الفتوة «عرابى» هوآخر الفتوات الذين شهدتهم أحياء مصر القديمة الشعبية، وبانتهائه انتهت أسطورة الفتوات الذين كانوا ينشرون سطوتهم على المكان كله، بما يملكونه من قوة العضلات وقوة الذكاء وقوة نظرة العيون، وكما فى الأساطير، لا بد وأن تكون النهاية جليلة، وكما فى التياتروات، لا بد وأن تكون الستارة حادة. ............................................................. كان مجرد منظر الفتوة «عرابى» يثير الرعب فى النفوس، يكفى فقط أن يشاهده الناس قادما حتى يكمن كل واحد فى مكانه لا يبدى حراكا، ويصبح كالتمثال، حتى الطيور كانت تهرب من أمام خطواته. الفتوة فى أحياء مصر الشعبية وحاراتها الضيقة، أوائل القرن الماضى، لم يكن مجرد رجل يمسك بالنبوت لينشر الأمان فى المكان، أويقتطع الأتاوات من التجار والباعة السريحة وعاهرات الحانات، وإنما كان إلى جانب هذا كله، مساهما فى توجيه الأحداث السياسية والاجتماعية فى البلد، حسب مصلحته التى يرتئيها، والذى حدث مع الفتوة «عرابى»، أشهر وآخر فتوات الحسينية، يعطينا دلالة على قدرة الفتوة على تغيير مسارات الأحداث. «سليم بك»، والد المخرج الشهير «كمال سليم» كان مرشحا فى الانتخابات البرلمانية، اختاره زعيم الأمة «سعد باشا زغلول» نظرا لكفاءته السياسية، وقدرته على خدمة أهإلى المنطقة، هذا بالإضافة إلى براعته المشهودة على نشر مباديء الوفد، فى ذلك الوقت كان مرشح الوفد يتمتع بجلال كبير، وكان لا بد وأن ينجح، حتى أن الناس كانت تقول لوان الوفد رشح حجرا لفاز، لدرجة أن الوفد كان لا يرشح غير الأقباط المسيحيين فى مواجهة الأخوان المسلمين، وكانوا يكتسحونهم اكتساحا، لم يكن مرشح الوفد فى حاجة لأن يرفع لافتة فى الشوارع، أويدور على الببوت ليجمع أصوات الناخبين، فأصوات الناخبين محسومة للوفديين. السيد «عبدالحميد البنان» اجتهد كثيرا فى أن يكون هو مرشح الوفد، لكن زعيم الوفد كان له رأى آخر، وبالرغم من أنه ساق عليه كثيرا من أقطاب الوفد لكى يغير رأيه، لكن كل هذه المحاولات قد باءت بالفشل، فجلس فى حديقة قصره فى الحسينية، واضعا يده على خده، لا يدرى ماذا يفعل. الخادم خبط على كتفه، وأخبره أن الفتوة «عرابى» يستأذن فى مقابلته، سأله: ألم ندفع له المعلوم منذ أسبوع؟ أخبره الخادم بأنه سلمه بنفسه الصرة المصرورة، وأضاف: يبدوأن هناك أمرا خطيرا، فهو يلح فى اللقاء. أنزل يده من خده، وقال له: أدخله، لنرى ماذا يريد. لما وقف الفتوة أمامه، سأله بصوت جهورى: لماذا انسحبت من الانتخابات يا سعادة البك؟ أجلسه البك أمامه، وقال له بنبرة حزينة: الأمور السياسية لها مواءمات معقدة، و»سعد باشا» هوالذى يقررها، ونحن لا نملك غير الالتزام بما يقرره. هز الفتوة «عرابى» نبوته، وقال بثقة كبيرة: «سعد باشا» يرى ما يراه، أما أنا فلى رأى آخر، كل ما عليك هوأن تقدم أوراق ترشيحك مستقلا على مبادىء الوفد، ودع الباقى لى. «عبدالحميد بك البنان» يعرف قدرات الفتوة «عرابى»، لكنه يعرف أيضا أن إشارة واحدة من أصبع «سعد باشا» يمكن لها أن تحسم الأمر، لكنه قال فى نفسه: فلنجرب، ونحن فى الأحوال كلها لن نخسر شيئا. وهكذا، قدم «عبدالحميد بك البنان» أوراق ترشيحه مستقلا على مباديء الوفد. «سليم بك» لما رأى اللافتات تملأ حى الحسينية، والناس داخلة لسرايا «البنان» وخارجة منها، جن جنونه، خاصة لما رأى الفتوة «عرابى» يسير مع منافسه فى دورانه على المقاهى والمصاطب، وكان منافسه يؤكد للناخبين أنه ملتزم تماما بكافة مبادىء الوفد. اتجه للمنيرة، حيث بيت الأمة، وحيث الزعيم الجليل، فهو وحده الذى يستطيع أن يضع حدا لهذه المهزلة. «سعد باشا زغلول»، قال له ببساطة: غدا، سأزورك فى الصوان، وأخطب فى الناس، وساعتها، سيعرف الناخبون من أنت ومن منافسك. سرى الخبر فى المنطقة كلها، «سعد باشا زغلول» سيزورنا غدا، فعلقت صور الزعيم على البيوت كلها، وبات الناس ليلتهم على نواصى الحارات فى انتظار الزعيم الجليل، «عبدالحميد بك البنان»، وقع قلبه فى رجليه، فقد زلزلت الأرض زلزالها، فاستدعى الفتوة «عرابى»، وأخذ يضرب كفا بكف، وهويقول: وما العمل؟ بيقين كبير رد عليه الفتوة: أقم أنت أيضا صوانا، أكبر من صوان «سليم بك»، وادع الناخبين، ودع الباقى لى. عندما أقبل الزعيم فى موكبه الكبير، كان الناخبون كلهم يملئون صوان «كمال بك»، فيما صوان «عبدالحميد بك البنان» فارغ تماما، لكن الفتوة «عرابى» ورجاله بنبابيتهم وسحنهم الجادة، كانوا يسدون الشوارع كلها، فلما اقترب الموكب منهم، رفعوا أيديهم للسائقين، فتوقف الموكب، وتقدم الفتوة «عرابى»، مهللا وهويهتف بحياة زعيم الأمة، ورجاله وراءه، كانوا قد تخلوا عن تكشيراتهم التى كانت لصيقة بوجوهم، وابتسموا وهم يردون على معلمهم هتافه، وخرجت الناس من صوان «كمال بك»، لترحب بالزعيم الجليل، وزغردت النسوة فى البلكونات الخشبية، وألقين على الناس حصوات الملح، ومن فرط الحماس، هجم الفتوة ورجاله الأشداء على الأوتوموبيل الذى يجلس فيه الزعيم، وحملوه، وساروا به، يطوفون المكان كله وهم يرددون الهتافات الوفدية، ولما اقتربوا من صوان «عبدالحميد بك البنان» دخلوا بالأوتوموبيل، ودخلت الناس كلهم خلفهم، بمن فيهم «سليم بك» نفسه وأتباعه، أما «عبدالحميد بك البنان»، فقد اعتلى منصة الصوان، وبدأ يرحب بزعيم الوفد وزعيم الأمة وزعيم الدنيا كلها «سعد باشا زغلول»، ودعاه لكى يخطب فى الناس. وهكذا، وقف الزعيم ليلقى خطابه، وليتحدث عن أن الوفد هوالممثل الشرعى للأمة، وهوالوحيد القادر على حل القضية المصرية، ليحقق الاستقلام التام للبلاد، وكانت أكف الناس تشتعل تصفيقا، وكانت حناجرهم تتشرخ هتافا. وفاز «عبدالحميد بك البنان» باكتساح كبير. الفتوة «عرابى» كان يمر فى الليإلى الساهرة على سرايا «عبدالحميد بك البنان»، فيجده جالسا بين أقطاب الوفد، يتحدثون عن استقلال البلاد، وكان يلقى عليه التحية، فيردها بأحسن منها، وكانا يتبادلان نظرات، لها دلالة، يفهمانها وحدهما. الزمن قلاب، والأيام