا وصاحب رسالة ابتداء بما أفرزته سينما رأس المال والمقاولات وانتهاء بما يقدم على الشاشات من مسلسلات من استثمار فاشل ورديء.. إن تحويل قضية الثقافة فى مصر إلى قضية استثمارية تسعى لفتح الأبواب أمام الاستثمارات الخاصة دعوة مريبة فقد جربنا الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال وكان من بينها هذا التداخل فى النشاط الثقافى والاستثمار الخاص، أتصور أن يقيم مستثمر دارا للسينما أو مسرحا خاصا أو مكتبة أو دار نشر، أما أن يختلط ترميم الآثار مثلا مع أعمال المقاولات أو يدخل مجال الإنتاج السينمائى أشخاص لم يشاهدوا فيلما أو أن تسند مهمة الأفلام الأجنبية للمقاولين وتجار الخردة فهذا ليس استثمارا.. انه هروب من المسئولية.. إن انسحاب الدولة بكل مؤسساتها من الإنتاج الثقافى جريمة كبري.. إن إستثمارات أفلام المقاولات والعنف لم تنتج فيلما عن حرب أكتوبر أو فيلما مثل صلاح الدين أو سلسلة الأفلام الراقية التى زينت تاريخ السينما المصرية.. إن المال الخاص لن يقدم صوتا جميلا وسط هذا الركام الذى أفسد أذواق الملايين من هذا الشعب.. أنا لا أرفض الاستثمار فى أى مجال من المجالات ولكن إذا جاءنى مستثمر يريد بناء مسرح أو ناد ثقافى أو مكتبة أو دار نشر فهذه مجالات مفتوحة ولا اعتراض عليها، ولكن هذه النماذج لا تأتى ولا تفكر فى مثل هذه المشروعات أو الخدمات الثقافية وإذا جاءت فأهلا بها.. هناك تجارب نجحت فى الاستثمار الثقافى ولكنها محدودة وتحتاج إلى الدعم والترشيد والمتابعة.. إن معظم الإنتاج السينمائى الآن إنتاج خاص، ولكنه استثمار ضائع لأنه يقدم فنا رديئا ومعظم ما نسمع الآن من الغناء ليس استثمارا راقيا والأخطر من ذلك كله أن الدولة أهملت تماما مراكزها الثقافية ومنها قصور الثقافة وهى بالمئات والمكتبات ودور النشر بل أهملت صحافتها وهى من أهم مصادر الثقافة فى مصر منذ عشرات السنين..كانت حفلات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم تقام تحت رعاية الدولة وتقدم فنا راقيا.. هناك أموال كثيرة مشبوهة عبثت فى سوق الفن فى مصر وكانت مهمتها الأساسية إفساد أذواق الناس وكلنا يعلم هذه القصص.. هناك نقطة أخرى لا أريد أن أتعرض لها وأن كانت من الدعائم الأساسية للثقافة وهى التعليم، وأن اختلاط التوجهات واللغات والمناهج ونوعية التعليم لم تفسد أحوال التعليم وحده ولكنها أفسدت الثقافة مع التعليم وأصبح المواطن ضائعا ما بين فيلم هابط.. ومسلسل ردئ ومنهج تعليمى مرتبك والسبب فى ذلك كله أن الذى أنتج الفيلم لا علاقة له بالفن، وأن الذى دفع أمواله فى المسلسل كان يبحث عن الربح وليس القيمة وأن الذى أقام المدرسة لم يعرف شيئا فى الفن والتعليم والثقافة وكانت هناك بيوت للنشر أفلست لأنها لا تجد دعما من احد.. إن عودة مثل هذه الرموز هو أول شروط الاستثمار الحقيقي، أما الخلط بين الثقافة والمقاولات وترميم الآثار وربما البحث عنها فهذه كلها معادلات خاطئة.. إن البعض للأسف الشديد يخلط بين السياحة والثقافة.. إن السياحة وجه نقدمه للغرباء أو حتى المقيمين وتحكمه حسابات مالية فى الترويج والمناخ والظروف ولكن الثقافة مسئولية وطن وحكومة ودولة.. إن السياحة تفتح الطريق أمام السائح ولكن الثقافة تفتح المعرفة أمام أبنائها.. إن الكشف عن جثث الموتى فى المقابر ليس دور الثقافة، ولكنه دور السياحة التى تبحث عن مصادر المال والانتشار والوفود من هنا يكون من الخطأ أن نخلط الثقافة بالسياحة وحين تم دمج الثقافة مع الآثار فى وزارة واحدة كان هذا من الأخطاء الجسيمة فقد تصور البعض أن الاستثمار الثقافى ليس بعيدا عن بيع الآثار أو تهريبها رغم أن الثقافة لا تباع ولا تهرب.. إذا كانت السياحة تبيع كل شيء وأى شيء فإن الثقافة غير قابلة للبيع والشراء إنها تضئ من بعيد وتنير العقول قبل الشوارع.. أعود من حيث بدأت أن كلمة الاستثمار لا ينبغى أن تطلق على كل شيء لأن أخطرها يسميه البعض الاستثمار الثقافي، إن هذا النوع من الأنشطة هو الذى جعل الدولة تفرط فى مسئوليات كبيرة خسرت فيها الثقافة المصرية أسواقها الحقيقية وهى عقول البشر، وليس المقاهى وجلسات النميمة ودفاتر الشيكات وتجارة الآثار.. نحن فى حاجة إلى مقاول يبنى العمارات ويرمى الأساسات ويتاجر فى العقارات، ولكننا أيضا فى حاجة إلى فنان مبدع .. وكاتب قدير .. وشاعر مرهف.. وموسيقى حقيقى .. نحن فى حاجة إلى فيلم جميل مع دار سينما نظيفة وفى حاجة إلى كتاب رخيص لن يوفره الناشر الخاص إلا بدعم من الدولة نحن فى حاجة إلى من ينقذ أجيالنا الجديدة من خفافيش التطرف والإرهاب وليس من يلقى بها إلى عشوائيات الفكر والضلال.. أنا لا أتصور أن مصر الثقافة التى قام كل تاريخها على تميز وتفوق العقل المصرى يمكن أن تتحول إلى حقل تجارب لأفلام المقاولات والغناء الرديء والزواج الباطل بين الثقافة والمال أو بين الأحجار والبشر.. الخلاصة عندى لو جاءنى مستثمر لإنشاء مشروع ثقافى وهذا لن يحدث أهلا به لأنه سيفضل أن ينشئ ناديا رياضيا أو فرقة رقص فى احد الملاهي.. لابد ان تعود الدولة لا أقول مسيطرا على أسواق الثقافة ولكن على الأقل شريكا فعالا.. ماذا أخذنا من غياب الكتاب تماما عن اهتمامات المواطن المصري.. وقبل هذا كله ما الذى استفدناه من حالات الاستثمار الضئيلة التى وصلنا إليها .. إن معظم المشروعات الثقافية الضخمة كانت بين دولتين ومنها دار الأوبرا أو المتحف الكبير وكلاهما مع اليابان.. هل وجدنا مشروعا ثقافيا كبيرا لحساب مستثمر كبير،.. هناك مهرجانات ترفيهية تنفق عليها الملايين وليست أكثر من فرجة على الشاشات؟ إن أخشى ما أخشاه أن تكون دعوات الاستثمار الثقافى لبيع بعض الأصول ومنها قصور الثقافة أو المسارح فى الأقاليم أو المراكز الثقافية بحيث يكون الهدف جمع الأموال وتحويل كل هذه المنشآت إلى بوتيكات كما حدث فى سور الأزبكية منذ سنوات حين تحولت المكتبات إلى محال لبيع الأحذية.. إن المؤكد أن ثقافة مصر من أهم وأقدم واعرق دعائم هذا الوطن ونحن مع كل شيء وأى شيء يضيف لهذا البنيان بالفكر والمال والإبداع، أما أن نفتح أبوابا جديدة لاستثمار ثقافى جربناه وفتحنا أمامه كل السبل وجنينا ما جنينا.. إن مصر دولة ثقافة ومثل هذه الدول لا تفرط أبدا فى إبداعها ومكانتها وتاريخها من أجل زواج باطل جربناه وفشل.. انا لست ضد الاستثمار ولكن هناك أشياء ينبغى أن تبقى لها كل وسائل الحماية إذا جاءنى مستثمر جاد يريد مشروعا ثقافيا حقيقيا يخدم ثقافة مصر أهلا به أما أن تتداخل الثقافة فى المقاولات وتربية الدواجن وتهريب الآثار وترميمها بالاسمنت وإفساد عقول وأذواق الناس كما حدث فى عهود سابقة فهذا ليس استثمارا وهذه ليست ثقافة.. وقبل هذا كله لابد أن ندرك أن ثقافة الشعب خدمة مقدسة وليست تجارة أو استثمارا عابرا.