أكدت مأساة نيوزيلندا أن وصف الإسلام بالدموية والمسلمين جميعا بالدواعش هو وصف مجانب للصواب. كما كشفت عن استمرار الفجوة بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والآخر لذا تعود إلى الضوء مرة آخرى حركة الاستشراق التي لعبت بعض مدارسها دورا في التقريب بين الشرق والغرب في محاولة لتقليل تلك الفجوة إلا أن الدارس لتاريخ الاستشراق يمكنه أن يلمح أن حركة الاستشراق الأوروبى والأمريكى هى ظاهرة مُلتبسة فى أذهان كثيرٍ من المثقفين، منذ صدمة لقاء الاستعمار الأوروبى بالبلاد العربية، واستقرار ذلك الاستعمار فى ربوع تلك البلاد أواخر القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين وما بعد ذلك بقليل. ويأتى كتاب «قضية الاستشراق فى العقل العربى» الصادر عن مكتبة الآداب لمؤلفه د. ماجد مصطفى الصعيدي، أستاذ الأدب القديم بكلية الألسن، ليتضمن العديد من القضايا الجديرة بالبحث والدراسة والتى تكشف بجلاء حقيقة العلاقة بين الشرق والغرب أو بين الإسلام والآخر. لقد تأرجح موقفُ العقل العربى من تلك الحركة المعروفة ب «الاستشراق» بين السلب والإيجاب، أو بين الرفض والقبول، حيث صارت العلاقةُ بين الشرق والغرب هى القضية الأهم بين كل القضايا التى انشغل بها الفكر العربى الحديث بعد استيقاظ المصريين على دوى مدافع نابليون بونابرت وجنوده، وغبار سنابك خيله التى (رمحت) فى ربوع المحروسة دون أن يكبح أحدٌ جماحها، وما استتبع ذلك من صدمة الحداثة التى اقتحمت ديارنا مع قدوم الحملة الفرنسية 1798م، التي صاحبها جيشٌ من العلماء والباحثين الذين جاءوا ليدرسوا البيئة المصرية، ويسجلوا كل ما فيها على صفحات الكتاب الاستشراقى الشهير «وصف مصر». وقبل ذلك كان التقاءُ الشرق بالغرب حلما يراود كل الحضارات، أو أضغاث أحلام ، بدءا من محاولات الإسكندرُ الأكبر وغزواته الشرقية، مرورا بالإمبراطوريةُ الرومانية والتى باءت جميعا بالفشل؛ ونتج عن تلك المحاولات الفاشلة سوءُ فهم أو سوء تفاهم. وقد انبرى عددٌ من الباحثين العرب لدراسة حركة الاستشراق الغربى فى العصر الحديث، وبيان دوافعها وأهدافها منذ الحروب الصليبية حتى الآن؛ للوصول إلى نتائج ذات قيمة فى مسار العلاقات والصلات الثقافية بين الشرق والغرب؛ لاستشراف رؤية مستقبلية تُحدد طبيعة العلاقة بين الطرفين، وهل هى علاقةُ صدام أم حوار ؟ فبين دفتى الكتاب موضوع الدراسة تبرز آراء مفكرين كبار أمثال العلامة محمود محمد شاكر الذى أكد فى مقدمة كتابه «المتنبى» والتى تحمل عنوان «رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا» أنه كانت هناك فى مصر والمنطقة العربية - عشية الحملة الفرنسية على مصر- بداياتُ نهضة وليدة تم وأدُها تحت أقدام بونابرت وجنوده، ثم استسلمت المنطقة فكريا لمقولات المستشرقين الذين قولَّبوا الثقافة من منظورهم وفقا لمصالحهم وأطماعهم بعد أن أطبق الإنجليز والفرنسيون والطليان ويهود أوروبا على البلاد العربية. بينما أشار أيضا إلى رأى إدوارد سعيد إلي أن الحاجة إلي نقض النزعة الاستشراقية لم تنته أبدا منذ أن وطئت قدما بونابرت مصر قبل قرنين، وساعدها فى ذلك تزييف الوعى الذى مارسه لحساب الإمبراطورية الفرنسية جوقةٌ إعلامية دعائية أو أخرى من المثقفين المحترفين الذين خانوا رسالتهم كطلاب معرفة، وعلى الجانب الآخر (أى فى العالمين العربى والإسلامى) برزت عقائدُ دينية وقومية مُتعصبة تنفى الآخر الغربى على إطلاقه ومعه جميع أنماط المعارف الحديثة المُستمدة من أصول علمانية عربية، ويستعرض الكتاب أيضا كتاب «المستشرقون» لنجيب العقيقى والذى يعد أضخم موسوعة عربية تؤرخ لحركة الاستشراق فى العصر الحديث، حيث صدرت طبعته الأخيرة فى ثلاثة مجلدات ضخمة، تحدث فيها عن 2167 مستشرقا، كما يستعرض أيضا «موسوعة المستشرقين» للدكتور عبد الرحمن بدوى، والذى يمتاز بروح النقد والتقيم لأشخاص وأعمال المستشرقين سواء بالسلب أو الإيجاب، وغير هؤلاء من المفكرين العرب والغربين، الذين أدلوا بدلائهم فى بئر تلك القضية الشائكة، ليخرجوا لنا ماء غير آسن حول ظاهرة الاستشراق التى كانت ومازالت وستظل قضية الساعة بين الشرق والغرب.