وزارة العدل تعلن عن وظائف قيادية شاغرة.. تعرف على الشروط وطريقة التقديم    بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الفراخ والبيض في أسواق الشرقية الثلاثاء 13 مايو 2025    قفزة في صافي أرباح البنك التجاري الدولي خلال الربع الأول من العام الجاري    أسعار الدولار اليوم الثلاثاء 13 مايو 2025    الأونروا: يجب رفع الحصار عن غزة وإدخال المساعدات للمحتاجين    تقرير إسرائيلي: الرهان على ضوء أخضر أمريكي لحرب واسعة بغزة ينهار    موقف الأهلي والزمالك، ترتيب الدوري المصري قبل الجولة السادسة بمجموعة التتويج    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 13 مايو 2025 والقنوات الناقلة    التربية والتعليم تعلن إتاحة أرقام جلوس الدبلومات الفنية ومقر اللجان    اليوم.. استكمال محاكمة متهمين في قضية داعش العمرانية    مصرع شخص وإصابة 5 في حادث انقلاب سيارة بوسط سيناء    وفاة سائق الجرار وانتظام حركة القطارات بعد تصادم مزلقان البحيرة- فيديو وصور    الحكم على 18 متهما بقتل مواطن في الجيزة اليوم    مواعيد عرض مسلسل أمي على قناة MBC1    صبحي خليل: تمنيت المشاركة في "الاختيار" وشاركت في أربع أعمال درامية في وقت واحد    حكم تسوية الصف في الصلاة للجالس على الكرسي.. دار الإفتاء توضح    الزيارة التاريخية.. 10 ملفات تتصدر أجندة مباحثات ترامب وقادة دول الخليج    تشكيل بيراميدز المتوقع أمام الزمالك في الدوري المصري    جرينلاند تتولى رئاسة مجلس القطب الشمالي نيابة عن الدنمارك    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط»    كان يتلقى علاجه.. استشهاد الصحفي حسن إصليح في قصف الاحتلال لمستشفى ناصر ب خان يونس    «الاقتصاد المنزلي» يعقد مؤتمره العلمي السنوي ب«نوعية المنوفية»    بيان هام من محامية بوسي شلبي بشأن اتهامات خوض الأعراض: إنذار قانوني    ترتيب هدافي الدوري المصري قبل مواجهات اليوم الثلاثاء    غيابات مؤثرة بصفوف الأهلي أمام سيراميكا كليوباترا في الدوري المصري    3 شهداء وإصابات جراء قصف الاحتلال خيمة نازحين في خان يونس    حكام مباريات اليوم في الدوري| "الغندور" للزمالك وبيراميدز و"بسيوني" للأهلي وسيراميكا    حبس عصابة «حمادة وتوتو» بالسيدة زينب    مستشفى سوهاج العام يوفر أحدث المناظير لعلاج حصوات المسالك البولية للأطفال    تفاصيل.. مؤتمر الاتحاد المصري لطلاب الصيدلة في نسخته الرابعة    رئيس شركة شمال القاهرة للكهرباء يفصل موظفين لاستغلال الوظيفة والتلاعب بالبيانات    «الاتصالات» تطلق برنامج التدريب الصيفي لطلاب الجامعات 2025    جولة تفقدية لمدير التأمين الصحي بالقليوبية على المنشآت الصحية ببهتيم    بعد اطمئنان السيسي.. من هو صنع الله إبراهيم؟    جدول امتحانات الشهادة الإعدادية بمحافظة المنيا للفصل الدراسي الثاني 2025    انفجار أسطوانة غاز السبب.. تفاصيل إصابة أم وطفليها في حريق منزل بكرداسة    كيف ردت سوريا على تصريحات ترامب بشأن رفع العقوبات؟    أبو زهرة يهنئ المنتخب الوطني للشباب تحت 20 عاما بعد فوزه المثير على غانا    علي صالح موسى: تجاوب عربي مع مقترح دعم خطة الاحتياجات التنموية في اليمن    ثبات سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن الثلاثاء 13 مايو 2025 (بداية التعاملات)    قناة السويس تجهز مفاجأة لشركات الشحن العالمية (تفاصيل)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 13-5-2025 في محافظة قنا    محافظ سوهاج: تشكيل لجنة لفحص أعمال وتعاقدات نادي المحليات    «التضامن الاجتماعي» توضح شروط الحصول على معاش تكافل وكرامة    الكشف على 490 مواطناً وتوزيع 308 نظارات طبية خلال قافلة طبية بدمنهور    بعت اللي وراي واللي قدامي، صبحي خليل يتحدث عن معاناة ابنته مع مرض السرطان (فيديو)    يلا كورة يكشف.. التفاصيل المالية في عقد ريفيرو مع الأهلي    كشف لغز العثور على جثة بالأراضي الزراعية بالغربية    تحت شعار «اكتشاف المشهد».. «أسبوع القاهرة للصورة» يواصل فعاليات دورته الرابعة بدعم غزة (صور)    اعتماد 24 مدرسة من هيئة ضمان جودة التعليم والاعتماد بالوادي الجديد    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي أم يجوزُ لي تأجيلُه؟| الإفتاء تجيب    إيمان العاصي في "الجيم" ونانسي عجرم بفستان أنيق.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    قبل عرضه على "MBC".. صلاح عبدالله ينشر صورة من كواليس مسلسل "حرب الجبالي"    أميرة سليم تحيي حفلها الأول بدار الأوبرا بمدينة الفنون والثقافة في العاصمة الإدارية    جامعة القاهرة تحتفل بيوم المرأة العالمي في الرياضيات وتطلق شبكة المرأة العربية- (صور)    طفل ينهي حياته داخل منزله بالإسماعيلية    عالم بالأزهر: هذا أجمل دعاء لمواجهة الهموم والأحزان    أهم 60 سؤالاً وإجابة شرعية عن الأضحية.. أصدرتها دار الإفتاء المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة المنزل المظلم
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 06 - 2015

كان الرجل الذي استقل أوتوبيسنا في خنسار تلك الليلة قد أحكم حول جسده معطف مطر أزرق داكن، وجذب الحواف الطويلة لقبعته إلي أسفل لتغطي مقدمة رأسه، كما لو كان قد رغب في حماية وعزل نفسه عما يحيط به وعن أي تواصل مع الناس.
كان يحمل لفافة تحت إبطه، وعندما جلس داخل الأوتوبيس، استخدم يده لحمايتها. وخلال أول نصف ساعة من جلوسنا متجاورين في السيارة، لم يشارك في الكلام الدائر بين السائق وبقية المسافرين. ولهذا السبب ترك عليهم أثرًا قويًا ومربكًا.
وفي ظل إضاءة خاطفة لضوء من داخل الأوتوبيس أو خارجه، استرقت لمحة سريعة لوجهه: كان شاحبًا. كان له أنف صغير لكن مستقيم، وبدا جفناه الناعسان واضحين لكنهما شبه مغلقين. وكانت هناك تجعيدة عميقة علي جانبي شفتيه كما لو أنه تمّ نحتهما من حجر. وفي بعض الأوقات يقوم بترطيب شفتيه بمقدمة لسانه، ثمّ يشرد كما لو كان يستجمع شتات فكره.
توقف الأوتوبيس في خنسار أمام محطة ماداني النهائية. ورغم أنه كان من المفترض أن نسافر طوال الليل، فلقد غادر السائق وجميع الركاب الأوتوبيس. تفحصت النُزُل الصغير والمحطة النهائية، لكنهما كانتا غير ملائمتين. عندئذ عدت إلي الأوتوبيس للتأكد أننا يجب أن نقضي الليل هنا، قلت للسائق؛ "يبدو أننا سنقضي الليلة هنا!"
قال؛ "نعم، فالطريق ليست جيدة. سنبقي هنا الليلة ونغادر في الصباح الباكر."
وحينئذ لاحظت فجأة أن الرجل في معطف المطر اقترب مني. وبصوت جهور لكن هادئ قال "أشك أن بوسعك العثور علي مكان مناسب لنقضي الليلة به. إذا لم تكن لديك معرفة بالمكان حولنا، فلماذا لا تأتي لقضاء الليلة في منزلي؟
"شكرًا. لكنني لا أرغب في إزعاجك."
