فى براح مصاحبة مِداد الحرف، يكتسب الأخير قدراتٍ خاصة تؤهله لتجاوز أطر الواقع، والانطلاق نحو عوالمٍ حاضرة رغم عدم تَجسدها، ويُقَرِرُ مِدادُ اليومِ أنْ يُدوِّن تجربه (إبْلِسْ)، وهو شيطان يافع عُمّرًا ومُتَّقِد نشاطًا، وطامح لأنْ يحقق فى عالم الأبلسة، مَا لَمْ يَسْبِقه إليه أى من بنى قومه، ليسطر اسمه بأحرفٍ من نار على صفحات الغواية. إنه عام (إبْلِسْ) الأول فى طور التكليف، فلأول مرة مع ميلاد هلال رمضان، يُصبح عليه أن يُسْلِم نفسه طواعية للأصفاد، كثيرًا ما كان ينتظر هذه اللحظة التى يقف فيها فى طابور الكبار، لقد آن للعالم أن يَحسب لوجوده كلَ حِساب، وأن يحاول التحصن من شره المستطير. يُعتبر التمرد هو السمة الأساسية لطبيعة المرحلة العمرية التى يمر بها الشيطان المُقبل على اليفوع، ورغم فرحته التى لا تضاهيها فرحه باعتراف المجتمع الشيطانى به كعضو بالغ فاعل مُؤَهَّل للسجن فى رمضان اتقاءً لشره، إلا أنْ (إبْلِسْ) بمجرد وقوفه فى طابور الأصفاد، راحت تطرق باب وَعيِّه فكرة الهروب، وبمرور الأيام الرمضانية، استطاع الملل أن يُحَوِّلَ طّرق الفكرة إلى جرس ذاتى القرعْ مستمر بلا انقطاع، يُداهم الشيطان اليافع فى صحوه ونومه وحتى فى أوقات التريض، فشلت تمامًا محاولاته لإنفاق أوقات النهار فى تطوير ذاته وقدراته، عبر مطالعة أحدث إصدارات (الهيئة الإبليسية للوسوسة)، أو بمتابعة وسائل التواصل الشيطانى المجتمعية الإلكترونية حيث الحسابات النشيطة لكبار نجوم الشيطنة، كان (إبلس) يؤمن بأنه إذا أتيحت له الفرصة فسيكون الأفضل فى تاريخ الغواية، وسيحقق من الإنجازات ما يؤهله لدخول الموسوعة، وما يحوله إلى درس أساسى فى مناهج التعليم الإلزامى الشيطاني. بانتهاء الأيام العشر الأول من رمضان، كان (إبلس) قد بلغ حد الضجر بكل محاولات إلهاء ذاته لتقبل بقائه بالسجن، وصار الهرب فكرة مُسيطرة تمامًا على كل فكرِه، وراح يُعِدُ له العدَّة اللازمة، بعدما قرر أن يُعيد كتابة واقع بنى إبليس، ويفرض قوانين جديدة تناسب تطور الوجود الشيطانى فى القرن الحادى والعشرين، وتتجاوز القواعد الكلاسيكية القديمة لعلاقة الأبالسه برمضان، سيكون الشيطان الشاب رمزًا للثورة وأيقونة للتغيير ومفجرًا للبعث الشيطانى فى ألفية ثالثة. وبغير الخوض فى تفاصيل الهروب شديدة التعقيد والسرية، استطاع (إبْلِسْ) أن يُفلت من أصفاد رمضان، وأن يتجاوز أسوار أسْرِه، ليخرج إلى عالم الإنس، سيتحرك مُنفَرِدًا بين مليارات الآذان والأفئدة، وستسرى وسوساته حصريًا على كل موجات البث، وعبر كل شبكات التواصل، وهكذا يمكنه ببساطة أن يُحقق رقمًا قياسيًا لمعدلات الغواية فى الثانية، أو لإشاعة الكُرهْ والخلاف فى كل الأوساط، أو لاتساع رقعات الجرائم المنظمة والفردية بكل أشكالها، وربما يمكنه الانفراد بساحة الوسوسة من تطويرها لتصبح (بيزينس)!. لقد أنفق (إبلس) عشرة أيامٍ من شهر رمضان وهو يُعد العدة لإحداث نقلة حضارية فى العوالم الشيطانية من شأنها أن تعيد رسم موازين القوى بين بنى إبليس وبنى آدم، ليُسيطر الأبالسة ويعود نجمهم رائدًا قائدًا لكل الشرور، وليسود قانونهم حربًا ودمًا وخرابا. قبلَ أن يهرب (إبلس) من سجن رمضان، استطاع أن يراجع ما دونته القرائح الشيطانية عن طبيعة التغييرات التى تطرأ على الشخصية فى رمضان، والآثار السامية التى يُخلفها الصيام على الروح بما ينعكس على البدن والجوارح، فضًلا عن توحد الأمة باختلاف الأجناس والجنسيات واللغات، كان (إبلس) يذاكر الواقع بحثًا عن ثغرات منها سيبدأ العمل بعد الهروب. فى نهاية يومٍ هروبٍ طويل، كان (إبلس) يركض بكل ما أوتى من قوة صوب السجن الذى منه هرب، كانت طرقاته الفَزِعة تضرب بابه، بينما صوت صراخه يدوى فى الأرجاء، (إلحقونى .. إسجنونى .. قيدونى ... انا مش عارف إيه اللى طلعنى من السجن)!. بعد عودة (إبلس) إلى سجنه الرمضانى أغلق عليه زنزانته، وفى لقائه بأهله وأصدقائه قال طبيب السجن بأسى (للأسف بطبيعة سنه كان عايش عصر الشيطنة المِثالي، وهرب من السجن حاملا معه أحلامه المثالية، لكن ما عاينه من شرور البشر أصابته بصدمة عصبية عنيفة، محتاجة شوية وقت علشان يقدر يتجاوزها إذا لم يفكر فى الانتحار، وأنا كتبت له مهدئات لتساعده على التفكير بهدوء)، فى هذه الأثناء كان (إبلس) يقرأ عن الثقوب الزمنية وفرص السفر عبرها للهروب من هذه المجرة. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى