في الوقت الذي يبدو فيه الرئيس الفرنسي «ايمانويل ماكرون»، منشغلا بتعقيدات الوضع الداخلي من ناحية، والاستعداد لانتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة من ناحية أخري، جاء لقاؤه ب«مارك زوكربيرج» مؤسس فيسبوك والرئيس التنفيذي لهذا الكيان العملاق في مجال التواصل الاجتماعي ليلقي الضوء علي قضية مهمة توليها فرنسا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام اهتمامًا كبيرًا، وهي تلك المتعلقة بخطابات الكراهية والعنف التي أصبحت تحتل مساحة واسعة من هذه المنصات بشكل أصبح يمثل خطرا كبيرا علي أمن المجتمعات الأوروبية وعلي دول العالم اجمع بعد تكرار الحوادث الارهابية التي أصبحت تبث علي هذه المنصات وتظل صورها مرفوعة لعدة أيام دون أن يتم حذفها، وكان المثال الأبرز علي ذلك الهجوم الإرهابي علي مسجدين في نيوزلندا في شهر مارس الماضي. ولعل هذا هو السبب في الاهتمام البالغ بهذا اللقاء الذي جاء بعد تعرض فيسبوك وزوكربيرج شخصيا لسيل من الانتقادات من جانب السياسيين والمواطنين العاديين بسبب الإخفاق في ازالة صور هجوم نيوزلندا، وهي الانتقادات التي تنضم لقائمة طويلة من الاتهامات التي وجهت لفيسبوك في الآونة الاخيرة وتتعلق بالفشل في حماية بيانات المستخدمين ونشر بعض المحتويات الكاذبة والمضللة، والذي تزامن كذلك مع الكشف عن محتوي تقرير كان ماكرون قد طالب بإعداده حول شركات التواصل الاجتماعي، وهو التقرير الذي أوصي بضرورة وجود نوع من الاشراف علي هذه الشركات ومن بينها بالطبع فيسبوك وايجاد كيان تنظيمي مستقل لمراقبة جهود شركات التكنولوجيا العملاقة في مواجهة خطاب الكراهية. ورغم الأجواء الايجابية التي سادت اللقاء وانعكست في تصريحات زوكربيرج للصحفيين التي أشاد فيها بجهود فرنسا المبذولة لوضع ضوابط تنظيمية علي محتوي خطاب الكراهية علي الانترنت، معتبرًا إياها نموذجا يحتذي للاتحاد الأوروبي، وأن اتخاذ مزيد من الدول خطوات مماثلة لما تقوم به فرنسا ستكون له نتائج أكثر ايجابية، وكذلك اعترافه بأن هناك حاجة ملحة لوضع قواعد للمحتوي الموجود علي شبكة الانترنت تحدد مسئوليات الشركات وكذلك الحكومات، وأن هذا هو السبب في رغبته في العمل مع فريق الرئيس ماكرون، مشيرًا إلي أن فرنسا تعد مركز الابداع والابتكار الأوروبي، فإن ذلك لم يكن كافيا لكثير من المراقبين الذين رأوا أن ماكرون وفي ظل التطورات التي تشهدها الساحة الأوروبية يسعي جاهدا لأن تلعب باريس دورا قياديا في تنظيم العالم الرقمي وتكنولوجيا المعلومات، وتحقيق التوازن بين ما يعتبره البعض موقفا متراخيًا إلي حد ما من جانب الولاياتالمتحدة علي الانترنت يقابلها رقابة صارمة من جانب الصين. كما أن القضية أكثر تعقيدا بكثير فإلي جانب المحتوي المسيء هناك جوانب محل خلاف وجدل مثل الضرائب التي تسعي فرنسا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي لفرضها علي هذه الشركات إلي جانب قضايا مهمة أخري مثل حماية البيانات الشخصية للمستخدمين والاتهامات بالتدخل في الانتخابات وغيرها، وهي قضايا سبق وناقشها الطرفان كذلك منذ عام تقريبا ولم يتم التوصل بشأنها لحلول. فضلا عن أن هذا التقارب بين الأجهزة التنظيمية الفرنسية وكبري شركات التواصل الاجتماعي كان محل انتقاد بعض الأشخاص والجماعات المهتمة بهذا المجال. ورغم أن اللقاء تم تحت عنوان فرصة لإيجاد أرضية مشتركة لتنظيم ومحاصرة المحتوي الضار المتاح علي شبكة الانترنت، فإن الواقع يشير إلي أن عقد الاجتماع تزامن مع دعوات كثيرة تتردد داخل القارة الأوروبية لكسر ما يعتبرونه احتكاراً من قبل هذه الشركة العملاقة لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث سبق للمفوضة الأوروبية لمراقبة التنافسية القول بأن المفوضية وإن كانت لا تحقق في ممارسات شركة فيسبوك، إلا إنها تراقب عن كثب كيفية استخدام الشركة للبيانات التي توجد لديها وهو دليل واضح علي القلق الأوروبي من أسلوب عمل هذه الشركات العملاقة، رغم أن زوكربيرج من جانبه أكد أنه منفتح لمناقشة مثل هذه القواعد التنظيمية مع الحكومات المختلفة حول العالم، وهي قضية أخري مختلف عليها حيث يري بعض الخبراء أن القواعد التي يجب وضعها هي مسئولية الحكومات وليست الشركات. وهذه الفكرة تحديدا يبدو أنها ستكون محل جدل خلال الفترة المقبلة وخاصة مع قرب انعقاد القمة المزمعة بين كبري الشركات العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات وعدد من رؤساء الحكومات، وهي القمة التي سبق ودعا اليها كل من الرئيس ماكرون ورئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا أردن في أعقاب الهجوم الإرهابي علي المسجدين في اطار الجهود المبذولة لمحاصرة المحتوي العنيف والمتطرف علي شبكة الانترنت. ومن وجهة نظررئيسة وزراء نيوزيلندا فإن وجود قواعد تنظيمية لا يتعارض مع حرية التعبير بقدر ما يؤكد علي التمسك بمبدأ وجود محتوي آمن، مؤكدة أنه من الضروري ألا تصبح منصات عملاقة مثل فيسبوك أداة في أيدي الإرهابيين، بل يجب أن تكون جزءا من الحل، كما أن الاجتماع المقبل لن يتعلق بوضع ضوابط لشركات التواصل الاجتماعي بل يتعلق بتحديد الأولويات التي يجب أن تعمل من خلالها هذه الشركات لوقف المحتوي العنيف. ومن ثم فإن مثل هذا الاجتماع الموسع ينبغي أن يكون فرصة لتوحيد الجهود بين الحكومات وشركات التكنولوجيا وليس مناسبة للخلاف والشقاق. وهنا تبدو فرنسا من جانبها عازمة علي المضي قدما في اتخاذ اجراءات تنظيمية جادة، والدليل علي ذلك أن التقرير السابق ذكره دعا لوضع قوانين تسمح للحكومات بالتحقيق وفرض غرامات علي الشركات التي لا تلتزم بهذه الضوابط، كما أن البرلمان الفرنسي الذي يحظي فيه الحزب الحاكم بأغلبية مريحة يناقش تشريعاً يمنح لهذا الجهاز التنظيمي المقترح السلطة لفرض غرامات علي شركات التكنولوجيا قد تصل إلي 4% من عوائدها العالمية إذا لم تقم بالجهد الكافي لإزالة المحتوي الذي يحض علي الكراهية من الشبكات التابعة لها بأسرع وقت، حيث يعد التصويت علي هذا القانون بمثابة اختبار حرج لماكرون المعروف بأنه من أكثر القادة الأوروبيين انتقادا لفيسبوك ولكبري شركات التواصل الاجتماعي والذي يواجه تحديات داخلية كثيرة أخيراً. لقد أعرب مسئولو الاتحاد الأوروبي من جانبهم عن قلقهم من أن تلعب المعلومات المضللة دورًا في حشد الأصوات للتيارات الشعبوية خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة، كما أن شركات التواصل الاجتماعي أكدت من جانبها رفضها القاطع لأن تصبح منصة للترويج للعنف والإرهاب، بل إن نائب رئيس شركة فيسبوك علق علي التقرير الفرنسي بأنه ايجابي ويحدد ملامح الطريق نحو نموذج جديد للضوابط يحمل في طياته فاعلية وامكانية التطبيق، وبقي أن يترجم الطرفان هذا الحديث لإجراءات فعلية.