"لا إزعاج في الأمر. فأنا أكره التعارف. لا أعرفك ولا أرغب في معرفتك. وليس في الموقف أي فضل أو معروف. فمؤخرًا بنيت حجرة، ومنذئذ أصبحت حجرتي القديمة شاغرة. وظننت أنها ستكون مريحة أكثر من النُزُل."
كان لكلماته البسيطة والتلقائية تأثير عليّ وجعلتني أدرك أنني لا أتعامل مع رجل عادي. قلت "حسنًا، لنذهب!"
وبلا تردد، بدأت أتبعه. أخرج من جيبه كشاف إضاءة وأشعله. سبقنا ضوء الكشاف الساطع. ومررنا بالعديد من الطرق الضيقة؛ علي جانبيها جدران من الطوب اللبِن. كان كل شيء ساكنًا، ساكنًا بما يكفي للتأثير في حواس المرء. وكثيرًا كنا نسمع صوت تساقط المياه، وقليلًا ما كنا نشعر بهبوب نسيم بارد علي وجوهنا. عندئذ لاحظت الأضواء التي كانت ساطعة في منزلين يظهران عن بعد. لم أنطق بأي شيء لبرهة، ومشيت بصحبته صامتًا. ثمّ لأستحث رفيقي المجهول علي الكلام، قلت " هذه مدينة جميلة."
بعد أن جفل عند سماع صوتي. وبعد برهة قال " أفضل خنسار علي جميع المدن التي زرتها في إيران. ولا يرجع ذلك لأنها تضم الكثير من الحقول والبساتين، بل لأنها احتفظت بالكثير من فتنتها القديمة. احتفظت بأجواء القرون الوسطي في الأزقة، بين جدران الطوب اللبن وأسفل تلك الأشجار الطويلة. وبالمدينة مشاعر مضيافة ملموسة، لدرجة أن المرء، في الطرقات الفرعية، سيشعر بالراحة كما لو كان من أهلها في الماضي.
والمنطقة بأكملها معزولة، وهذا عامل يؤكد عبقها الشعري، فهي بعيدة عن الصحف والطائرات والقطارات التي تعد طاعون هذا القرن، خاصة السيارة التي، بالإضافة لصوت نفيرها المزعج وما تثيره من غبار، تحمل ذهنية القيادة والهيمنة إلي أصغر القري في البلاد. لقد أقحمت كل هذه الأفكار الجديدة غير الناضجة، والآراء المنحرفة وأشكال المحاكاة الغبية في كل حيز متاح."
ووجه ضوء الكشاف علي بعض نوافذ هذه المنازل، وقال: "انظر. لهذا المكان نوافذ من الخشب الجميل والمنازل المنفصلة. بوسعك أن تشم رائحة الأرض، ورائحة البرسيم المحصود حديثًا، بالإضافة للروائح الأقل جاذبية. وبوسع المرء أن يسمع صوت زقزقة الطيور. واستدعت الطريقة البسيطة في براعة التي ينجز بها سكان المدينة أعمالهم عالمًا مفقودًا، عالم الضجيج للأثرياء الجدد."
وعندئذ، كما لو كان تذكر فجأة أنه قد دعاني لمنزله، سألني "هل تناولت العشاء؟"
"نعم. تناولنا العشاء في جولبايجان."
عبرنا العديد من جداول المياه حتي وصلنا في النهاية إلي مكان بالقرب من الجبل، حيث قام بفتح بوابة حديقة. وبعد تجاوز البوابة كان هناك منزل مشيد حديثًا. دخلنا حجرة صغيرة تضم سريرًا مطويًا، ومنضدة ومقعدين بذراعين. أشعل مصباحًا يعمل بالكيروسين، ودخل حجرة مجاورة. وبعد دقائق قليلة، عاد مرتديًا بيجامه لونها قرنفلي. وأحضر مصباحًا آخر وقام بإشعاله.
