الاستشراق والثقافة العربية بين الأيديولوجيا والانجاز المعرفي.. محور رئيسي ارتكزت حوله مناقشات، المؤتمر الثاني لقسم اللغة العربية بكلية الألسن، جامعة عين شمس، وانتهت أعماله الخميس الماضي، بعد ثلاثة أيام من مناقشات حول محاور فرعية دارت حول المستشرقين ودراسة وتقديم الثقافة العربية، الاستشراق وتطور الدراسات الأكاديمية في الجامعات العربية، نقد الاستشراق وأخيرا الدراسات العربية بين الشرق والغرب. في بداية المؤتمر، أوضحت الدكتورة نجوي عمر، رئيس قسم اللغة العربية ورئيس المؤتمر، أن المؤتمر يناقش علاقة الشرق بالغرب، وهي علاقة وطيدة، وليس من الصحيح وجود عراك، ولكن الصورة الصحيحة هي أننا نريد التعرف علي الوجه الآخر، وكيف ينظر الغرب لنا، ونحن -من جانبنا- نحاول الوصول لصورة ملائمة بين الثقافات العربية وعلاقتها بالآخر، وطالبت د. نجوي بضرورة تنقية أنفسنا من الشوائب والتعصب والعنصرية حتي نصل إلي حوار هادف بين الثقافات. ومن جانبه دافع المستشرق الايطالي د. جوزي سكاتولين عن الاستشراق نافيا اتهامه بالسيطرة علي الثقافة العربية، مشيرا إلي انه لابد أن نميز بين الاستشراق السياسي، والذي يتبع السياسات الأوربية، والاستشراق العلمي وهو ما نعنيه لأنه يفيد العالم، مطالبا بضرورة التعاون في ذلك الأمر حتي تتواصل الحضارات لبناء أفضل مجتمعات، وقال: أنه يتناول في بحثه الشاعر الصوفي عمر بن الفارض، وقد أثبت فيه أن الدراسات الغربية تبذل الكثير من الجهد للوصول إلي معرفة متعمقة لهذا الشاعر المصري، وهذا نموذج في التعاون في مجال العلم بين الشرق والغرب. وعن الوجه المقابل للاستشراق، أوضح د. عزت قرني (آداب عين شمس) ان الاستشراق حركة معرفية، علمية، أو هكذا ظاهرها، موضوعها ثقافتنا السابقة، وأوضاعنا الحديثة، وهو ليس لوجه المعرفة المحضة، كما قد يدعي الغرب، وما قام الاستشراق في الغرب إلا لترشيد اختيارات وتحركات ساسته وجيوشه ومصارفه وشركاته، واختتم د. قرني، أن رفض ثقافة الغرب لايعني عدم الاحاطة التفصيلية بعلومه وبتكنولوجيته، لأن هذا أمر (أدوات) محايدة، تماما كما فعلت أوربا حين أخذت من حضارة المسلمين علومها ومهاراتها وأدواتها، وطرائق انتاجها، ولم تأخذ (ثقافتها) الحميمة أي تصوراتها عن الكون والانسان والحياة. وعن دور أهم المستشرقين المستعربين في روسيا واوكرانيا (أجافانجيل كريمسكي) تحدثت د. مكارم الغمري، لافتة إلي كتابه (تاريخ الأدب العربي الحديث)، وهو أول مرجع في الاستشراق الروسي يتناول بشكل منهجي لتاريخ الأدب العربي في فترة القرن ال 16، وحتي ثمانينيات القرن ال 19، وفيه قدم مادة متسعة عالج من خلالها العديد من القضايا المرتبطة بتاريخ الأدب العربي في الفترة المشار إليها. ولفت د. حامد أبو أحمد إلي أن الاستشراق لم يقتصر علي الجانب التدريسي، بل هناك مستشرقون من كبار الأدباء في العالم أمثال: جوته في ألمانيا، وتولستوي في روسيا، وأن هؤلاء لعبوا دورا كبيرا في التعريف بالثقافة العربية والحضارة الاسلامية - مُعلناً أنه يميل إلي الجانب الايجابي في حركة الاستشراق. وفي محور الاستشراق بين الترجمة والتحقيق قدمت د. فاطمة الصعيدي (آداب حلوان) دراسة حول الشرق مؤلفا والغرب محققا، دراسة في الحوار الحضاري بين السيوطي وسارتين، موضحة أن