برحيل الدكتور أحمد كمال أبو المجد «1930-2019» تنطفئ شمعةٌ أخرى فى حياتنا طالما بدّدت ظلمة هذا الدهليز الخانق الطويل بحث عن مخرج يقود إلى فضاء التقاء تراثنا الدينى بقيم الاستنارة والعقلانية. وستفقد مصر حبّة أخرى فى مسبحة قوتها الناعمة، ليس لأن للراحل الكبير تلاميذه ومريديه ممن تأثروا به فكرياً، وهم كُثُر خارج مصر، ولكن لأن مؤسسات عديدة مصرية وعربية تحمل بصماته الأكاديمية والفكرية والقانونية والسياسية. كانت أبرز سمات د. كمال أبو المجد أنه كان على الدوام شخصية توافقية تؤمن بالحوار وتدعو إليه، بل أزعم أن كتابه الأشهر «حوار لا مواجهة» الذى نشرته مجلة العربى الكويتية بتقديم من رئيس تحريرها آنذاك المفكر والأكاديمى المرموق د.محمد الرميحى يصلح منهجاً للتدريب على الحوار وليس للتثقيف فقط بأهميته. ولعلّ من يقرأ هذا الكتاب يشعر بأنه يصف حالنا اليوم بتفصيل ودقة برغم أنه منشور فى نهاية سبعينيات القرن الماضى. يقول الراحل الكبير بالحرف الواحد إن موقف العرب من الدول الكبرى لم يعد موقفاً واحداً، ولم يعد كذلك موقفاً منسقاً توزع فيه الأدوار. وهذا يعنى أن أطرافاً عربية عديدة يمكن أن تستخدم- بوعى أو بغير وعي- فى لعبة السياسة العالمية للدول الكبرى ويمكن بذلك أن «يتفتت» الكيان العربى. كان د.كمال أبو المجد يمثل فى فكره كما فى أدواره السياسية التى اضطلع بها ما يمكن تسميته بالنموذج الثالث التوافقى الخلّاق بين بدائل متاحة وأضداد مفروضة. كتب الكثيرون بمناسبة رحيله كتابات منصفة، لعلّ أبرزها مقالة من أصبح اليوم جديراً بلقب أستاذ الأجيال فى العلوم السياسية د.على الدين هلال فى أهرام الأحد الماضي. هنا أركّز تحديداً على إحدى سماته اللافتة وهى شخصيته التوافقية. لا يعنى هذا كما قد يعتقد البعض أن الراحل العظيم كان رمادى اللون أو ممن يمسكون العصا من المنتصف كما يُقال، بل كان على العكس واضحاً فى رؤيته، شديداً فى انتقاداته ومدافعاً صلداً عن مبادئه، لكنه كان يبدو كمن يستخدم قفازاً من الحرير! كان عابراً للانتماءات الضيقة فى مجتمع يُقيّم أفكار الناس ومواقفهم بحسب تصنيفهم الانطباعى المفترض لا أن يُصنفهم بحسب حقيقة أفكارهم ومواقفهم. كانت لغته متفردة مثيرة للإعجاب. وهو من هذه الناحية صاحب أسلوب يجمع بين التمكن الفقهى الشرعى، ومنهجية القانون الوضعي، والحذق السياسي، ورشاقة اللغة حتى إن كل عبارة تصدر منه تصلح مانشيتا لافتاً ومثيراً فى صحيفة. هو ابن مدرستين وحضارتين ومنهجين. وهو فى كل ذلك يجمع بين تمسك واع بجذوره الحضارية وانفتاح بلا عقد على الحضارة الغربية. لم يكن د. كمال أبو المجد أسيراً للثنائيات الطاردة التى أرهقت العقل العربى وبدّدت جهود العرب فى البحث عن منهج تفكير وخطة عمل تضعهم على طريق التقدم الإنسانى مثلما فعل الصينيون والكوريون والماليزيون ويفعل الهنود اليوم. كان كمال أبو المجد أحد المتمردين الكبار على أكبر آفة فى العقل العربى وهى متلازمة إما وإما وكأن الحقيقة لا تتسع إلا لاختيار بعينه يستبعد بالحتم أى خيارات توافقية أخري. السمة/ الفضيلة التى لازمت شخصية الراحل الكبير كانت تمثل فى الوقت ذاته إشكالية شخصية. فقد كان قادراً بل موهوبا فى أى نقاش فكرى أو سياسى على إدراك مساحات الاتفاق بين الأفكار والطروحات ولو كانت ضئيلة ومحاولة توظيفها والبناء عليها لخلق مساحة جديدة من التوافق. لم يُتح لى أن أتعرف على الراحل الكبير سوى من خلال عضويتى فى المجلس القومى لحقوق الانسان وقت أن كان هو نائباً لرئيس المجلس. ذات رحلة عودة من الخارج جلسنا على مقعدين متجاورين فى الطائرة. دار حديثنا يومذاك عن علاقة المثقف بالسلطة. كان حديثه متدفقاً كالعادة وفى ذاكرته تفيض الحكايات والمواقف. كان السؤال هو لماذا تضيق السلطة فى بلاد العرب بأى مساحة لرأى مثقف مختلف ولو كان صادراً عن أحد أنصارها الذين يؤمنون بأفكار المراجعة والإصلاح من الداخل؟ فاجأنى بقوله: لو أنك تؤيد السلطة بنسبة 99% فستظل فى تصنيفها من الخوارج، وسيبقى هذا القدر الضئيل جداً من الاختلاف مصدراً للارتياب والشك فى ولائك. كان استعداده للنقد الذاتى كبيراً وصادماً أحياناً إلى درجة قوله ذات مرة فى معرض التعليق على ظاهرة التواكل العربى وقصور العرب عن إدراك الصلة بين الأسباب والنتائج «إن الله لم يكن ليكون عادلاً لو أننا بأحوالنا وأفعالنا هذه انتصرنا على إسرائيل». السؤال الجدير بالتأمل بعد هذه المسيرة الحافلة بالعمل والفكر فى حياة د.كمال أبو المجد هو: هل أثمرت شخصيته التوافقية ومنهجه كمبشر وداع للحوار فى جاهليتنا الفكرية والسياسية؟ لا أقصد بالسؤال تأثيره المباشر على المحيطين به ومن عملوا معه ولكنى أقصد تأثيره العام فى المجتمع والمنظومة المؤسسية بمعناها الواسع. أخشى القول إننا لم نحسن الاستفادة منه لأنه كمفكر عابر للانتماءات والأحزاب والدوائر والجماعات والشلل كان محسوباً لدى كل تيار على التيار الآخر. وتلك مأساة أى مفكر عربى مستقل. فهو لم يكن المفكر المفضّل لدى التيار الإسلامى برغم أنه كان الأقرب إلى أفكارهم من كثيرين، بل تعرض للسجن لفترة قصيرة بمظنة انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين ثم سرعان ما ثبت أنها وشاية لكنه لم يكشف لنا أبداً عمن وشّى به! كما أنه لم يكن محسوباً على التيار الليبرالى أو الاشتراكى أو العروبى. ولم يكن أيضاً من رجال دائرة السلطة فى عهد الرئيس السابق حسنى مبارك. كان هذا قدَر كمال أبو المجد حين حسبه كل فريق على الآخر، لكن يقيناً كانت هنا على وجه التحديد قيمته. رحم الله الفقيد الراحل. لمزيد من مقالات د. سليمان عبدالمنعم