والترك. هذه هى الأعراق الثلاثة التى تشكلت منها المادة الخام للإسلام والمسلمين والحضارة الإسلامية طوال قرونها الأولي. دخل كثيرون إلى الإٍسلام فى قرونه التالية، فكان هناك بنجاليون وبلوش ومالاويون وجاويون وزنوج؛ لكن ظلت الأعراق الثلاثة الأولى تتمتع بمكانة تأسيسية فى الحضارة الإسلامية. ومثلما احتل العرب والفرس والترك مكانة مركزية فى تاريخ حضارة الإسلام، فإنهم يشكلون اليوم القسم الأكبر من الشرق الأوسط الحديث، وما الاضطراب الراهن فى المنطقة إلا من أعراض التنافس بين الجماعات العرقية الثلاثة، وربما فهمنا بعضا مما يجرى اليوم فى منطقتنا لو راجعنا جذوره القديمة. فى البدء كان هناك الفرس وإلى جانبهم العرب، بينما كان الترك يعيشون بعيدا فى آسيا الوسطى فى المناطق الممتدة من بحر قزوين وحتى حدود الإمبراطورية الصينية العظيمة. كان الفرس الأسبق فى تكوين حضارة ودولة، تحولت إلى امبراطورية، حكمت فى ذروة توسعها المناطق الممتدة من الأناضول حتى حدود الصين، بما فى ذلك ثلاث حضارات ودول نهرية كبرى فى مصر وبين النهرين والهند. قبل أن يظهر الإسلام توالى على فارس عديد السلالات الحاكمة، كان آخرها الساسانيون، الذين انتهى حكمهم على يد العرب المسلمين فى نهاية القرن السابع، عندما تم فتح عاصمتهم المدائن؛ ومازالت بقايا إيوان كسرى قائمة إلى اليوم فى المدائن على بعد أقل من أربعين كيلو مترا إلى الجنوب الشرقى من مدينة بغداد التى لم تكن تأسست حتى ذلك الوقت. لقد كان العراق فارسيا فى تلك الحقبة من التاريخ، والأرجح أن أطماع إيران الراهنة فى العراق تمثل فى جانب كبير منها حنينا إلى الماضى الإمبراطورى لفارس القديمة. لم يكن للعرب قبل الإسلام إسهام حضارى مهم أو تاريخ مدون، وكان الإسلام هو البوابة التى دخلوا منها إلى التاريخ. كان العرب رعاة رحّلا يعيشون على الرعى والتجارة والغزو. أعطت رسالة الإسلام للغزو معنى جديدا، فأصبح جهادا دينيا بعد أن كان طريقة لتحصيل الرزق، وتشجع العرب لغزو دول قوية وحضارات زاهرة، لم يخطر على بالهم يوما أنهم قادرون على مناطحتها، فكانت دولة الفرس هى أهم ضحايا فتوحات العرب المسلمين. تغيرت أوضاع الفرس تحت الحكم العربي، فبعد أن كانوا سادة لإمبراطورية كبيرة، تحولوا إلى «موالي» فى دولة العرب، فمثلوا الجزء الأعظم من سكان الدولة الإٍسلامية الناشئة من غير العرب، بل إن أعدادهم فاقت أعداد العرب الفاتحين؛ وتدريجيا مارس ميزان القوة السكانى أثره على العلاقة بين العرب الفاتحين والفرس المهزومين . اجتاح العرب بلاد فارس، ووضعوا يدهم على ثروات الفرس، وأسروا محاربيهم، وسبوا نساءهم؛ وحصل الجنود العرب فى جيوش الفتح كل على نصيبه من الرقيق والإماء، وتم نقل هؤلاء إلى مجتمعات وبيوت العرب القديمة فى الجزيرة العربية، والجديدة فى العراق والشام، وحدثت نتيجة لذلك واحدة من أكبر عمليات الاختلاط العرقى المعروفة فى التاريخ، ويكفى أن نعلم أن علي بن الحسين، الإمام الرابع للشيعة، والمعروف بعلى زين العابدين، والمدفون فى القاهرة، هو ابن الإمام الحسين من ابنة يزدجرد آخر ملوك الفرس، والتى سباها العرب مع أختها، فتزوج الإمام الحسين بن على الأخت الأولي، بينما تزوج عبد الله بن أبى بكر الأخت الثانية؛ وربما لم تكن مصادفة أن التشيع لآل البيت أصبح فى مرحلة لاحقة طريق الفرس لاستعادة النفوذ والاستقلال. منذ التقى كبار الصحابة فى سقيفة بنى ساعدة بعد وفاة الرسول والصراع على السلطة هو أحد الملامح المميزة للسياسة الإسلامية، وهو الملمح الذى تأكد منذ مقتل عثمان، وما تبعه من فتنة كبري. كان هناك دائما من يطعن فى شرعية الحاكم، ومن يتآمر عليه، ومن يؤلب الناس ضده؛ ومن ذلك كان طعن العباسيين فى الأمويين وتآمرهم عليهم. من هذا الباب دخل الفرس إلى ساحة الصراع على السلطة فى العالم الإسلامي، وانتقلوا تدريجيا من مرتبة الموالى المستضعفين إلى مرتبة الحكام وأصحاب الدول. أرسل الإمام إبراهيم، الحفيد من الجيل الخامس للعباس عم النبي، أرسل أبا مسلم، أحد أتباعه من الفرس، للدعوة له فى خراسان، أحد أقاليم فارس الشرقية البعيدة عن مركز سلطة الأمويين. قتل الأمويون الإمام إبراهيم، وخلفه أخوه أبو العباس، الذى قضى على حكم الأمويين، وأصبح أول الخلفاء العباسيين، بفضل الدعم الذى قدمه جيش أهل خراسان بقيادة أبى مسلم. مات الخليفة العباسى الأول، وخلفه أخوه أبو جعفر المنصور، الذى خشى على ملكه من وزيره أبى مسلم الخراسانى الذى قويت شوكته، فقتله، وقمع ثورة أهله فى خراسان، قائلا قولته المشهورة أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية. لم يتوقف اعتماد العباسيين على الفرس، على العكس، فقد زاد نفوذ الفرس فى أنحاء الدولة، وزاد رفضهم لسلطة العرب، حتى تمكنت سلالة الفرس السامانيون، بعد قيام الدولة العباسية بسبعين عاما، من تأسيس أول دولة فارسية مستقلة فى خراسان، وهى الدولة التى تتابعت عليها السلالات الحاكمة، وواصلت التوسع غربا حتى وصلت إلى الخليج، وشملت الهضبة الإيرانية كلها، وقامت على ميراثها دولة إيران الحديثة. لم يكتف الفرس بالانفصال سياسيا عن العرب، إنما عززوا انفصالهم عنهم بتبنى مذهب الشيعة الاثنى عشرية. للتشيع جذور قديمة بين الفرس، لكنه لم يكن أبدا مذهب الأغلبية من أهل فارس، حتى قام الشاه إسماعيل حاكم الدولة الصفوية بإعلان التشيع مذهبا رسميا لدولته، وقام باستحضار مشايخ من الشيعة العرب، خاصة من جبل عامل فى جنوبلبنان، لتدريس التشيع لسكان بلاده. كان ذلك فى مطلع القرن السادس عشر، ومنذ ذلك الحين تغير التشيع كثيرا على يد الصفويين، وأصبح أكثر مذهبية واختلافا عن الإسلام السنى بعد أن أصبح عقيدة سياسية ودينية للدولة الفارسية. ومنذ ثورة الخمينى عام 1979، والدولة الإيرانية تحاول نشر مذهب ولاية الفقيه بين الشيعة العرب، وتدعى الحق فى التحدث باسم الشيعة فى كل مكان، وحق التحدث باسم المسلمين بزعم الجهاد ضد إسرائيل والشيطان الأكبر، كل ذلك للتمكن من التدخل فى شئون العرب واستتباعهم. لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد