قرارات الرئيس الأمريكى ترامب بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية لاتتوقف ، رغم الجدل والتبعات التى تترتب على هذا الانسحاب ورد فعل المجتمع الدولى تجاه قراراته ،فالرئيس الأمريكى يتخذ هذه الإجراءات تحقيقا لشعاره الانتخابى «اجعلوا أمريكا عظيمة مجددا»، والسؤال الذى يطرح نفسه هل تحقق سياسة الانسحاب من الاتفاقيات الدولية هدف الولاياتالمتحدة فى حفاظها على ريادتها لدول العالم؟!، أم أن «شعار أمريكا أولا» يعد هو الهدف الأسمى الذى يسعى ترامب لتحقيقه ضاربا بعرض الحائط أى أهداف أخرى؟. وكانت هذه التساؤلات وغيرها محل جدل واسع بعد اعلان الرئيس الأمريكآ أخيرا بأن الولاياتالمتحدة ستنسحب من المعاهدة الدولية للأسلحة التى وقعها سلفه باراك أوباما عام 2013، خلال الاجتماع السنوى للرابطة الوطنية الأمريكية للسلاح أمام آلاف من الحضور، وهو الإعلان الذى أثار انتقادات فورية داخل وخارج أمريكا، فالقرار الذى اعتبره ترامب دفاعا عن السيادة الأمريكية ولعدم السماح للبيروقراطيين الأجانب بالتعدى على الحرية التى كفلها الدستور للأمريكيين، أعتبره الرافضون تلبية لمطالب الرابطة التى تعد من أقوى جماعات الضغط المنظمة لحركة التجارة فى الأسلحة التقليدية التى تبلغ ملايين الدولارات، وتعتبرالرابطة المعاهدة تقييد للحقوق الفردية فى حيازة الأسلحة، وهذا المبدأ يعد من الحقوق الأساسية التى يدافع عنها الحزب الجمهورى، ولذلك يعتبر البعض أن قرار ترامب بسحب توقيعه من (NSA) هو خطوة انتخابية جيدة، لان الرابطة الوطنية الأمريكية للسلاح تعد من أكبر الجهات المانحة ومن تدعمهم غالبا ما يفوزون فى الانتخابات، ويقال ان الرابطة جمعت مايقدر ب30مليون دولار لدعم ترامب فى انتخابات الرئاسة عام 2016. وعلى الجانب الآخر أثار الانسحاب ردة فعل قوية بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبى وهيئات الأممالمتحدة ونددوا بالقرار ،وكذلك الجماعات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وأعتبروا أن أمريكا بهذا القرار تنضم لإيران وكوريا الشمالية وروسيا كدولة غير موقعة على المعاهدة التى تهدف لحماية الأبرياء من دمارالأسلحة . ويعد هذا القرار تأكيدا على إصرار ترامب على الخروج من الاتفاقيات المبرمة فى عهد الرئيس السابق بارك أوباما ،والتى يعتبرها غير ذات نفع لأمريكا، ويرى المراقبون أن قرار الانسحاب من المعاهدات الدولية قد يحقق بعض الامتيازات والمكاسب فى المدى القريب ،ولكن مثل هذه القرارات لها تأثير على قوة أمريكا فى المجتمع الدولى على المدى البعيد، لأن بقاءها خارج الأنظمة الدولية ليس من مصلحتها ،وبشكل عام فأن المعاهدات والاتفاقات الدولية تهدف لبناء جسور الثقة بين الدول وتحافظ على أستقرار العالم، كما أن انسحاب دولة بحجم أمريكا من معاهدة ما يؤثر سلبا عليها بشكل مباشر ويضعف من تأثير هذه المعاهدة فى باقى الدول . ومسلسل الانسحاب من الاتفاقيات الدولية بدأه الرئيس ترامب بعد توليه مهام منصبه بيومين فقط، فكان قراره بالانسحاب من اتفاقية الشراكة «TTP» عبر المحيط الهادى فى يناير 2017،وجاء ذلك تنفيذا لوعوده فى برنامجه الانتخابي، ولم يقصه عن قراره ما يمثله حجم الاتفاقية من إجمالى الاقتصاد العالمى والذى يقدر بنحو 40%، و26%من حجم التجارة العالمية أى ما يقدر بقيمة 11 تريليون دولار.