وبعد ذلك قام بفض لفافة سبق وأحضرها معه، احتوت علي غطاء مصباح أحمر؛ وضعه علي المصباح الذي أحضره من الحجرة الأخري. وبعد فترة صمت، كما لو كان غير واثق من ضرورة أن يقول شيئًا ما، قال "هل تود المجيء لحجرتي الخاصة؟"
حاملًا المصباح المغطي بالغطاء الأحمر، مرّ عبر ممر مظلم يشبه المتاهة له سقف مقوس وأرضية مغطاة بسجادة حمراء مصنوعة من قطع القماش. عندئذ فتح بابًا آخر. دخلنا حجرة تشبه بيضة من الدخل. بدا كما لو أنها بلا فتحات علي العالم الخارجي باستثناء، بالطبع، باب الحجرة المفتوح علي الممر.
مفتقرة لأي سمات هندسية، كانت الجدران الداخلية المقعرة، والسقف والأرضية؛ جميعها مغطاة بقماش مخملي لونه أحمر داكن. بعد استنشاق رائحة عطر كثيفة تملأ الحجرة، شعرت بقدر من الدوار.
وضع المصباح علي المنضدة، وجلس علي سريره الذي كان بمنتصف الحجرة، وأشار لي لأجلس علي مقعد جوار المنضدة. وعلي المنضدة، كانت هناك زجاجة وإبريق ماء. دهشًا، نظرت حولي مفكرًا أن الرجل يجب أن يكون مريضًا عقليًا، وهذه الحجرة هي حجرة التعذيب. كانت الجدران مغطاة بالدم، هكذا ظننت، للتغطية علي دماء ضحاياه. وهكذا يصبح من الصعب القبض عليه.
وبالإضافة لهذا الباب، لم يكن للمكان أي منفذ علي العالم الخارجي. ولا يستطيع أحد التكهن بما يحدث داخلها، وذلك بعيدًا عن إمكانية الحصول علي مساعدة أخري. وكنت في انتظار ضربة هراوة علي رأسي من حيث لا أحتسب أو أن يهاجمني هذا الرجل بسكين أو بلطة، لكنه بنفس نبرة صوته الهادئة، قال " ما رأيك في حجرتي؟"
" حجرة؟ عذرًا، فأنا أشعر كما لو كنت داخل حقيبة بلاستيك."
ودون أن يبدي أدني انتباه لما قلت، أكمل " تتكون وجبتي من اللبن. أترغب في بعض منه؟"
" لا. شكرًا. لقد تناولت عشائي."
"كوب من اللبن سيفيدك."
قال هذا ووضع إبريق اللبن أمامي. ورغم أنني لم أشعر برغبة في تناول أي شيء، صببت كوبًا من اللبن وشربته. وعندئذ، صبّ باقي اللبن في كوبه وبدأ يرتشفه. وبين حين وآخر كان يبلل شفتيه بلسانه. كانت شفتاه تلمعان وجفناه شبه مغلقين.. فبدا كما لو كان يبحث عن بعض الذكريات البعيدة. وأسفل الضوء الأحمر، بدا وجهه الشاب الشاحب، وأنفه القصير المستقيم وشفتاه الممتلئتان؛ بدت جميعها شهوانية وجذابة. وكان هناك وريد كبير بارز علي جبهته الواسعة. وكان شعره البني الطويل منسدلًا علي كتفيه. وكما لو كان يتحدث إلي نفسه، قال "لم أشارك مباهج الآخرين. شعور مربك، شعور نابع عن سوء الحظ، يحول بيني وبين السعادة. ومثل هذا الشعور بسوء الحظ ينتج عن ألم العيش، وصعوبات الكفاح، لكن الأهم مخاطر التعامل مع الناس. مأزق المجتمع المتحلل، والحاجة للطعام والملابس، ومثل هذه الأشياء التي أخمدت تفتح وجودنا الحقيقي.
في الماضي، تورطت في عالم البشر العادي، وقلدت وسائله البائسة، لكنني سرعان ما أدركت أنني بذلك أجعل من نفسي مغفلًا. جربت جميع مباهج البشر، لكنني وجدتها كريهة إلي حد بعيد.
شعرت خلال كل ذلك بأنني منبوذ، تركت وحيدًا، كما لو كنت غريبًا علي عالمهم. ولم أتمكن من خلق أية علاقة ذات معني بيني وبينهم. لم أتمكن من جعل حياتي متماشية مع حياتهم. وقلت لنفسي باستمرار "سأترك هذا المجتمع لأعيش في عزلة بقرية صغيرة أو مكان ناءٍ." لكنني لم أستهدف استخدام هذه العزلة لتحقيق الشهرة أو مكسب شخصي. فلم أرغب أن يقودني شخص ما أو أقوم بتقليده. كل ما رغبت فيه كان العثور علي مكان أستطيع فيه استكشاف نفسي، مكان لا يسهم في تشتت أفكاري. لقد ولدتُ كسولًا، ومقتنعًا بأن العمل يتعلق بغير المتحققين، بهؤلاء الذين يرغبون في إشباع احتياج بداخلهم. العمل مرتبط بالمعدمين الوضيعين. فأجدادي كذلك شعروا بهذا الخواء. لكنهم عملوا بجد، وفكروا عميقًا وتأملوا الأحداث. ولم تعد مثل هذه الرغبات تقلقهم، فلقد تركوا عبء كسلهم المتراكم بأكمله لأتحمله وحدي. لا أتباهي بأجدادي. بالإضافة إلي ذلك، فإن الناس في هذا البلد ليست لديهم سلاسل نسب مثل غيرهم في الأمم الأُخري. قم بتحليل سلالة أي دولة أو سلطنة، وستكتشف حينها أنه منذ جيلين كانوا لصوصًا، قطاع طرق، مهرجي بلاط، أو مجرد صرافين. وإذا كنا مصرين علي الغوص عميقًا في سلسلة نسبي، مثل الباقين، ألن نصل للغوريلا والشمبانزي؟ المسألة أنني لم أُخلق للعمل.
ويبدو أن طبقة الأثرياء الجدد هي الوحيدة التي بوسعها المطالبة بنمط الحياة. فلقد ابتدعوا مجتمعًا متوافقًا مع طمعهم وشهوتهم. وعند القيام بأبسط الخطوات، يصبح من الواجب علي الآخرين أن يقبلوا قواعدهم المفروضة، كما لو كانوا يبتلعون حبة دواء. ويطلق الأثرياء الجدد علي هذا الوضع "العبودية"، فعلي الجميع الحصول علي قوت يومهم بالاستجداء عند بوابتهم. فقط حفنة من اللصوص، والحمقي الوقحين والأشخاص المرضي يسمح لهم بالحياة في هذا المناخ.
أما غير المناسبين للسرقة أو الدناءة وغير القادرين علي التملق، يتم تصنيفهم "غير مناسبين للحياة!" إنهم لا يستطيعون إدراك طبيعية ألمي، أو الشعور بعبء الميراث الذي أنوء بحمله! فسخرة أسلافي بداخلي، وأستطيع الشعور بحنينهم للماضي.
رغبت أن أعثر علي فتحة في الأرض، ومثل حيوان يقضي الشتاء في بيات شتوي، انزلقت لداخل نفسي. وبهذه الطريقة أستطيع اكتشاف ذاتي. فهناك الكثير في البشر يتسم بالنعومة والاختباء... يقره ثقل الاهتمامات والأعباء اليومية وصخب الحياة. وعند أول فرصة، تطفو هذه الأشياء للسطح، ومثل الصورة التي تتضح أبعادها في اللقطة الشاملة للمصور الفوتوغرافي، لتظهر لنا في الظلام. هذا الظلام موجود بداخلنا، ودون طائل حاولت تبديده. أشعر بالأسي لضرورة الاختلاط بالناس بشكل عام، حتي ولو لفترة قصيرة, والآن، أدرك أن الجزء الأكثر قيمة في حياتي إنما هو هذا الظلام نفسه والسكون المصاحب له. هذا الظلام جزء من كل كائن حي، لكنه لا يبدو لنا إلي أن يحين الوقت عندما ننعزل عن العالم الظاهري ونغوص داخل أنفسنا.
