«أكسيوس»: الديمقراطيون يبدون استعدادهم لإنهاء الإغلاق الحكومي    قوات الاحتلال الإسرائيلى تهدد العمال فى الضفة بعدم التوجه إلى القدس    نتنياهو يفرض عقوبات صارمة على وزراء حكومته بسبب الغياب والتأخر المتكرر    عاجل نقل الفنان محمد صبحي للعناية المركزة.. التفاصيل هنا    طوابير بالتنقيط وصور بالذكاء الاصطناعي.. المشهد الأبرز في تصويت المصريين بالخارج يكشف هزلية "انتخابات" النواب    ترامب يتهم "بي بي سي" بالتلاعب بخطابه ومحاولة التأثير على الانتخابات الأمريكية    وزير الزراعة عن الحمى القلاعية: نسب النفوق منخفضة جدا.. وندرس تعويضات المزارعين المتضررين    رئيس لجنة كورونا يوضح أعراض الفيروس الجديد ويحذر الفئات الأكثر عرضة    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    مي عمر أمام أحمد السقا في فيلم «هيروشيما»    أسعار الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 10 نوفمبر 2025    وزير المالية: نسعى لتنفيذ صفقة حكوميه للتخارج قبل نهاية العام    غارات جوية أمريكية تستهدف تنظيم القاعدة في اليمن    رعب في بروكسل بعد رصد طائرات مسيرة تحلق فوق أكبر محطة نووية    سيلتا فيجو ضد برشلونة.. ليفاندوفسكي: علينا التحسن بعد التوقف الدولي    أمواج تسونامى تضرب شمال شرق اليابان بعد زلزال بقوة 6.9 درجة    برشلونة يحقق فوزًا مثيرًا على سيلتا فيجو برباعية    طارق قنديل: الدوري لن يخرج من الأهلي.. وتوروب يسير بخطى ثابتة    «مش بيلعب وبينضم».. شيكابالا ينتقد تواجد مصطفى شوبير مع منتخب مصر    باريس سان جيرمان يسترجع صدارة الدوري بفوز على ليون في ال +90    معسكر منتخب مصر المشارك في كأس العرب ينطلق اليوم استعدادا لمواجهتي الجزائر    الطالبان المتهمان في حادث دهس الشيخ زايد: «والدنا خبط الضحايا بالعربية وجرى»    وفاة العقيد عمرو حسن من قوات تأمين الانتخابات شمال المنيا    "مصر تتسلم 3.5 مليار دولار".. وزير المالية يكشف تفاصيل صفقة "علم الروم"    عمرو أديب عن نهائي السوبر بين الأهلي والزمالك: «معلق المباراة جابلي هسهس»    مفتى الجمهورية يشارك فى مناقشة رسالة ماجستير بجامعة المنصورة.. صور    متى ستحصل مصر على الشريحتين الخامسة والسادسة من قرض صندوق النقد؟ وزير المالية يجيب    «لا تقاوم».. طريقة عمل الملوخية خطوة بخطوة    ON SPORT تعرض ملخص لمسات زيزو فى السوبر المحلى أمام الزمالك    «لاعيبة لا تستحق قميص الزمالك».. ميدو يفتح النار على مسؤولي القلعة البيضاء    مساعد وزير الصحة لنظم المعلومات: التحول الرقمي محور المؤتمر العالمي الثالث للسكان والصحة    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    3 سيارات إطفاء تسيطر على حريق مخبز بالبدرشين    تطورات الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثى بعد تعرضه لحادث أليم    كشف ملابسات فيديو صفع سيدة بالشرقية بسبب خلافات على تهوية الخبز    هدوء ما قبل العاصفة.. بيان مهم بشأن تقلبات الطقس: استعدوا ل الأمطار والرياح    أداة «غير مضمونة» للتخلص من الشيب.. موضة حقن الشعر الرمادي تثير جدلا    نشأت أبو الخير يكتب: القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية    البابا تواضروس ومحافظ الجيزة يفتتحان عددًا من المشروعات الخدمية والاجتماعية ب6 أكتوبر    انتخابات مجلس النواب 2025.. خطوات الاستعلام عن اللجنة الانتخابية بالمرحلة الأولى (رابط)    3 أبراج «مستحيل يقولوا بحبك في الأول».. يخافون من الرفض ولا يعترفون بمشاعرهم بسهولة    الصحة ل ستوديو إكسترا: 384 مشروعا لتطوير القطاع الصحي حتى عام 2030    ميشيل مساك لصاحبة السعادة: أغنية الحلوة تصدرت الترند مرتين    عمرو أديب عن العلاقات المصرية السعودية: «أنا عايز حد يقولي إيه المشكلة؟!»    حضور فني ضخم في عزاء والد محمد رمضان بمسجد الشرطة بالشيخ زايد.. صور    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025    انقطاع التيار الكهربائي عن 19 قرية وتوابعها فى 7 مراكز بكفر الشيخ    نجل عبد الناصر يرد على ياسر جلال بعد تصريح إنزال قوات صاعقة جزائرية بميدان التحرير    السجن المشدد 10 سنوات للمتهم بحيازة أقراص ترامادول وحشيش في الزيتون    فوائد زيادة العضلات بالجسم بعد الأربعين    محافظ الغربية يتفقد مستشفى قطور المركزي وعيادة التأمين الصحي    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    بث مباشر.. صدام النجوم المصريين: مانشستر سيتي يواجه ليفربول في قمة الدوري الإنجليزي    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة المنزل المظلم
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 06 - 2015

كان الرجل الذي استقل أوتوبيسنا في خنسار تلك الليلة قد أحكم حول جسده معطف مطر أزرق داكن، وجذب الحواف الطويلة لقبعته إلي أسفل لتغطي مقدمة رأسه، كما لو كان قد رغب في حماية وعزل نفسه عما يحيط به وعن أي تواصل مع الناس.
كان يحمل لفافة تحت إبطه، وعندما جلس داخل الأوتوبيس، استخدم يده لحمايتها. وخلال أول نصف ساعة من جلوسنا متجاورين في السيارة، لم يشارك في الكلام الدائر بين السائق وبقية المسافرين. ولهذا السبب ترك عليهم أثرًا قويًا ومربكًا.
وفي ظل إضاءة خاطفة لضوء من داخل الأوتوبيس أو خارجه، استرقت لمحة سريعة لوجهه: كان شاحبًا. كان له أنف صغير لكن مستقيم، وبدا جفناه الناعسان واضحين لكنهما شبه مغلقين. وكانت هناك تجعيدة عميقة علي جانبي شفتيه كما لو أنه تمّ نحتهما من حجر. وفي بعض الأوقات يقوم بترطيب شفتيه بمقدمة لسانه، ثمّ يشرد كما لو كان يستجمع شتات فكره.
توقف الأوتوبيس في خنسار أمام محطة ماداني النهائية. ورغم أنه كان من المفترض أن نسافر طوال الليل، فلقد غادر السائق وجميع الركاب الأوتوبيس. تفحصت النُزُل الصغير والمحطة النهائية، لكنهما كانتا غير ملائمتين. عندئذ عدت إلي الأوتوبيس للتأكد أننا يجب أن نقضي الليل هنا، قلت للسائق؛ "يبدو أننا سنقضي الليلة هنا!"
قال؛ "نعم، فالطريق ليست جيدة. سنبقي هنا الليلة ونغادر في الصباح الباكر."
وحينئذ لاحظت فجأة أن الرجل في معطف المطر اقترب مني. وبصوت جهور لكن هادئ قال "أشك أن بوسعك العثور علي مكان مناسب لنقضي الليلة به. إذا لم تكن لديك معرفة بالمكان حولنا، فلماذا لا تأتي لقضاء الليلة في منزلي؟
"شكرًا. لكنني لا أرغب في إزعاجك."
"لا إزعاج في الأمر. فأنا أكره التعارف. لا أعرفك ولا أرغب في معرفتك. وليس في الموقف أي فضل أو معروف. فمؤخرًا بنيت حجرة، ومنذئذ أصبحت حجرتي القديمة شاغرة. وظننت أنها ستكون مريحة أكثر من النُزُل."
كان لكلماته البسيطة والتلقائية تأثير عليّ وجعلتني أدرك أنني لا أتعامل مع رجل عادي. قلت "حسنًا، لنذهب!"
وبلا تردد، بدأت أتبعه. أخرج من جيبه كشاف إضاءة وأشعله. سبقنا ضوء الكشاف الساطع. ومررنا بالعديد من الطرق الضيقة؛ علي جانبيها جدران من الطوب اللبِن. كان كل شيء ساكنًا، ساكنًا بما يكفي للتأثير في حواس المرء. وكثيرًا كنا نسمع صوت تساقط المياه، وقليلًا ما كنا نشعر بهبوب نسيم بارد علي وجوهنا. عندئذ لاحظت الأضواء التي كانت ساطعة في منزلين يظهران عن بعد. لم أنطق بأي شيء لبرهة، ومشيت بصحبته صامتًا. ثمّ لأستحث رفيقي المجهول علي الكلام، قلت " هذه مدينة جميلة."
بعد أن جفل عند سماع صوتي. وبعد برهة قال " أفضل خنسار علي جميع المدن التي زرتها في إيران. ولا يرجع ذلك لأنها تضم الكثير من الحقول والبساتين، بل لأنها احتفظت بالكثير من فتنتها القديمة. احتفظت بأجواء القرون الوسطي في الأزقة، بين جدران الطوب اللبن وأسفل تلك الأشجار الطويلة. وبالمدينة مشاعر مضيافة ملموسة، لدرجة أن المرء، في الطرقات الفرعية، سيشعر بالراحة كما لو كان من أهلها في الماضي.
والمنطقة بأكملها معزولة، وهذا عامل يؤكد عبقها الشعري، فهي بعيدة عن الصحف والطائرات والقطارات التي تعد طاعون هذا القرن، خاصة السيارة التي، بالإضافة لصوت نفيرها المزعج وما تثيره من غبار، تحمل ذهنية القيادة والهيمنة إلي أصغر القري في البلاد. لقد أقحمت كل هذه الأفكار الجديدة غير الناضجة، والآراء المنحرفة وأشكال المحاكاة الغبية في كل حيز متاح."
ووجه ضوء الكشاف علي بعض نوافذ هذه المنازل، وقال: "انظر. لهذا المكان نوافذ من الخشب الجميل والمنازل المنفصلة. بوسعك أن تشم رائحة الأرض، ورائحة البرسيم المحصود حديثًا، بالإضافة للروائح الأقل جاذبية. وبوسع المرء أن يسمع صوت زقزقة الطيور. واستدعت الطريقة البسيطة في براعة التي ينجز بها سكان المدينة أعمالهم عالمًا مفقودًا، عالم الضجيج للأثرياء الجدد."
وعندئذ، كما لو كان تذكر فجأة أنه قد دعاني لمنزله، سألني "هل تناولت العشاء؟"
"نعم. تناولنا العشاء في جولبايجان."
عبرنا العديد من جداول المياه حتي وصلنا في النهاية إلي مكان بالقرب من الجبل، حيث قام بفتح بوابة حديقة. وبعد تجاوز البوابة كان هناك منزل مشيد حديثًا. دخلنا حجرة صغيرة تضم سريرًا مطويًا، ومنضدة ومقعدين بذراعين. أشعل مصباحًا يعمل بالكيروسين، ودخل حجرة مجاورة. وبعد دقائق قليلة، عاد مرتديًا بيجامه لونها قرنفلي. وأحضر مصباحًا آخر وقام بإشعاله.
وبعد ذلك قام بفض لفافة سبق وأحضرها معه، احتوت علي غطاء مصباح أحمر؛ وضعه علي المصباح الذي أحضره من الحجرة الأخري. وبعد فترة صمت، كما لو كان غير واثق من ضرورة أن يقول شيئًا ما، قال "هل تود المجيء لحجرتي الخاصة؟"
حاملًا المصباح المغطي بالغطاء الأحمر، مرّ عبر ممر مظلم يشبه المتاهة له سقف مقوس وأرضية مغطاة بسجادة حمراء مصنوعة من قطع القماش. عندئذ فتح بابًا آخر. دخلنا حجرة تشبه بيضة من الدخل. بدا كما لو أنها بلا فتحات علي العالم الخارجي باستثناء، بالطبع، باب الحجرة المفتوح علي الممر.
مفتقرة لأي سمات هندسية، كانت الجدران الداخلية المقعرة، والسقف والأرضية؛ جميعها مغطاة بقماش مخملي لونه أحمر داكن. بعد استنشاق رائحة عطر كثيفة تملأ الحجرة، شعرت بقدر من الدوار.
وضع المصباح علي المنضدة، وجلس علي سريره الذي كان بمنتصف الحجرة، وأشار لي لأجلس علي مقعد جوار المنضدة. وعلي المنضدة، كانت هناك زجاجة وإبريق ماء. دهشًا، نظرت حولي مفكرًا أن الرجل يجب أن يكون مريضًا عقليًا، وهذه الحجرة هي حجرة التعذيب. كانت الجدران مغطاة بالدم، هكذا ظننت، للتغطية علي دماء ضحاياه. وهكذا يصبح من الصعب القبض عليه.
وبالإضافة لهذا الباب، لم يكن للمكان أي منفذ علي العالم الخارجي. ولا يستطيع أحد التكهن بما يحدث داخلها، وذلك بعيدًا عن إمكانية الحصول علي مساعدة أخري. وكنت في انتظار ضربة هراوة علي رأسي من حيث لا أحتسب أو أن يهاجمني هذا الرجل بسكين أو بلطة، لكنه بنفس نبرة صوته الهادئة، قال " ما رأيك في حجرتي؟"
" حجرة؟ عذرًا، فأنا أشعر كما لو كنت داخل حقيبة بلاستيك."
ودون أن يبدي أدني انتباه لما قلت، أكمل " تتكون وجبتي من اللبن. أترغب في بعض منه؟"
" لا. شكرًا. لقد تناولت عشائي."
"كوب من اللبن سيفيدك."
قال هذا ووضع إبريق اللبن أمامي. ورغم أنني لم أشعر برغبة في تناول أي شيء، صببت كوبًا من اللبن وشربته. وعندئذ، صبّ باقي اللبن في كوبه وبدأ يرتشفه. وبين حين وآخر كان يبلل شفتيه بلسانه. كانت شفتاه تلمعان وجفناه شبه مغلقين.. فبدا كما لو كان يبحث عن بعض الذكريات البعيدة. وأسفل الضوء الأحمر، بدا وجهه الشاب الشاحب، وأنفه القصير المستقيم وشفتاه الممتلئتان؛ بدت جميعها شهوانية وجذابة. وكان هناك وريد كبير بارز علي جبهته الواسعة. وكان شعره البني الطويل منسدلًا علي كتفيه. وكما لو كان يتحدث إلي نفسه، قال "لم أشارك مباهج الآخرين. شعور مربك، شعور نابع عن سوء الحظ، يحول بيني وبين السعادة. ومثل هذا الشعور بسوء الحظ ينتج عن ألم العيش، وصعوبات الكفاح، لكن الأهم مخاطر التعامل مع الناس. مأزق المجتمع المتحلل، والحاجة للطعام والملابس، ومثل هذه الأشياء التي أخمدت تفتح وجودنا الحقيقي.
في الماضي، تورطت في عالم البشر العادي، وقلدت وسائله البائسة، لكنني سرعان ما أدركت أنني بذلك أجعل من نفسي مغفلًا. جربت جميع مباهج البشر، لكنني وجدتها كريهة إلي حد بعيد.
