احتفالًا باليوم العالمى لحرية الصحافة، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، فى 4 مايو الحالى، تقريرًا أعده قسم تدقيق الحقائق، نقل فيه عن بيان أصدره أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، أن الديمقراطية لا تكتمل إلا بالشفافية وبإتاحة المعلومات. وكان غريبًا ألا يرد ذكر بريطانيا، إنجلترا، فى التقرير، مع أننا توقعنا، أو كان من المفترض أن تكون هى الدولة الأكثر تقييدًا لحرية الصحافة، أو الأقل ديمقراطية، لأنها الدولة الأولى، فى العالم، التى سنّت قانونًا يمنع الوصول إلى المعلومات، بزعم أنها أسرار رسمية!. قانون الأسرار الرسمية معمول به فى بريطانيا منذ سنة 1911، وأضيفت إليه مواد جديدة سنة 1989، ومؤخرًا وافق مجلس العموم البريطانى «البرلمان» على تعديلات جديدة استهدفت: فرض مزيد من الحماية على أسرار الدولة، حتى لا تكون معرضة للانتهاك من أى فرد، لأن وسائل الإعلام فى عصر ثورة المعلومات تعددت وتنوعت، بشكل جعل القانون عاجزًا عن التعامل مع ظروف هذا العصر. قيل إن هذا القانون، من المزايا أو الأسباب التى جعلت المخابرات البريطانية واحدة من أنشط وأقوى أجهزة المخابرات فى العالم، لأنه قام بتحصين عملائها وعملياتها من المساءلة أو المحاسبة. وبموجبه، قررت محكمة ويستمنستر الجزئية، فى 2016، وقف محاكمة تونى بلير، رئيس الوزراء البريطانى الأسبق، فى دعوى أقيمت ضد قراره بإشراك بريطانيا فى غزو العراق الذى قادته الولاياتالمتحدة سنة 2003, لأن المحاكمة قد تتسبب فى الكشف عن أسرار ومعلومات محمية بموجب هذا القانون. وبالقانون نفسه أفلت جاك سترو، وزير الخارجية البريطانية الأسبق، ومارك ألن، المدير الأسبق لقسم مكافحة الإرهاب فى المخابرات البريطانية، من دعوى قضائية وتم إنهاء الموضوع بدفع تعويض مالى فى اتفاق تسوية!. بموجب هذا القانون، أيضًا، قامت السلطات البريطانية، يوم 27 سبتمبر 2017، بإلقاء القبض على سيدة تبلغ من العمر 65 سنة، كان قد تم التعاقد معها للعمل فى هيئة أو جهة حكومية، بعد أن تلقت شرطة مكافحة الإرهاب معلومات من جهاز المخابرات الداخلية البريطانية، MI5، تفيد بأنها انتهكت المادة الأولى من هذا القانون، وكشفت عن معلومات غير مصرح لها بالكشف عنها. ولا تنتظر أى معلومات إضافية، لأن ما سبق هو كل ما ذكرته الصحف ووكالات الأنباء. ما يعنى أن كل صحف ووكالات أنباء العالم، بينها مثلًا، BBC، رويترز، وأسوشيتدبرس. وكلها عجزت عن التوصل إلى مصدر مطّلع أو عليم، تعرف منه أى شيء عن تلك السيدة وطبيعة عملها أو حتى اسم الهيئة أو الجهة التى تعمل بها!. أكثر من سنتين ونصف، ولم تتمكن الصحف من الوصول إلى أى معلومات عن تلك السيدة المجهولة، التى كانت تعمل فى جهة مجهولة، وسربت معلومات لمجهولين، وتم إلقاء القبض عليها لانتهاكها القانون الذى سبق أن انتهكه ديفيد شيلر الضابط السابق فى المخابرات البريطانية، حين قام سنة 1997 بتسريب معلومات ووثائق سرية إلى جريدة بريطانية، «جريدة The mail on Sunday» وهرب إلى هولندا قبل نشرها، ومنها، انتقل إلى فرنسا وقضى بها ثلاث سنوات محتميًا بالميثاق الأوروبى لحقوق الإنسان، وظنّ أن بإمكانه العودة إلى بريطانيا بعد أن أصبح هذا الميثاق جزءًا من القانون البريطاني، فى أكتوبر 2000، لكنه بعد عودته تم إلقاء القبض عليه، ومحاكمته وعوقب بالحبس لمدة ثمانية أشهر لانتهاكه، قانون الأسرار الرسمية، وألزمته المحكمة بعدم إفشاء المزيد من الأسرار لاحقًا. بعد انتهاء فترة العقوبة، ظل شيلر مختفيًا عن الأنظار، حتى نشرت له جريدة ال«تايمز» مقالًا، فى 2007، يزعم فيه أنه المسيح. وكان واحدًا من سبعة، تناولهم جوناس بنديكسن، فى كتابه العهد الأخير، زعموا أنهم المسيح وعادوا إلى الأرض بعد رحلة فى عوالم خفية. وحين حلّ ضيفًا على BBC فى برنامج حالات العقل الذى يقدمه جون رونسون، قال شيلر: أعرف أن الناس سوف يجدون الأمر غريبًا جدًا لأننى كنت ملحدًا قبل ثلاث سنوات. أنا شخصيًا سوف أجد الأمر غريبًا إذا ادّعى أى شخص ذلك. لكن هناك بعض الوثائق القديمة تقول إن المسيح اسمه ديفيد، وإذا ربطنا تلك الوثائق بالأعمال البطولية التى قمت بها ودفاعى عن الحقيقة والعدل طوال عشر سنوات، فإنك لا تحتاج إلى أن تكون ذكيًا أو ضابط مخابرات لتعرف أن 2 + 2 = 4. والأهم هو أننى أشعر بحالة من السلام لم أشعر بها طوال حياتي، منذ أن عرفت أننى المسيح. البرنامج كان على الهواء، وبالتالى تلقى عددًا من الاتصالات التليفونية، أحدها من سيدة قالت إن شيلر كان يستأجر منزلًا تملكه، وشكّكت فى كونه المسيح، لأنه لم يعتكف للتفكير والتأمل فى رسالته، كما فعل المسيح، ولم يكن له أتباع أو حواريون مثل المسيح. وكان رد فعل ضابط المخابرات البريطانية السابق، هو أنه استشاط غضبًا وأبدى دهشته من ضعف إيمان تلك السيدة ومن جرأتها على التحدث مع المسيح بهذا الشكل، مؤكدًا أن القياس الذى قامت به خاطئ، لأنه هو المسيح الوحيد ولم يكن هناك أى مسيح قبله!. القصة مضحكة طبعًا ويمكنك أن تراها نكتة أو حوارًا عبثيًا بين اثنين من المجانين. لكنك لن تكون مخطئًا إن ظننت أو استنتجت أن رجال المخابرات البريطانية رأوا أن حبس شيلر لمدة ثمانية أشهر لم يكن عقابًا كافيًا، فقرروا أن يعاقبوه على طريقتهم: أفقدوه عقله، أو جنّنوه!. لمزيد من مقالات ماجد حبته