لم يكن يتوقع أنها ستجىء، رغم أنه دعاها، وهى أكدت له أنها ستأتى، وألمحت بتحضيرها مفاجأة له، ولم يعرف ما الذى ستفاجئه به، حين دخل الى القاعة بحث فى كل الوجوه لكنه لم يرها، كان يتوقع أن يجدها من بين الضاحكين أمامه، وربما تقبله فى غمرة من السعادة أمام الجميع، لكنها لم تأت، وجاءه اليقين بأن هذه هى المفاجأة التى أعدتها، فتاريخها الطويل معه يوحى بذلك، كلما تصور أنها معه اكتشف أنه وحده، وأنها اختفت من حياته، وحسب تعبيرها: وضعته فى «الدرج»، دائما هو مؤهل لأن يوضع فى الدرج، تخرجه متى تشاء، تلهو به قليلاً، تشعره بأنه أيقونة حياتها، وتميمة حظها، وفى الوقت الذى يرى أنه أصبح ملكها المتوج، يجدها تفتح الدرج وتضعه فيه، ليعانى لعنة الوحدة والظلام والغضب، يعاتب نفسه ويضرب رأسه فى الحائط من الغيظ والغضب، ويحلم لو أنها أمامه الآن كى يصبح ريحا عاصفة تكنسها من طريقه، لن يحافظ على مشاعرها، ولن يخشى عليها من الموت، ولا البكاء أمامه، لن يحافظ على مكانتها ومظهرها أمام الناس، وسيمحو كل ذلك فى ثورة انفعاله الجامح، ثم يجلس ربما ليبكى أمامها أو بجانبها أو فى أى مكان ينجيه من حنين العودة إليها. لكن كل ذلك لا يحدث، دائما ما تموت ثورته بداخله، ودائما ما يأكله الحنين لملاقاتها، يتطلع لصورتها على الفيس، ومواقفها مع الآخرين، وضحكاتها فى صورهم، دائما ما يشعر بأنه نسى، أو غفر لها، ولا يسعى لتجنبها فى أى مكان، ربما يتمنى أن يذهب ليعتذر عن خطئها فيه، ويتمنى أن يجأر فى المكان بأنها قاسية، وأنه يحبها. وأن ما يحدث معه غير عادل، وظالم للغاية، إلا أنه لا يستطيع، ولا يملك إلا الاستمرار فى دور الشهيد، فيقرر الهروب من المكان، عبر حرب وهمية يتوقع أن تلفت نظرها تجاهه، ودون أن يعرف إن كان نظرها التفت أم لا فإنه يكون قد خسر فرصة جديدة لانهاء عذابه الشخصى. الكلمة الوحيدة المحرمة فى علاقتهما طويلة الأمد هى الحب، لا أحد منهما يملك أن يصرح للآخر بها، يمكنه أن يقولها بألف معنى وفعل، ووحدها الكلمات تعجز عن تجسيدها، عن نفسه يحلم كل يوم لو أنه يتمكن من قولها صراحة، يضع عشرات المشاهد التى يصرح فيها بموقفه، جميعها مشاهد متخيلة، ولو أتيح له أى منها فى الواقع ما تمكن من نطق الكلمة، ربما لأنه يعرف أن ذلك سيكون خط النهاية، وان الدرج المفتوح ينتظره، وربما يطول عقابه من شهور وسنوات إلى ما لا نهاية، وربما لأن لذة الكلمات تموت حين ننطق بها، وعليه أن يسعى لتطوير الأمر إلى ما بعدها، وليس فى الأفق بعد، فكل العلامات تقول بأن نزول السماء إلى الأرض أسهل آلاف المرات من نزولها إليه، وأنها لم تعش كل هذه السنين محرمة على الآخرين لتصبح فجأة له وحده، هذا ما لم يكن لعقله أن يتخيله، ولابد أنها بحاجة إلى ثورة على تاريخها وماضيها وأسرتها، بحاجة إلى ثورة شاملة كى يحدث ذلك، وربما لن تخرج عن انتفاضة سرعان ما تعود الأمور بعدها إلى سابق عهدها، سرعان ما سيظهر «الدرج» العظيم بظلمته الكئيبة الباردة فاتحا ذراعيه فى استقباله. لم يتوقع أنها ستجىء إلى الحفل، فثمة هاجس كان يتردد فى ذهنه طيلة الطريق بأنها لن تأتى، فلا يمكن لها أن تغامر أمام الجميع لتعلن عن موقفها منه. «لكنها التى قالت». هكذا كان يتراجع ليعيد تفاؤله لنصابه القويم، ممنياً نفسه بمجيئها، حين دخل من الباب الزجاجى الدوار تفحص الوجوه بسرعة وعلى عجل، كما لو أنه يطابقها على النموذج الذى يحتفظ به، وحين فشلت المطابقة شعر بأن حماسه نزل إلى الدرجات الدنيا، وتمنى لو أن مسئولا عن القاعة يخبره بإلغاء الحفل، أو أن أيا من المدعوين يشتبك معه فيرد عليه، وينتهى الأمر بالركل والصفع المتبادل، لكن أيا من ذلك لم يحدث، وجد نفسه بين أحضان وقبلات لم يكن مستعدا لها، لم يكن على درجة ترحاب حرارتها، لكنه أسلم نفسه لها وهو يرسم ابتسامة ما بين الذهول والمرح واللاشيء، ناظرا فى أعماقه لفوهة «الدرج» المظلم البارد وهو يقطع خطواته فى الطريق إليه. حين اتخذ الضيوف أماكنهم وجلس المحاضرون على المنصة من حوله، منشغلين فى تعديل مواقع المايكات وزجاجات المياه والعصائر أمامهم، لمحها، كانت هى بالفعل، طفرت الدماء من قدميه إلى أعلى رأسه، وانفتحت عينه على اتساعها، كمريض استطاع الأطباء صعقه بالكهرباء حتى عادت له الحياة، واستغرق الأمر بضع ثوان طويلة حتى استوعبه، فتراخت عضلة قلبه وارتسمت على وجهه ابتسامة طازجة، ابتسامة برعاية عين تكاد تطير منها كل عصافير الحب وطيوره، ولم ينقذه من الطيران خلفها إلا اصطدام يده بزجاجة مياه اسقطتها على الأرض، فعاد بنظره سريعا محاولا التقاطها، لكنها كانت قد سقطت، وكان آخرون قد نهضوا من أماكنهم لالتقاطها، رأى شبح ابتسامة فى عيون البعض، وشبح تساؤل غامض فى عيون آخرين، فاعتذر، وتقبل الممازحات السريعة، واضعا الزجاجة أمامه، قابضا عليها أمامهم بيده، كما لو أنه يخشى عليها من الطيران، حين استقرت كما ينبغى لها وله، تركها وعاد بنظره إلى تلك التى انتظرها طويلاً، كانت قد غرقت فى أحضان قبلات وابتسامات بدا انها انتظرتها أيضا، وربما لم تكن تتوقع مجيئها، وسرعان ما توارت بعيداً مع الجموع، حيث الصفوف الخلفية، لتجلس على مبعدة منه، لكنها تنظر إليه، وهو يطلق كل ما يملك من عصافير الحب نحوها، مبتسماً ومبتهجا كما لو أنه خرج للتو من ذلك الدرج البارد المظلم.