شعرت خلال كل ذلك بأنني منبوذ، تركت وحيدًا، كما لو كنت غريبًا علي عالمهم. ولم أتمكن من خلق أية علاقة ذات معني بيني وبينهم. لم أتمكن من جعل حياتي متماشية مع حياتهم. وقلت لنفسي باستمرار "سأترك هذا المجتمع لأعيش في عزلة بقرية صغيرة أو مكان ناءٍ." لكنني لم أستهدف استخدام هذه العزلة لتحقيق الشهرة أو مكسب شخصي. فلم أرغب أن يقودني شخص ما أو أقوم بتقليده. كل ما رغبت فيه كان العثور علي مكان أستطيع فيه استكشاف نفسي، مكان لا يسهم في تشتت أفكاري. لقد ولدتُ كسولًا، ومقتنعًا بأن العمل يتعلق بغير المتحققين، بهؤلاء الذين يرغبون في إشباع احتياج بداخلهم. العمل مرتبط بالمعدمين الوضيعين. فأجدادي كذلك شعروا بهذا الخواء. لكنهم عملوا بجد، وفكروا عميقًا وتأملوا الأحداث. ولم تعد مثل هذه الرغبات تقلقهم، فلقد تركوا عبء كسلهم المتراكم بأكمله لأتحمله وحدي. لا أتباهي بأجدادي. بالإضافة إلي ذلك، فإن الناس في هذا البلد ليست لديهم سلاسل نسب مثل غيرهم في الأمم الأُخري. قم بتحليل سلالة أي دولة أو سلطنة، وستكتشف حينها أنه منذ جيلين كانوا لصوصًا، قطاع طرق، مهرجي بلاط، أو مجرد صرافين. وإذا كنا مصرين علي الغوص عميقًا في سلسلة نسبي، مثل الباقين، ألن نصل للغوريلا والشمبانزي؟ المسألة أنني لم أُخلق للعمل.
ويبدو أن طبقة الأثرياء الجدد هي الوحيدة التي بوسعها المطالبة بنمط الحياة. فلقد ابتدعوا مجتمعًا متوافقًا مع طمعهم وشهوتهم. وعند القيام بأبسط الخطوات، يصبح من الواجب علي الآخرين أن يقبلوا قواعدهم المفروضة، كما لو كانوا يبتلعون حبة دواء. ويطلق الأثرياء الجدد علي هذا الوضع "العبودية"، فعلي الجميع الحصول علي قوت يومهم بالاستجداء عند بوابتهم. فقط حفنة من اللصوص، والحمقي الوقحين والأشخاص المرضي يسمح لهم بالحياة في هذا المناخ.
أما غير المناسبين للسرقة أو الدناءة وغير القادرين علي التملق، يتم تصنيفهم "غير مناسبين للحياة!" إنهم لا يستطيعون إدراك طبيعية ألمي، أو الشعور بعبء الميراث الذي أنوء بحمله! فسخرة أسلافي بداخلي، وأستطيع الشعور بحنينهم للماضي.
رغبت أن أعثر علي فتحة في الأرض، ومثل حيوان يقضي الشتاء في بيات شتوي، انزلقت لداخل نفسي. وبهذه الطريقة أستطيع اكتشاف ذاتي. فهناك الكثير في البشر يتسم بالنعومة والاختباء... يقره ثقل الاهتمامات والأعباء اليومية وصخب الحياة. وعند أول فرصة، تطفو هذه الأشياء للسطح، ومثل الصورة التي تتضح أبعادها في اللقطة الشاملة للمصور الفوتوغرافي، لتظهر لنا في الظلام. هذا الظلام موجود بداخلنا، ودون طائل حاولت تبديده. أشعر بالأسي لضرورة الاختلاط بالناس بشكل عام، حتي ولو لفترة قصيرة, والآن، أدرك أن الجزء الأكثر قيمة في حياتي إنما هو هذا الظلام نفسه والسكون المصاحب له. هذا الظلام جزء من كل كائن حي، لكنه لا يبدو لنا إلي أن يحين الوقت عندما ننعزل عن العالم الظاهري ونغوص داخل أنفسنا.
