صرَّحَ المجلس العسكرى بالسودان بأنه لن يستجيب لطلب المحكمة الجنائية الدولية بتسليم الرئيس المعزول البشير لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم حرب وجرائم إباده فى دارفور. وكانت هذه المحكمة قد أصدرت مذكرتى اعتقال سنة 2009 و2010 تطالب جميع دول العالم، سواء منها الأعضاء بالمحكمة أو غير الأعضاء بها بتسليم البشير إلى المحكمة إذا أتيحت لها هذه الفرصة، وقد طالبت المحكمة بذلك تأسيسًا على قرار من مجلس الامن بإحالة الأحداث الواردة بدارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية سنة 2005. وقد صدر هذا القرار وفقا للباب السابع من ميثاق الأممالمتحدة التى تقضى المادة 41 منه بأن: لمجلس الامن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التى لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأممالمتحدة تطبيق هذه التدابير. ولذا فهو قرار ملزم لجميع الدول وليس مجرد قرار من المحكمة الجنائية الدولية غير ملزم سوى للدول الأعضاء بالمحكمة. وقد كان يتعين تسليم الرئيس المعزول البشير للمحكمة فور توجيه المطالبة باعتقاله عام 2009 للسودان، وذلك بالرغم من رئاسته وقتئذ للسودان، وذلك لأنَّه لا حصانة لرؤساء الدول المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية حتى فى أثناء رئاستهم. وقد سبق أن تم اعتقال رؤساء دول فى أثناء رئاستهم لاتهامهم بارتكاب مثل هذه الجرائم. وإذا كان من العسير من الناحية الفعلية تنفيذ السودان قرار المحكمة تسليم البشير المبنى على قرار مجلس الأمن للمحكمة، فإنه لم يعد هناك ما يسوِّغ عدم استجابة دولة السودان إلى تنفيذ القرار بتسليم البشير، خاصة أن ذلك من شأنه أن يؤدى إلى خضوع هذه الدولة للعقوبات المنصوص عليها بالباب السابع من ميثاق الأممالمتحدة. ومن المستقر أن المحكمة الدولية لا تتصدى للنظر فى جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية أو جريمة إبادة جماعية طالما أن المحاكم الوطنية المختصة بالنظر فى هذه الجرائم قررت النظر فيها. فإذا امتنعت هذه المحاكم عن محاكمة المتهمين بارتكاب الجريمة، أو قامت بإجراء محاكمة صورية أو إصدار حكم غير جدى، كان من حق المحكمة الجنائية الدولية، بل من واجبها، القيام بمحاكمة مرتكب هذه الجريمة. ومن الأمثلة الجديرة بالذكر فى هذا المقام عدم إقدام المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب بيوجوسلافيا السابقة على اتخاذ أى إجراء للقبض على رئيس دولة الصرب الأسبق ميلوسوفيتش انتظارا لأن تحاكمه محاكم دولته بشأن الجرائم ضد الانسانية المرتكبة فى مدن البوسنة، وجريمة الإبادة الجماعية المرتكبة فى مدينة سيربرنيتسا بالبوسنة. غير أن محاكم دولة الصرب اقتصرت على محاكمته على جريمة التهرب من الضرائب، ولم تتعرض لأى من الجرائم الدولية التى ارتكبها. وإزاء هذا التقصير قامت المحكمة بالقبض على الرئيس ميلوسوفيتش ليحاكم أمامها. بيد أنه لا يجوز للسودان أن يطلب عدم محاكمة الرئيس السابق البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية بحجة أن محاكمته هى من اختصاصها. ذلك أن مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتسليم البشير تمت بناء على قرار مجلس الأمن، وليس على مجرد طلب من المحكمة الجنائية، وهو قرار واجب التنفيذ المباشر. ومن الراجح أن حكومة السودان الجديدة قد تُقْدِمُ على محاكمة الرئيس المخلوع أمام المحاكم الوطنية من منطلق تمسكها بسيادتها. غير أنَّه لا يخفى ماقد تحويه محاكمة رئيس دولة معزول خاصة إثر انقلاب أو انتفاضة شعبية من مثالب، ذلك أنّه يتعين أن يتوافر للمحكمة الحيادُ الكامل سواء من حيث تشكيل هيئة المحكمة، أو من حيث المكان، كى تصدر حكما سليما. والأمثلة على ذلك تمتد عبر التاريخ بدءا من محاكمات الثورة الفرنسية التى أراقت دماء عدد غفير من الأبرياء وصولا إلى محاكمة صدام حسين بالعراق أمام محاكمة معادية للنظام كانت تنوى منذ البداية إعدامه. وعلى العكس من ذلك قد تتخاذل المحكمة فى محاكمة رئيس دولتها، مرتكب الجرائم ضد الإنسانية أو جريمة الإبادة الجماعية، عن ارتكابه هذه الجرائم أو تقتصر على محاكمته بشأن جرائم لا صلة لها بالجريمة المرتكبة. والغرض من إنشاء المحاكم الجنائية الدولية هو ملاحقة أصحاب القرار، سواء كان ذلك بارتكاب هذه الجرائم بشكل صريح أو مستتر. لذلك نصَّت كل مواثيق المحاكم الجنائية الدولية على مسئولية الرؤساء والقادة، وذلك سواء كان ارتكاب هذه الجرائم بأمر مباشر من الرئيس أو القائد، أو كان هذا الرئيس أو القائد يعلم بالجرائم التى سترتكب،وكان يمتلك منع وقوعها، ولكنه امتنع عن ذلك. وليس بخافٍ أن المحكمة الجنائية الدولية غير قادرة على ملاحقة كبار مرتكبى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المنتمين لدول كبرى صاحبة حق الفيتو بمجلس الأمن، إذ إن هذا الحق من شأنه أن يحول دون إصدار المجلس أى قرار بمحاكمة أى من رؤسائها أو قادتها بل وجنودها. لذلك فمن المشاهد أن من يتم محاكمتهم عادة هم رؤساء أو قادة بعض الدول النامية وعلى رأسها دول إفريقية. ولا ينبغى إلقاء اللوم على المحكمة الجنائية الدولية فى ذلك، فهى لا تملك القدرة على ملاحقة المسئولين عن هذه الجرائم والمنتمين إلى الدول أصحاب الحق فى الفيتو، بل هى لا تملك ملاحقة مرتكبى الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المنتمين لدولة تحت حماية دولة عظمى كإسرائيل، حيث قرر الرئيس الأمريكى منذ أيام أن: أى محاولة لملاحقة أفراد أمريكيين أو إسرائيليين ستواجه برد سريع وقوى. وهذا التصريح ليس سوى تأكيد للنهج الذى جرت عليه الولاياتالمتحدة للحيلولة دون نظر المحكمة فى الشكاوى العديدة المقدمة من دولة فلسطين إلى المحكمة بشأن الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى التى وصل بعضها إلى أبشع الصور فى بعض الأماكن، وهى جريمة الإبادة الجماعية التى تعد بحق جريمة الجرائم. والواقع أنَّ الرئيس المعزول عمر البشير جدير بدوره بحماية الولاياتالمتحدة له ضد ملاحقة اى قضاء دولى. فهو قد نجح فى تفتيت السودان إعمالا للمخطط الأمريكى الذى لم ينجح الإخوان المسلمون فى تحقيقه بمصر. لمزيد من مقالات ◀ د. فؤاد عبد المنعم رياض