القراءة في الحوار الحضاري تسعي إلي إظهار ملامح الاتصال والتواصل بين الشرق والغرب، فالشرق ألف السيرة متمثلة في كتاب جلال الدين السيوطي (التحدث بنعمة الله) والغرب التقط هذه السيرة وحققها، وقدم دراسة عن الكتاب متمثلة في تحقيق المستشرقة الانجليزية إليزابيث ماري سارتين. وقدم د. باهر الجوهري (الألسن) ورقة بحثية عن صور مشرقة للاسلام في الثقافة العالمية، واختار المستشرق يوسف فون همر بورجشتال، حيث يراه واحدا من الذين سعوا بأعمالهم ومؤلفاتهم إلي التقريب بين كلا العالمين الشرقي والغربي، بل انه فوق ذلك، سعي إلي جلب الشرق إلي قلب الغرب عن طريق التأليف والترجمة، فألف ما يزيد علي المائة كتاب، لم يترك فرصة فيها إلا وانتهزها لربط مواضيعها بالحقيقة الجلية للعرب والمسلمين، مبرزا قدر التسامح في عقيدتهم، تارة عن طريق ترجمة مواضع من القرآن الكريم، وتارة من السنة المطهرة، وقد كتب مجلدا كاملا عن سيرة سيدنا محمد (صلي الله عليه وسلم). وفي الاستشراق الاسباني قالت د. رشا غانم، أن المستشرق الاسباني آسين بلاثيوس (1871- 1944) كان له دور كبير في التعريف بتراث العرب العظيم في الأندلس وأبان المستشرق الاسباني خوليان ريبيرا (1858 - 1935) أن المسلمين الذين فتحوا الأندلس لم يكونوا كالرومان الذين غزوا أوروبا ببربرية ووحشية ومزقوا أسبانيا شر ممزق، بل جاء العرب لينقذوا إسبانيا من براثن الظلم والطغيان وتعايشوا معهم. وفي محور مسارات الاستشراق والاستغراب، قدمت د. نهلة توفيق (الألسن)، السيرة العلمية للمستشرق الالماني ماكس مايرهوف وتقديمه للتراث العلمي العربي إلي الغرب وقالت عنه: أنه من أبرز المستشرقين في القرن ال 20، الذين أسهموا بشكل كبير في نقل الثقافة بين الغرب والعالم العربي الاسلامي مشيرة إلي أنه لم ينل بعد الاهتمام الكافي به، خاصة مشروعه العلمي العملاق الذي كان يهدف إلي كتابة تاريخ الطب العربي بالرجوع إلي المخطوطات العربية، نفسها، لتعريف الغرب بالمنجزات العلمية للعالم العربي الاسلامي. وفيما يخص الاستشراق الإسرائيلي، كشف د. محمد جلاء إدريس (آداب طنطا) توجيه الاستشراق اليهودي لخدمة الحركة الصهيونية من خلال ورقة علمية أوضح فيها ان ارتباط اليهود بالحركة الاستشراقية في الغرب كان لأهداف دينية وسياسية واقتصادية. ولفت د. إدريس إلي أن أبرز الأمثلة علي ذلك هو ما ذهب إليه أحدهم وهو (شالوم زاوي) بتأويل النصوص القرآنية الكريمة تأويلا صهيونيا، ينتهي إلي أن هذه النصوص القرآنية تقر وتعترف بالأحقية التاريخية لبني اسرائيل في أرض فلسطين، ناهيك عن التأكيد علي قضية الاختيار الإلهي لهم، بل وصل الأمر إلي اعتبار كل مسلم لايقر باختيار اسرائيل، ومنحهم أرض فلسطين ملكا لهم، من الكافرين بالقرآن الخارجين عن الاسلام، ويبرز التوجيه الصهيوني -أيضا- لهذه الدراسات قضية القدس، لاثبات يهوديتها وطمس عروبتها، فضلاعن قضايا صهيونية، قدمت الدراسات الاستشراقية لها الدعم الكافي لنشرها في عملية (غسيل مخ) للقاريء العبري. ومن جانبه شارك د. مجدي يوسف بورقة علمية عن تحرير الثقافة العالمية من هيمنة المعيارية الغربية: الثقافة العربية المعاصرة نموذجا، وفيها طرح سؤالاً »أليست أزمة الدولار عندنا دليلاً علي ذلك الاحتياج الصارخ لما ينتجه الغرب في مقابل