وتأكيدًا، يحاول الناس العاديون الهروب من هذه الوحدة وهذا الظلام. يحاولون تغطية آذانهم حتي لا يسمعوا نداء الموت، إنهم يحاولون تبديد وجودهم الفردي وسط صخب الحياة. لست مثل الصوفيين، الذين يتوقعون "شروق شمس الحقيقة." وعلي النقيض من ذلك، فإنني أتوقع أن يهبط الشيطان عليّ. أرغب أن أكون ما أنا عليه. فالأحاديث البراقة، لكن الفارغة، عن التنور تجعلني أشعر بالنفور. فأنا لا أرغب في خسارة كبريائي بالتوسل لعصبة من اللصوص، والمهربين والمغلفين من عباد الذهب؛ لأجل الحصول علي قوت يومي.
وبداخل هذه الحجرة، أستطيع أن أعيش داخل نفسي بما يحفظ طاقتي من التبدد دون طائل. أحتاج هذا الظلام وهذا الضوء الأحمر. فلا أستطيع الجلوس بحجرة بنافذة خلفي. ففي مثل هذا المناخ تتبدد أفكاري، بالإضافة إلي أنني لا أحب الضوء. ففي ضوء الشمس، يبدو كل شيء عاديًا وتافهًا، بينما الخوف والظلام هما المصدر الحقيقي للجمال. خذ القط علي سبيل المثال. فخلال النهار يكون أليفًا كفاية، بينما في الليل تتوهج عيناه، ويلمع الشعر الذي يغطي جسده وتصبح خطواته غامضة. وتظهر الشجيرات كثيفة الأغصان، المزهرة والسقيمة، ممتلئة بشباك العنكبوت كما لو كانت تتخذ هالة غامضة وخاصة في الليل. الضوء يوقظ جميع الكائنات ويجعلها منتبهة وحذرة.
ففي الليل والظلام يصبح لدي جميع الأشياء المعتادة غموض. وبعد ذلك تصحو المشاعر الكامنة والمفقودة. فبوسع المرء النوم في الظلام، وأيضًا سماع الأشياء. يكون المرء يقظًا. الحياة الفعلية تبدأ حينئذ. ويتم تجاوز الغرائز محدودة القيمة والأهواء الحمقاء، ويدخل الإنسان بعدًا روحيًا. ويستدعي أشياء لم يعرفها مطلقًا أو يتخيلها حتي.
وبعد هذا الفاصل البلاغي، عاد للصمت. وبدا أن يحاول تبرئة نفسه بمثل هذه المحاضرة. هل كان الطفل الضجر لعائلة ثرية، سئم الحياة، أم كان مصابًا بمرض ما غريب؟ وفي أي من الحالتين، فإنه لم يفكر مثل أي شخص عادي. كنت مرتبكًا. كيف أتعامل مع كل هذا؟ لقد أصبح الخط الموجود عند جانب شفته أكثر وضوحًا، وظهر وريد داكن اللون علي جبهته. وعندما تحدث، ارتعشت فتحتا أنفه. وتحت الضوء الأحمر، بدا وجهه الشاحب متعبًا وحزينًا، علي خلاف تام من الوجه الذي سبق ورأيته في الأوتوبيس. وعندما خفض رأسه، لاحت ابتسامة شاحبة علي شفتيه. وعندئذ، كما لو كان قد أدركه فجأة، وقد رمقني بنظرة ساخرة، قال " أنت كثير السفر، ولابد أن تكون مرهقًا. لقد احتكرت المحادثة!"
" تحدثنا عن أنفسنا. فنحن الحقيقة الوحيدة الموجودة علي الإطلاق. تحدثنا عن أنفسنا بتلقائية تامة، خاصة عندما نعبر عن مشاعرنا وملاحظاتنا بكلمات شخص آخر. والشيء الأكثر صعوبة هو التعبير عن النفس بالدقة التي ننشدها."
رغبت لو أنني لم أغامر بالرد. فما قلته كان فارغًا من المعني تمامًا، وبلا نفع وفي غير موضعه. لا أعرف ما كنت أحاول إثباته. ربما، كنت أتملق مضيفي بطريقة غير مباشرة. لكنه، دون أن يوليني أي انتباه، حدق تجاهي متألمًا. ومجددًا كان جفناه مغلقين. وكما لو كان في عالم آخر، داوم علي مسح شفتيه المبللتين بلسانه، متجاهلًا وجودي تمامًا.