خوّانة، تقلبنا على الجنوب، وتخرج لنا لسانها، الفتوة «عرابى» الذى كان مجرد ذكر اسمه يخيف حيا بأكمله، انتهى أمره إلى أسمال بالية تثير الشفقة، حتى أعداؤه لم يكونوا يتمنون له هذه النهاية. فى عام 1930، مر من أمامه ضابط انجليزى، ويبدوأنه عامله بغطرسة كطبيعة المحتل الغاشم، الفتوة «عرابى» نسى نفسه، ونسى أن معاملة الضابط الانجليزى فى حاجة إلى شىء من الكياسة، هوبطبيعته لا يعرف غير لغة الاشتباك بالأيدى، فهجم عليه، وأشبعه ضربا، حتى كومه فى ركن منزوٍ كالفأر المبلول، وكلما تحرك، كان ينغزه بالنبوت، الناس التمت، وحاولوا تخليصه من بين يديه، هووافق، ولكنه اشترط أن يخلع جميع ملابسه، ويسير فى الشوارع بلبوصا كما ولدته أمه، الضابط الانجليزى بطبيعته جبان، فوافق، وهكذا، مشى بلبوصا، وطلاب المدارس الثانوية يزفونه، والنسوة يزغردن، والأطفال يقذفونه بالطوب، مشى المسافة كلها من حى الحسينية حتى قسم الأزبكية، وهناك أعطاه ضباط القسم ملابس يسترون بها عريه المفضوح. «إسماعيل باشا صدقى» لم يكن رئيسا للحكومة فقط، كان يحتفظ لنفسه بمنصب وزير الداخلية أيضا، حتى تستطيع قبضته الحديدية أن تستكمل استحكامها، بمجرد علمه بالخبر، أصدر قرارا فوريا بالقبض على الفتوة «عرابى»، وجميع رجاله، ثم عقد اجتماعا مع قادة الأتمان البوليسية، وقال قولة واحدة حاسمة: لا بد وأن ينتهى عصر الفتوات إلى الأبد. التجريدة التى اتجهت لحى الحسينية، لم تكن تجريدة عادية للقبض على مجرم خارج على القانون، كانت تجريدة حرب، فاق عددها عدد العساكر التى أرسلها صدقى فى عهده كله، وكان من السهل جدا اصطياد الفتوة العصى الذى أخذ ضربا بوليسيا لم يأخذه كل حرامية الموالد، وعندما خرج من القسم كان حطام إنسان. كانت رجلاه مكسورتين، ويداه ملفوفتين، ورأسه يتدلى من تلقاء نفسه، ومنع من الجلوس مع الزبائن فى المقهى، ومن مخالطة الناس، وأصبح مهددا بالاعتقال فى أى لحظة، وانتهزها الناس فرصة، فراحوا يقدمون فيه الشكاوى الكيدية انتقاما منه بأثر رجعى، وكان مشهد جره لقسم البوليس متكررا، وكان الأطفال يزفونه. فى مقهى أحمد عطية كان «نجيب محفوظ» يجتمع مع الحرافيش كل خميس، لا أحد يعرف لماذا اختار «نجيب محفوظ» هذا المقهى، الحقيقة أنه اختاره لأنه رأى فيه الفتوة «عرابى» أيام انكساره، ليس هذا فحسب، بل إن المقهى نفسه كان مقهاه، وكان اسمه مقهى عرابى، ولأنه انكسر كسرة كبيرة، فقد كان ممنوعا حتى من أن يضع اسمه على مقهاه، فسمّاه باسم واحد من الصنايعية، بعد أن انتهت أسطورته، وانتهى معها عصر الفتوة كله، وكان الفتوة «عرابى» آخر فتوة عرفته القاهرة. على منضدة فى مقهى أحمد عطية، الذن كان اسمه مقهى عرابى، كان «نجيب محفوظ» يخلع طربوشه، ويضعه بجوار براد الشاى الذى بالنعناع، ويشد نفس الشيشة العجمى، وهويسمع من السيد المبجل «عبدربه التائه» حكايات الفتوة «عرابى»، وكان ينظر فى عينى محاوره نظرات تحمل دلالة ما، أكبر الظن أن محاوره لم يكن يعرف أبعادها.