وتأكيدًا، يحاول الناس العاديون الهروب من هذه الوحدة وهذا الظلام. يحاولون تغطية آذانهم حتي لا يسمعوا نداء الموت، إنهم يحاولون تبديد وجودهم الفردي وسط صخب الحياة. لست مثل الصوفيين، الذين يتوقعون "شروق شمس الحقيقة." وعلي النقيض من ذلك، فإنني أتوقع أن يهبط الشيطان عليّ. أرغب أن أكون ما أنا عليه. فالأحاديث البراقة، لكن الفارغة، عن التنور تجعلني أشعر بالنفور. فأنا لا أرغب في خسارة كبريائي بالتوسل لعصبة من اللصوص، والمهربين والمغلفين من عباد الذهب؛ لأجل الحصول علي قوت يومي.
وبداخل هذه الحجرة، أستطيع أن أعيش داخل نفسي بما يحفظ طاقتي من التبدد دون طائل. أحتاج هذا الظلام وهذا الضوء الأحمر. فلا أستطيع الجلوس بحجرة بنافذة خلفي. ففي مثل هذا المناخ تتبدد أفكاري، بالإضافة إلي أنني لا أحب الضوء. ففي ضوء الشمس، يبدو كل شيء عاديًا وتافهًا، بينما الخوف والظلام هما المصدر الحقيقي للجمال. خذ القط علي سبيل المثال. فخلال النهار يكون أليفًا كفاية، بينما في الليل تتوهج عيناه، ويلمع الشعر الذي يغطي جسده وتصبح خطواته غامضة. وتظهر الشجيرات كثيفة الأغصان، المزهرة والسقيمة، ممتلئة بشباك العنكبوت كما لو كانت تتخذ هالة غامضة وخاصة في الليل. الضوء يوقظ جميع الكائنات ويجعلها منتبهة وحذرة.
ففي الليل والظلام يصبح لدي جميع الأشياء المعتادة غموض. وبعد ذلك تصحو المشاعر الكامنة والمفقودة. فبوسع المرء النوم في الظلام، وأيضًا سماع الأشياء. يكون المرء يقظًا. الحياة الفعلية تبدأ حينئذ. ويتم تجاوز الغرائز محدودة القيمة والأهواء الحمقاء، ويدخل الإنسان بعدًا روحيًا. ويستدعي أشياء لم يعرفها مطلقًا أو يتخيلها حتي.
وبعد هذا الفاصل البلاغي، عاد للصمت. وبدا أن يحاول تبرئة نفسه بمثل هذه المحاضرة. هل كان الطفل الضجر لعائلة ثرية، سئم الحياة، أم كان مصابًا بمرض ما غريب؟ وفي أي من الحالتين، فإنه لم يفكر مثل أي شخص عادي. كنت مرتبكًا. كيف أتعامل مع كل هذا؟ لقد أصبح الخط الموجود عند جانب شفته أكثر وضوحًا، وظهر وريد داكن اللون علي جبهته. وعندما تحدث، ارتعشت فتحتا أنفه. وتحت الضوء الأحمر، بدا وجهه الشاحب متعبًا وحزينًا، علي خلاف تام من الوجه الذي سبق ورأيته في الأوتوبيس. وعندما خفض رأسه، لاحت ابتسامة شاحبة علي شفتيه. وعندئذ، كما لو كان قد أدركه فجأة، وقد رمقني بنظرة ساخرة، قال " أنت كثير السفر، ولابد أن تكون مرهقًا. لقد احتكرت المحادثة!"
" تحدثنا عن أنفسنا. فنحن الحقيقة الوحيدة الموجودة علي الإطلاق. تحدثنا عن أنفسنا بتلقائية تامة، خاصة عندما نعبر عن مشاعرنا وملاحظاتنا بكلمات شخص آخر. والشيء الأكثر صعوبة هو التعبير عن النفس بالدقة التي ننشدها."
رغبت لو أنني لم أغامر بالرد. فما قلته كان فارغًا من المعني تمامًا، وبلا نفع وفي غير موضعه. لا أعرف ما كنت أحاول إثباته. ربما، كنت أتملق مضيفي بطريقة غير مباشرة. لكنه، دون أن يوليني أي انتباه، حدق تجاهي متألمًا. ومجددًا كان جفناه مغلقين. وكما لو كان في عالم آخر، داوم علي مسح شفتيه المبللتين بلسانه، متجاهلًا وجودي تمامًا.