كان يقول " رغبت دائمًا في تصميم وبناء مكان يخصني. فالمنازل والحجرات التي يبنيها الآخرون ليست جيدة بالنسبة لي. رغبت أن أكون نفسي وأغوص داخلي. ولهذا حولت كل ثروتي إلي أموال سائلة، ثُمّ أتيت إلي هنا ودفعت لبناء هذه الحجرة وفقًا لمواصفاتي الخاصة.
أحضرت كل هذه الستائر المخملية معي. وأشرفت علي كل تفصيلة في هذه الحجرة. الشيء الوحيد الذي نسيته كان غطاء المصباح. وأرسلت التصميم والحجم لطهران. وصنعوا لي واحدًا، واليوم أحضرته من هناك.
ولهذا السبب كنت مسافرًا، ولولا هذا ما غادرت حجرتي وما حاولت الاختلاط بالناس. وبالنسبة للطعام، فلقد اتخذت اللبن نظامًا غذائيًا. وذلك لأنني أستطيع أن أشربه جالسًا أو مستلقيًا، وبذلك وفرت علي نفسي عناء تجهيز الطعام. كذلك يجب أن أقول إنني أقسمت علي العيش كما أريد إلي أن أتعرض للإفلاس أو أشعر بحاجة للعودة للمجتمع.
وهذه هي الليلة الأولي التي أنام فيها بحجرتي الخاصة. وهكذا شعرت بأنني أكثر محظوظ بالعالم لأنني أشبعت جميع رغباتي. رجل محظوظ!
كم صعبًا أن يتم تخيل مثل ذلك المخلوق. لم يسبق لي تخيل هذه الحالة مطلقًا. ورغم ذلك، ففي هذه اللحظة، أنا رجل محظوظ!"
ومرة أخري ساد السكون. ولاختراق هذا السكون، قلت " الحالة التي تسعي لبلوغها هي حالة الجنين داخل رحم الأم، حيث يستطيع المرء، دون حاجة للصراع أو التملق أو الكفاح، أن يتمدد داخل العضو الدافئ الأحمر، متغذيًا من دم الأم ومستمتعًا بإشباع الرغبات والاحتياجات دون مجهود.
أو ربما تبحث عن ذلك الفردوس المفقود والذي يقبع في لا وعي كل إنسان، ذلك المكان حيث يعيش كل واحد بنفسه ولنفسه. وعندئذ، مجددًا، فربما تطلع إلي الموت بإرادتك"
وكما لو كان لم يتوقع أن يقاطع أي شخص هذه المناقشة الخاصة، رمقني بنظر ساخرة وقال، "ستسافر، ومن الأفضل أن تنام لبعض الوقت!"
التقط المصباح، وصحبني حتي نهاية الرواق، وأشار إلي الحجرة التي وصلنا لها أولًا. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. استنشقت الهواء المنعش وشعرت بأنني قد غادرت بقعة باردة وسقيمة. تلألأت النجوم في السماء. وتساءلت في دهشة عما إذا كنت أتعامل مع رجل يعاني وسواس النظافة أم مع رجل غريب الأطوار.

استيقظت حوالي العاشرة صباح اليوم التالي. ولتوديع مضيفي، توجهت إلي الممر، ومثل كافر يقترب من معبد، طرقت الباب برفق. كان الممر مظلمًا وساكنًا. ودخلت الحجرة خلسةً. كان المصباح مشتعلًا. وكان مضيفي مرتديًا لبيجامته القرنفلية.
كان مستلقيًا في الوضع الجنيني ويداه تغطيان وجهه. اقتربت منه وهززته من كتفيه. كان جامدًا في موضعه. مرعوبًا، غادرت الحجرة وتوجهت إلي محطة الأوتوبيس، فلقد كنت حريصًا علي اللحاق به.
هل أفلس، كما قال؟ أم، لخوفه من الوحدة التي امتدحها في بلاغة، هل رغب، في تلك الليلة الماضية، أن يحظي بصحبة شخص ما؟ أو ربما كان رجلًا محظوظًا رغب في الحفاظ علي حسن حظه، وكان هذا المكان هو حجرته المثالية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.