ولم يمض سوى 6 أشهر حتى فاجأ ترامب العالم بقرار انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس العالمية للمناخ، وأعلن أن هذا القرارمن أجل أمريكا وشعبها ،وأعتبر أن هذه الاتفاقية ظالمة لأقصى حد لبلاده وتعطى مزايا اقتصادية لدول أخرى تعد الأكثر تلويثا للمناخ، وأنها حملت أمريكا مليارات الدولارات ،وأكد حينها أنه يتعهد بالخروج من أى اتفاقية لاتضع أمريكا أولا. وبعد 15 يوما فقط قرر ترامب فى 16 يوليو 2017 إلغاء اتفاق أمريكا مع كوبا، والذى عقده أيضا سلفه أوباما ،وقرر تطبيق سياسات جديدة تحكم العلاقة بين البلدين ،ووصفها بأنها الأفضل لأمريكا،ثم جاء قراره بالانسحاب من منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» فى 12 أكتوبر 2017،ليثير قضية ذات أبعاد سياسية بعد أن أتهم المنظمة بالتحيز ضد إسرائيل ،وأعتبر أن المساهمات المالية التى تقدمها أمريكا تمثل عبئا ثقيلا على كاهلها، وأبدى رغبته فى استمرارالتعاون بصفة مراقب، وهو ما اعتبرته اليونسكو خسارة لأسرة الأممالمتحدة وخسارة للتعددية.وفى إطار سلسلة الانسحابات جاء قرار انسحاب أمريكا من ميثاق الأممالمتحدة العالمى للهجرة فى 3ديسمبر 2017، وكذلك قرار ترامب بوقف تمويل وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» فى سبتمبر 2018، بعد أن رفض تصويت للجمعية العامة للأمم المتحدة اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد سبق هذا القرار انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووى الإيرانى فى مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات على طهران. هذا إلى جانب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها والذى يعد انتهاكا لقرارمجلس الأمن ،وافتعال صدام مع الأممالمتحدة ومنظمات المجتمع الدولى وعدد كبير من الدول العربية والإسلامية التى نددت بالقرار، وعلى الجانب الاقتصادى هدد ترامب بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية ،أذا لم تطور من أدائها وتغير تعاملها غير المنصف تجاه الولاياتالمتحدة. وفى شهر فبراير الماضى أعلن ترامب الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية مع روسيا ،والتى تم الاتفاق عليها قبل 31 عاما خلال الحرب الباردة وكانت تهدف لالزام كل من روسياوأمريكا بسحب أكثر من 2600 صاروخ نووى من الأنواع القصيرة والمتوسطة المدى ، وأثار القرار المخاوف من التبعيات المترتبة عليه بالنسبة للاتجاه نحو زيادة الاندفاع فى سباق التسلح النووى، وبالتالى عدم استقرار وهو ما سيؤثر على الأمن الدولى، وبررت الخارجية الأمريكية موقفها بأنها ناقشت انتهاكات المعاهدة مع روسيا أكثر من 30 مرة،بينما ردت الخارجية الروسية بأن أمريكا تحلم بأن تكون هى القوة الوحيدة المهيمنة على العالم. وكانت قرارات الرئيس الأمريكى خلال العامين الماضيين بالانسحاب من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، قد أكد لدى البعض الظن بأن ترامب يسعى لتحقيق عالم أحادى القطب ،والبعض الأخر يرى أنه يسعى لتحقيق شعار أمريكا عظيمة مجددا، ولكن المؤكد أن ترامب الجمهورى غير مبالى بأهمية العلاقات الدولية ومختلف مع النهج الذى اتبعه رؤساء أمريكا السابقين،وكونه فى الأساس رجل أعمال أثر ذلك على قرارته السياسية ويظهر ذلك جليا فى انسحابه من المعاهدات تحت مبرر الاعباء المالية والمساهمات التى تثقل الميزانية وعدم وجود عائد أونفع مادى ملموس على الاقتصاد الأمريكى جراء هذه الاتفاقيات، ويبقى أن تداعيات قرارات الانسحاب المتتالية لم تظهر واضحة حتى الآن، وهل هى بالفعل خطوات مفيدة لأمريكا داخليا وخارجيا سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى وتدعم هيمنتها على العالم كدولة عظمى؟، أم انها ستعود بالنفع على دول أخرى مثل الصينوروسيا ودول الاتحاد الأوروبى بعد انسحاب أمريكا من ساحة الاتفاقات الدولية المنظمة لشئون وقضايا المجتمع الدولى.