مانتقاعس عن انتاجه لاشباع احتياجات غالبية شعوبنا. ان هؤلاء الذين يرفعون راية الانصياع التام للهيمنة الغربية في بلادنا يرون أن في المضي علي نهجه، واللهاث وراءه ما يمكن أن يرفع عنا ما نحن فيه من تخلف، وفي المحور الخاص بالاستشراق في الرواية، قدمت د. نادية جمال الدين (كلية الألسن)، مقاربة بين الثقافات في ابداع الكاتب الاسباني والمستعرب (خوان غويتيصولو)، فأوضحت أنه بدأ اهتمامه بالعالم العربي منذ نهاية السيتنيات ومن أبرز مقالاته: "تاريخ الفتوحات الاسلامية (1982)، (غاية الحروف (1995)، (من الشرق إلي الغرب: مقاربات للعالم الاسلامي (1997)، وفي ممالك الطوائف (1986). فنراه في مقالة بعنوان «الرئيس» يقارب ببراعة بين ما رآه في كبادوكيا بتركيا، وأعمال الفنان الاسباني غاودي، وفي مقال آخر بعنوان "مدينة الأموات" أو القرافة يقارب بين تجربة اقامته في المقابر بالقاهرة وبين قراءاته للقديس الاسباني سان خوان دي لاكروث، وشعراء الصوفية، وهو من خلال مقالاته يحاول البحث عن رؤية جديدة مشتركة لخلق أسمي الحضارات الانسانية من مجموع كل الحضارات. وفي هذا المحور تحدث د. سيد محمد قطب (الألسن)، عن الخطاب النسائي في مصريات الاستشراق، فقدم قراءة لكتاب (كانت ملكة علي مصر) للمستشرقة الانجليزية "لونفرد هولمز"، التي أقامت بمصر منتصف القرن العشرين، وفي كتابها تعالج رؤية نسائية للمرأة المصرية في العصور الفرعونية والبطلمية والعربية الاسلامية، من منظور ثقافي يهمه كيف رأت المثقفة الغربية الشرق. وشارك الدكتور عبدالحميد مدكور (كلية دار العلوم) ببحث تحدث فيه عن العلاقة بين الاستشراق والاستعمار: الحملة الفرنسية علي مصر نموذجا، أوضح فيها أن كتابات أدوارد سعيد قد ألقت الضوء علي الجانب السياسي من أهداف الاستشراق، لافتاً- إدوارد سعيد- إلي أن العلاقة بين الاستشراق والاستعمار لاينبغي أن تكون موضعاً للجدل وكان من أسبابها الارتباط بين النزعات الشخصية، الذاتية والمعارف المستخلصة من العلوم الانسانية. وألمح د. مدكور إلي أن الاستشراق الحديث حمل في طياته معالم الخوف الأوروبي العظيم من الاسلام موضحا أن ما حدث في الحملة الفرنسية علي مصر يؤكد هذه العلاقة بين الجانبين. وفي المحور الخاص بمواقف الاستشراق والمستشرقين، قدم د. سامي سليمان (آداب القاهرة) قراءة في استشراق ادوارد سعيد، قال فيها: كان نشر كتاب الاستشراق (1978) للناقد المفكر إدوارد سعيد (1935/2003) علامة علي بدء مرحلة جديدة في مسارات الاستشراق الأوروبي، وهي مرحلة أتاحت وضع دراسات الاستشراق موضع المساءلة من منظورات علمية تجمع بين تحليل خطابات المستشرقين وبيان الآثار غير المباشرة للأيديولوجيا الظاهرة أو الكامنة في تلك الخطابات، ولكن تلك الوضعية لاتعني أن اطروحات سعيد النظرية ومسالكه التطبيقية يمكن لها أن تنأي عن النظريات النقدية. وأوضح د. سامي سليمان أن تقديمه للكتاب (الاستشراق) كان بوصفه عملا مركزيا سواء في مجاله الأساسي وهو الدراسات الاستشراقية أو في مجال النظرية النقدية في الثقافة الغربية، لأن هذا الكتاب صار لمدة عقود وما يزال أحد ركائز دراسات ما بعد الاستعمار، وأراد د. سليمان من خلال ورقته أن يبين وضعية استشراق إدوارد سعيد في ضوء التطورات المعاصرة في حركة الاستشراق الأوروبي.