كان يقول " رغبت دائمًا في تصميم وبناء مكان يخصني. فالمنازل والحجرات التي يبنيها الآخرون ليست جيدة بالنسبة لي. رغبت أن أكون نفسي وأغوص داخلي. ولهذا حولت كل ثروتي إلي أموال سائلة، ثُمّ أتيت إلي هنا ودفعت لبناء هذه الحجرة وفقًا لمواصفاتي الخاصة.
أحضرت كل هذه الستائر المخملية معي. وأشرفت علي كل تفصيلة في هذه الحجرة. الشيء الوحيد الذي نسيته كان غطاء المصباح. وأرسلت التصميم والحجم لطهران. وصنعوا لي واحدًا، واليوم أحضرته من هناك.
ولهذا السبب كنت مسافرًا، ولولا هذا ما غادرت حجرتي وما حاولت الاختلاط بالناس. وبالنسبة للطعام، فلقد اتخذت اللبن نظامًا غذائيًا. وذلك لأنني أستطيع أن أشربه جالسًا أو مستلقيًا، وبذلك وفرت علي نفسي عناء تجهيز الطعام. كذلك يجب أن أقول إنني أقسمت علي العيش كما أريد إلي أن أتعرض للإفلاس أو أشعر بحاجة للعودة للمجتمع.
وهذه هي الليلة الأولي التي أنام فيها بحجرتي الخاصة. وهكذا شعرت بأنني أكثر محظوظ بالعالم لأنني أشبعت جميع رغباتي. رجل محظوظ!
كم صعبًا أن يتم تخيل مثل ذلك المخلوق. لم يسبق لي تخيل هذه الحالة مطلقًا. ورغم ذلك، ففي هذه اللحظة، أنا رجل محظوظ!"
ومرة أخري ساد السكون. ولاختراق هذا السكون، قلت " الحالة التي تسعي لبلوغها هي حالة الجنين داخل رحم الأم، حيث يستطيع المرء، دون حاجة للصراع أو التملق أو الكفاح، أن يتمدد داخل العضو الدافئ الأحمر، متغذيًا من دم الأم ومستمتعًا بإشباع الرغبات والاحتياجات دون مجهود.
أو ربما تبحث عن ذلك الفردوس المفقود والذي يقبع في لا وعي كل إنسان، ذلك المكان حيث يعيش كل واحد بنفسه ولنفسه. وعندئذ، مجددًا، فربما تطلع إلي الموت بإرادتك"
وكما لو كان لم يتوقع أن يقاطع أي شخص هذه المناقشة الخاصة، رمقني بنظر ساخرة وقال، "ستسافر، ومن الأفضل أن تنام لبعض الوقت!"
التقط المصباح، وصحبني حتي نهاية الرواق، وأشار إلي الحجرة التي وصلنا لها أولًا. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. استنشقت الهواء المنعش وشعرت بأنني قد غادرت بقعة باردة وسقيمة. تلألأت النجوم في السماء. وتساءلت في دهشة عما إذا كنت أتعامل مع رجل يعاني وسواس النظافة أم مع رجل غريب الأطوار.

استيقظت حوالي العاشرة صباح اليوم التالي. ولتوديع مضيفي، توجهت إلي الممر، ومثل كافر يقترب من معبد، طرقت الباب برفق. كان الممر مظلمًا وساكنًا. ودخلت الحجرة خلسةً. كان المصباح مشتعلًا. وكان مضيفي مرتديًا لبيجامته القرنفلية.
كان مستلقيًا في الوضع الجنيني ويداه تغطيان وجهه. اقتربت منه وهززته من كتفيه. كان جامدًا في موضعه. مرعوبًا، غادرت الحجرة وتوجهت إلي محطة الأوتوبيس، فلقد كنت حريصًا علي اللحاق به.
هل أفلس، كما قال؟ أم، لخوفه من الوحدة التي امتدحها في بلاغة، هل رغب، في تلك الليلة الماضية، أن يحظي بصحبة شخص ما؟ أو ربما كان رجلًا محظوظًا رغب في الحفاظ علي حسن حظه، وكان هذا المكان هو حجرته المثالية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.